تجويع في غزّة وجوع في مصر

وائل قنديل21 يوليو 2025105 مشاهدة
وائل قنديل

حياتنا كلّها انتظاراتٌ لما يقرّره الكيان الصهيوني. العدو هو الفعل المستمرّ، ونحن الاستجابة لهذا الفعل. استجابة عاجزة كسيحة خرساء لا تخرُج عن همهمات معبّأة في بيانات مضحكة مبكية. إسرائيل تفعل والعرب لا يردون، أجمعوا على الاكتفاء بوضعية المشاهدة، يفتك الموت جوعاً بالشعب الفلسطيني في غزّة، وأقصى ما يقدّمه الأشقاء فقراتٍ من الأسى ركيكة الأداء ومملّة، يصرُخ الرضيع في غزّة، قبل أن يموت جوعاً وعطشاً، يريد بعض الحليب فلا يجد إلا بعض النحيب من 22 شقيقاً عربياً، لديهم جيوش تسدّ عين الشمس، ولدى بعضهم الوفرة والقدرة على الوصول، غير أنهم يستمتعون بادّعاء العجز وقلّة الحيلة.

تبادر إسرائيل بفعل الاعتداء في سورية وفي لبنان، تضرب في الأطراف وفي العمق، وتفرض هيمنتها على الأراضي والأجواء، تنتهك السيادة والتراب الوطني، فلا تكون ثمّة ردّة فعل على الاعتداء إلا بالشكوى الأقرب إلى العتاب، ولا تصرف حيال الانتهاكات إلا بتعريفها بأنها انتهاكات. كذلك تفعل في حدودها مع مصر، تحتلّ معبر رفح وتستولي على محور فيلاديلفي، فتأتي ردّة فعل معاتبٍ أو (بالحدّ الأقصى) منبّه إلى أن ذلك لا يتماشى وروح السلام، الخيار الاستراتيجي المخلّل في صفقات الغاز الطبيعي التي لا تتوقّف، ترتفع وتنخفض كمّياتها ومعدّلات ضخّها تبعاً لحالة الرضا الصهيوني عن الموقف العاجز في القاهرة.

هذه المرّة، لا يكفي أن يقال إن إسرائيل تمنع إدخال المساعدات. أنتم لستم أطفالاً تنتظرون الإذن من كيان مجرم بأحكام القانون الدولي لكي تنقذوا شعباً شقيقاً من الهلاك، كما لا يصحّ التحجّج بأن الصهيوني سوف يقصف الشاحنات إذا عبرت من حدود مصر إلى غزّة، التي يربطها بها معبر رفح البرّي، الواقع تحت السيادة المصرية الفلسطينية المشتركة. عارٌ أن يكون الردّ أن الاحتلال سيضربني إن أدّيت واجبي القومي والإنساني، معيبٌ أن يكون أقصى ما تقدّمه القاهرة الهتاف في مناسباتٍ مبتذلةٍ “لا للتهجير”. الفلسطيني لا يطلب التهجير، ولا يقبل به، ويصمُد، فمن أراد دعم صموده فليذهب إليه بما يحمي الصغار من الهلاك جوعاً وعطشاً، وما يحول دون موت الكبار قهراً وذلاً وبكاءً على أطفال يموتون أمامه.

لا شيء يمكن أن يبرّر التهرّب من استحقاقاتٍ مفروضةٍ بحكم التاريخ والجغرافيا والقيم الإنسانية، وحتى من مقتضيات الأمن القومي، لا شيء يجعل السكوت بحجّة العجز مقبولاً، لا شيء يمكن أن يجعل الهوان منتهى الحكمة.

