إنَّها الهزائمُ المكبوتة

أدهم شرقاويمنذ 4 ساعات
أدهم شرقاوي

قالَ أعرابيٌّ لابنِه وهو يوصيه: اِجعلْ لكَ في كُلِّ بلدٍ بيتاً!

‏فنظرَ الابنُ إلى أبيه بدهشةٍ، وسأله باستغرابٍ: ومن أين لي كلَّ هذا المال؟!

‏فقالَ له أبوه: إنّما عنيتُ أن تجعلَ في كُلِّ بلدٍ صديقاً!

‏لي في «أربيل» بيتٌ، وصديقٌ «كُرديٌّ» اسمه «فرهنك» كلُّ ما فيه وسيم، وجهه، وقلبه، وخُلقه، ودينه!

‏شاركتُ مرّةً في مؤتمرٍ للشِّعر في اسطنبول، وجاء من أربيل ليراني، وتفاجأ عند وصوله أنّ المؤتمر كان في مسرح الجامعة التي درسَ فيها في إسطنبول! وبينما نحن جالِسَيْن مرّةً في «كافيتريا» الجامعة نشربُ القهوة في إحدى فترات استراحة المؤتمر، قال لي: حدثَ معي هنا موقفٌ لا أنساه ما حييتُ! كانت الغربة موحشة في بدايتها، أول مرّة أترك أهلي، وحيد لا أعرفُ أحداً هنا، ولا أفهم اللغة التّركية! مضى الشّهرُ الأوّل لي هنا بطلوع الرُّوح، اليوم كالسّنة، ثقيل ولا يمضي! لا أنا أشكو لأهلي كي لا أُثقلهم، ولا أنا أُفضفضُ لأرتاح! إلى أن وقفتُ يوماً في طابور الطلاب لأشتري، وعندما حان دوري أردتُ أن أطلب من البائع أن يُضيف لي حليباً إلى الشاي، فلم أعرف معنى كلمة حليب! وعلى استعجال من كان ورائي لي، وحثّ البائع عليَّ لأُسرع، انفجرتُ بالبكاء كصبيٍّ صغير! فجعلَ الجميعُ يواسونني بكلماتٍ لا أفهمُ منها شيئاً، وإنما أعرفها من تعاطف ملامح الوجوه!

‏ما حدثَ مع «فرهنك» لم يكن قصة حليبٍ يُضاف إلى الشّاي، ببساطة إنها الهزائم المكبوتة، والدُّموع التي يُمسكها المرء بقوّة كي لا تنفلتَ في المواقف الكبيرة، فإذا بها تنفلتُ لأصغر الأسباب! أحياناً ينهارُ الإنسانُ ليس لأنه ضعيف، بل لأنه كان قوياً أكثر مما يجب!

‏تمرُّ بنا لحظاتٌ نستطيعُ فيها أن نحمل جبال الدُّنيا، ثم تمرُّ بنا لحظاتٌ أخرى نعجزُ فيها أن نحملَ حجراً واحداً! وتمرُّ بنا لحظاتٌ لا تهُزُّنا فيها عواصف الدُّنيا مهما كانت هوجاء، ثم تمرُّ بنا لحظاتٌ أخرى تطرحُنا فيها نسمة! نحن لا ننهارُ مرّةً واحدة ولكنها التّراكمات، والهزائم المكبوتة، والضّربات التي تلقيناها دون أن يُسمعَ لنا أنين!

‏الأشجارُ الضخمة لا تسقطُ من ضربة فأسٍ واحدة، ولكن هناك ضربة أخيرة ستجعلها تسقطُ دفعةً واحدة! هذه الضربة ليست بالضرورة أقوى من سابقاتها، ولكن ما عاد فيها قدرة على الاحتمال! وهكذا نحن، لا ننهار عند الضربة الأقوى، نحن ننهار بفعل كل تلك الضربات التي تجلَّدنا ونحن نتلقّاها!

‏إنَّ صُراخاً مجنوناً يصدرُ من أحدنا في لحظةٍ ما، هو في الحقيقة كل تلك الصّرخات التي فات أوان صراخها! وإنّ مأتماً نُقيمه عند خذلانٍ صغير، هو في حقيقته كل تلك الجنائز التي حملناها بصمت! إنَّ الكأس لا تفيضُ من قطرة، ولكنها عند تلك القطرة كانت ممتلئةً حتى الشَّفة!

‏في الحقيقة لا أعرفُ بما أنصحكم، هل أقول لكم أعطُوا كل حزنٍ، وكل خيبةٍ، وكل جرحٍ حقّه في وقته؟ أم أقول لكم: تجلَّدوا واصبرُوا ما استطعتم؟! لا أعرفُ طريقةً مُثلى، كل ما أعرفه أن الخيبات المكبوتة أشبه بالدُّمل المملوء قيحاً، سينفجرُ عند أول رأسِ دبُّوسٍ يمسّه!


أدهم شرقاوي | كاتب فلسطيني
اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل