
ليس معلوماً حتى هذه اللحظة مصير الأسرى الفلسطينيين المحرّرين من سجون الاحتلال، والمقرّر إبعادهم خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة بموجب صفقة التبادل أخيراً، باستثناء 15 أسيراً تأكّد وصولهم إلى تركيا التي وافقت على استضافة المقدسيين من الأسرى فقط.
ما تبقى من 88 أسيراً نُقلوا إلى القاهرة لم تتحدّد وجهتهم بعد، إذ تتضارب الأنباء بشأنهم، بين تصريح بأن منهم من سيبقى في مصر، فيما يتوجّه آخرون إلى قطر، وبين معلومات أن دولاً عربية رفضت بشكل قاطع استقبالهم، في وقتٍ ألمحت فيه دول أخرى (عربية أيضاً) إلى الاستعداد لاستقبال عدد منهم، شرط ألا يُعلَن ذلك، بحسب ما تحدّثت به مصادر قيادية في حركة حماس إلى “العربي الجديد” حيث اشترطت دول وافقت على استضافة أسرى فلسطينيين عدم الإعلان في الوقت الحالي نتيجة ظروف سياسية وأمنية لديها. قالت المصادر نفسها إن الدول التي وافقت على استضافة المبعدين هي مصر وتركيا وباكستان وقطر وماليزيا، فقط.
يلفت النظر في أسماء الدول التي وافقت أنها لا تشمل لبنان وتونس وسورية والأردن، وهي الدول التي ارتبط اسمها عبر تاريخ الصراع الذي كان يسمّى “الصراع العربي الصهيوني” باحتضان قيادات المقاومة الفلسطينية من أيّام منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، التي أُبعدت من الأردن إلى لبنان في 1969 قبل أن تضطر إلى مغادرة الأراضي اللبنانية بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان بغية إنهاء وجود المقاومة الفلسطينية فيه، ومحاصرته المخيّمات الفلسطينية، ليشهد الأسبوع الأخير من أغسطس/آب 1982 خروج القيادات الفلسطينية من بيروت إلى تونس بورقيبة التي فتحت ذراعيها لهم.
هذه المرّة، وكما تسرّب من معلومات، فإن تونس قيس سعيد رفضت استقبال أيّ من الأسرى رفضاً قاطعاً، فيما لم يُبد لبنان أيّ ترحيب باستقبال أحد من الأسرى المبعدين، في سلوكٍ غريبٍ على مقتضى الجغرافيا، واستحقاق التاريخ، إذ كان لبنان طوال الوقت هو الحاضنة الطبيعية للوجود الفلسطيني، المقاوم وغير المقاوم، من دون أن يتخلّى عن هذا الدور إلا اضطراراً، كما في حالة حركة فتح والمنظمة عام 1982. ثم في حالة قيادات حركتي حماس والجهاد الإسلامي بعد عشر سنوات، حين قرّر الاحتلال الصهيوني في 17 ديسمبر/ كانون الأول 1992، إبعاد 415 من قادة الحركتين إلى بلدة مرج الزهور بمحافظة النبطية في الجنوب اللبناني، وذلك عقب نجاح كتائب الشهيد عز الدين القسّام في أسر الجندي الصهيوني نسيم توليدانو، في الذكرى السنوية السادسة لانطلاق “حماس”.
في ذلك الوقت، لم يخضع العرب لمبدأ الإبعاد، لا قيادات فصائل المقاومة وأعضاؤها غادروا موقعهم على مقربة من حدود فلسطين، حيث اختاروا اسم “العودة” إلى مخيّمهم، ولا النظام الرسمي العربي رضخ للقرار الصهيوني، فكان نضال دبلوماسي في المحافل الدولية أسفر عن قرار من مجلس الأمن بعدم شرعية إبعادهم، كذلك انسحب العرب من مؤتمر مدريد للسلام، فيما هرعت وسائل الإعلام العربية والدولية تنقل فعاليات كفاحهم من أجل العودة، حتى رضخ الاحتلال في النهاية، وعاد المبعدون إلى فلسطين.
كان ذلك قبل 37 عامًا في زمن عربي مختلف، كانوا يعيّرون أنفسهم بخذلان فلسطين، ويتسابقون على من الأكثر تظاهراً بأنه الأحرص على دعم نضال الشعب الفلسطيني، حتى وإن كان بعضهم في الغرف المغلقة يطعن هذا الشعب وقضيته. أمّا الآن، فقد صار معيار الحكمة وطريق النجاة إعلان البراءة من أيّة علاقة بمقاومة الاحتلال، وبات الإبعاد من الوطن بوساطة عربية، وصار رئيس منظمة التحرير الفلسطينية المحرّض على من يحارب من أجل التحرير، فمنطقي هنا ألا يسمع أحد صوتاً لمحمود عباس، المُسمّى رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، في معضلة استضافة الأسرى المحرّرين، سواء المنتمون إلى فصائل المقاومة التي يكرهها، حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية، أو المنتسبون إلى حركة فتح التي يرأسها.
والحال كذلك من الواجب أن نسأل: من هو الأسير؟ أهو الفلسطيني المقاوم المناضل الذي أُبعِد عن وطنه بموجب صفقة الوسطاء، أم هم أشقاؤه العرب، المسجونون في خوفهم وعجزهم وانتهازيتهم، والمقيّدون في أغلال عبودية الأدوار المرسومة لهم من العدو، ومن راعيه الأميركي الذي لا يخفي وقاحته إلى الحدّ الذي يعلن معه أنّ “مساحة إسرائيل صغيرة جدًا ويفكر كيف تصير أكبر” ثم يجد من العرب من يعتبره صانع السلام.