غير معقول أو مقبول أن يستقيل الجميع من الهُويَّة والدور، لتصبح غزّة وحدها منطقة الفعل العربي، أو قل إنها البقعة الوحيدة التي تواجه الاعتداء الإسرائيلي بفعل مقاوم رافض للانحناء، فيكون العقاب تجويع الشعب حتى الموت. وهنا لا تصبح الجريمة معلّقةً في رقبة الاحتلال فقط، بل قبل ذلك في رقبة الشقيق والجار، في الجانب الذي يمتلك المفتاح الوحيد للدخول والوصول والإنقاذ، غير أن المفتاح صار لا يعمل بعد أن تآكل أو جرفته شحنات الغاز، فضاع، أو ألقاه حامله في غيابة الجبّ وجلس يتفرّج على الفعل الصهيوني، يشكوه ويهجوه، غير أن الأيام أثبتت أنه أيضاً يرجوه كما يرجوه أشقّاء آخرين يستعجلون اللحظة التي تلقي فيها غزّة بسلاحها، ويتخلّص العالم العربي من صداع المقاومة.

تجويع قطاع غزّة حتى الموت يستدعي إلى الذهن ما يتسرّب ممّا يجري في قطاع السجون المصرية، تحديداً قطاع بدر 2، حيث قرّر أكثر من ثلاثين سجيناً اللجوء إلى سلاح الجوع مضربين عن الطعام، بعد أكثر من عشر سنوات في ظلم السجن وظلامه، من دون أن يروا الشمس، أو يراهم أحد من عائلاتهم، وهم وزراء سابقون وسفراء وأكاديميون ودعاة، منهم من دفعته فظاعة التنكيل والقهر إلى محاولة الانتحار.

بحسب تقارير حقوقية، صارت عذابات قطاع السجن أقرب إلى عذابات قطاع غزّة، إذ يتساقط السجناء المضربون بفعل غيبوبة سكّر، فتكون ردّة الفعل اختطاف سلطات السجن بعضهم تباعاً، واقتيادهم عنوةً إلى المركز الطبّي الملحق بالسجن لإجبارهم على كسر إضرابهم عن الطعام بعد تقييد وثاقهم لشلّ حركتهم.

ثلاثة من السجناء، وفقاً لتقارير منشورة، رُبطوا في أسرّة العلاج بالمركز الطبّي داخل السجن، وهم رضا أبو الغيط، وأستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة، عبد الله شحاتة، والخبير السابق في البنك الدولي، وحسن البرنس محافظ الإسكندرية السابق، يعطون حقن مورفين مخدّرة كلّ ثماني ساعات لضمان السيطرة عليهم وإرغامهم على تناول المحاليل.

من هؤلاء من كان يلبّي نداء غزّة، فيذهب إلى أهلها لكسر الحصار، مثل محمد البلتاجي، النائب البرلماني والطبيب المعروف، الذي أدخله الإضراب عن الطعام مرحلةً حرجةً، نُقل في أثرها إلى العلاج ثلاث مرّات. وانضمّ إلى قائمة المشاركين في معركة الأمعاء الخاوية طلباً للحرية وللعدل، السفير محمد رفاعة الطهطاوي، وذلك منذ أكثر من عشرة أيام، ليصل عدد المشاركين إلى 35، من بين 58 سجيناً يقبعون في أوضاع بالغة القسوة، تفرضها السلطات لإجبارهم على فكّ الإضراب، إذ تُغلق مجاري السجن، وتقطع المياه فترات طويلة، ما يؤدّي إلى تكاثر البعوض في الزنازين، وكأنهم يعيشون طرفاً من مأساة غزّة، وكأن قراراً قد اتُّخذ بتركهم للفناء، أو هو نوع من الإبادة الناعمة لكلّ ما يناقض واقعاً غارقاً في كلّ أشكال التواطؤ.

لا يمكن التغطية على قبح هذا الواقع بأفلام شديدة الركاكة عن مخطّطات ومؤامرات خارجية تستهدف زعزعة أمن الوطن واستقراره. المؤامرة الحقيقية هي تصحير الأوطان إنسانياً وسياسياً، من خلال عمليات “ترانسفير” لا تتوقّف، تقذف بثروتها البشرية إلى عتمة الزنازين، وظلام القبر، ثمّ إطلاق الغربان تنعق ضدّ مفهوم الدولة العصرية الديمقراطية العادلة، وتتخفّى في هيئة يمامات عمياء، تعلن أن الرئيس قبل الوطن، أو أن الوطن قد تجسّد في شخص فخامته.


وائل قنديل | صحافي وكاتب مصري
اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل