
أثار اللقاء الذي جمع يوم الثلاثاء 11 فبراير 2025، بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والعاهل الأردني عبد الله الثاني، موجة عاتية من التعليقات وردود الفعل. أمر مفهوم في ظل السياق الذي أتى فيه اللقاء، والمتّسم بالأفكار الحمقاء التي عبّر عنها الرئيس الأمريكي، والمتمثلة في تهجير سكان غزة، وتخصيصه كلا من مصر والأردن بأمر استقبال هؤلاء المهجّرين.
لكن هذا التفاعل بالغ في استنطاق لغة الجسد، لدرجة مارس معها الكثيرون رياضة إسقاط الطائرة وتقويل اللقاء ما لم يقله. بعض المتفرّجين المعتادين على متابعة مباريات “شامبيونزليغ” وجولات رياضات المصارعة والملاكمة، كانوا ينتظرون مشاهدة اشتباك بدني عنيف بين الرجلين، ناسين أن الأمر يتعلّق برئيسي دولتين، مهما بالغ ترامب في البهرجة الكلامية والتصريحات المتنطّعة.
وعندما نقول دولتين، فإن أي تفاعل دبلوماسي بينهما لابد أن يحتكم إلى معطيات الواقع، والذي يخبرنا بكون الناتج المحلي الإجمالي للأردن يقدّر بحوالي 50 مليار دولار، في مقابل أكثر من 29 تريليون دولار للولايات المتحدة الأمريكية، أي أن الناتج المحلي الأمريكي يساوي تقريبا 600 ألف مرة الناتج الأردني، وبالتالي لا يمكن لرئيس دولة عاقل، أن يفكّر في تقديم “الفرجة” التي يبحث عنها البعض، على حساب مصالح بلاده العليا.
والحقيقة أن ما صدر بالفعل خلال الندوة الصحافية المشتركة بين الملك الأردني والرئيس الأمريكي، لا يبرّر كل هذه الموجة من الجلد التي انخرط فيها البعض في حق الملك عبد الله. هذا الأخير لم يقبل ولم يزكّ الطرح الذي يدفع به هذه الأيام الرئيس الأمريكي، وألقى في المقابل، على حين غرة وبدون سابق إخبار لترامب كما اعترف هذا الأخير نفسه خلال اللقاء، بعرض ينطوي على براعة دبلوماسية في قول “لا” دون اصطدام أحمق، حيث عبّر عن استعداد الأردن لاستقبال ألفي طفل فلسطيني من المرضى والمصابين، من أجل العلاج، في انتظار عرض قال إن مصر ستقدّمه بدورها.
هذا العرض الأردني يقول “لا” التي ينتظر الجميع أن يسمعها ترامب من الدول العربية، لكن بلغة دبلوماسية، مفادها أن الفلسطينيين يمكنهم أن يأتوا إلى بلدان أشقائهم العرب لأغراض مؤقتة مثل العلاج، ثم يعودون إلى أرضهم التي هي فلسطين. ولا يوجد بالتالي أي مبرر لاتهام الأردن، في الوقت الراهن على الأقل، بقبول الصفقة التي يعرضها ترامب للحصول على الدعم والاستثمارات في مقابل المشاركة في التهجير القسري للفلسطينيين.
للأنظمة العربية، من النهر إلى البحر، الكثير من المسؤولية في عملية الإهانة الجماعية التي نتعرض لها، حكاما ومحكومين، على يد الإسرائيليين وحلفائهم الأمريكيين، لكن هذا لا يعني أن نغمض الأعين عن التفاصيل ونتقدّم بشكل جماعي نحو حتفنا. ليس ذلك دفاعا عن أي نظام، سواء في مصر أو في الأردن أو في السعودية أو في المغرب… بل لسبب بسيط، هو أن هذه الأنظمة نفسها هي التي ستكون الخاسر الأكبر في حال نجاح مخططات التركيع والإهانة التي تخرج هذه الأيام إلى العلن.
أما اللذين لم يروا في ما يجري سوى فرصة للقفز في الفراغ واتهام المقاومة الفلسطينية بالمسؤولية عما يجري، فمرفوع عنهم القلم لأسباب عديدة، أبسطها جهلهم بكون مخطط تهجير سكان قطاع غزة ليس جديدا ولا مبتكرا من طرف ترامب، بل هو خطة قديمة ومعروفة ومستهلكة وجرت محاولة تطبيقها مرارا ولم تنجح.
ولا يمكن بأي حال من الأحوال، الانسياق لخطاب ترامب الذي تحدّث في ندوته الصحافية المشتركة مع الملك عبد الله، عن التقتيل والتنكيل الذي يتعرض له فلسطينيو غزة كمبرر لتهجيرهم، دون أن يخبرنا بهوية من يقوم بتقتيلهم والتنكيل بهم، وهل يحق له ممارسة ذلك دون أن يجد من يقول له حتى “نهاك الله”، سواء في وانشنطن، أو من داخل قبيلة “كلهم إسرائيليون”.
ما شاهدته شخصيا في الندوة الصحافية، لم يكن في الحقيقة لقاء بين مسؤولين سياسيين، بل كان الجانب الأمريكي ممثلا بمقاول يحترف التطوير العقاري، والذي ردّ على الصحافيين مرارا أنه خبير في هذا المجال ويعرف ماذا يقصد، وأنه موقن من إمكانية “تسويق” مشروعه الاستثماري هذا، عبر منح الفلسطينيين بيوتا جميلة في قطع أرضية توفرها مصر والأردن، في مقابل استحواذه هو على قطاع غزة… هكذا بكل صفاقة.
تتمثل خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المقترحة لـ”حل” قضية غزة، في تحويلها إلى مشروع عقاري وسياحي، لتصبح “ريفييرا الشرق الأوسط”، مع نقل سكانها إلى مناطق أخرى.
وتتضمن الخطة إعادة بناء غزة بالكامل، بما في ذلك إنشاء مناطق سكنية وتجارية وسياحية حديثة، مع التركيز على استغلال الواجهة البحرية للبحر الأبيض المتوسط لجذب الاستثمارات السياحية.
كما يقترح ترامب استخدام نموذج BOT، حيث تتولى شركات خاصة بناء وتشغيل المشاريع لفترة محددة قبل نقل الملكية إلى السلطات، والتي يزعم ترامب حاليا أنها لم تكون سوى الدولة الأمريكية.
ويهدف هذا النموذج إلى جذب الاستثمارات الخاصة لتطوير البنية التحتية والمشاريع الكبرى في غزة.
وتقدّر تكلفة إعادة الإعمار التي تنتهي بسرقة الأرض هذه، بين 1 إلى 2 تريليون دولار، مع فترة تنفيذ تتراوح بين 5 إلى 10 سنوات. وتفترض الخطة أن يأتي التمويل من مستثمرين دوليين، مع التركيز على جعل غزة مركزا للسياحة والزراعة والتكنولوجيا…
إنها خطة تقوم بالكامل على استراتيجيات التطوير العقاري لحل قضية سياسية معقدة. ورغم أن إعادة إعمار غزة قد تجلب فوائد اقتصادية للبعض، إلا أن التحديات القانونية والأخلاقية، بالإضافة إلى الرفض الدولي والمحلي، تجعل تنفيذ هذه الخطة أمرا شبه مستحيل، ويواجه عقبات جيوسياسية وقانونية واجتماعية تجعلها أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع.