في الوقت الذي ننشغل فيه بسجالات عقيمة حول تصريحات حقوقي لم يقل سوى ما كانت تردّده الدولة قبل عقود، وترسل من يخالفه إلى السجن؛ أو حول شريط مصوّر اختار صاحبه أن يعرضه عبر منصة يوتيوب، أي أنه شأن ترفيهي خاص… ترتسم على وجه مؤسساتنا السياسية واحدة من أكثر الصور الماسخة جلبا للعار والخزي، حين يعتلي مستثمر ورجل أعمال منصة البرلمان ليدافع عن شركاته التي نالت صفقة ستعمّر ثلاثين عاما لتحلية مياه المحيط الأطلسي.
مهما حاولنا ادعاء تجاهل ما يجري أو التقليل من أهميته، نحن أمام مشهد ستموت بسببه الأجيال المقبلة ضحكا (يشبه البكاء) وستلعننا ألف مرة كلما صادفته.
مشهد أقوى من الكاريكاتور وأعقد من الفنين التجريدي والتكعيبي، وأكثر إيلاما من كسر العظام دون تخدير، بما أن هذا المستثمر حاز جميع السلطات التنفيذية التي يتطلّبها إسناد مثل هذه الصفقة، من رئاسته للإدارة التي أشرف على إعداد الصفقة ونشر طلب العروض، وصولا إلا رئاسته اللجنة الوطنية للاستثمار، التي تعطي الضوء الأخضر النهائي لإنجاز المشاريع الكبرى من هذا النوع.
أمس الاثنين 16 دجنبر 2024، ظهر رئيس الحكومة عزيز أخنوش أمام البرلمان هذه المرة ليس فقط كرجل سياسة يخضع للمساءلة، بل كمدافع عن إمبراطورية اقتصادية تعود له، محاولا التوفيق بين موقعه كصاحب سلطة سياسية وكفاعل اقتصادي مستفيد من صفقة تحلية مياه البحر الضخمة بالدار البيضاء.
فعندما يصبح رئيس الحكومة مشاركا رئيسيا في صفقة تديرها حكومته نفسها، فإن الحديث عن الشفافية يبدو أقرب إلى التهكم منه إلى الواقع. فالصفقة التي فازت بها شركتا “أفريقيا غاز” و”غرين أوف أفريكا”، المملوكتان له، تطرح تساؤلات عميقة حول استقلالية العملية ونزاهتها.
كيف يمكن لرئيس حكومة، مسؤول عن توجيه السياسة العامة وتنظيم العقود الكبرى، أن يكون طرفا منافسا في صفقة بمثل هذا الحجم؟ أليست هذه المعادلة ضربا صارخا لكل مبادئ الفصل بين المصالح العامة والخاصة؟
حين يتحدث أخنوش عن “مشروع مهم وخطر”، فإنه يُسقط بذلك النقاش عن جوهر القضية: استخدام السلطة لخدمة المصالح الخاصة. فالمغرب يواجه أزمة مائية حادة، والحاجة إلى مشاريع تحلية المياه ليست رفاهية، بل ضرورة حيوية لاستدامة الحياة. لكن تحويل هذه الضرورة إلى فرصة اقتصادية تخدم نخبا بعينها يعيد إلى الأذهان السؤال الجوهري: هل السلطة في المغرب وسيلة لحل مشاكل المواطنين أم منصة لتعظيم الأرباح؟
الأرقام لا تكذب، لكنها أيضا لا تكفي لتبرير السلوك.
يشير أخنوش إلى أن العرض المقدم كان الأفضل من حيث التكلفة والجودة، بينما تؤكد تحقيقات إعلامية، كتحقيق الزميلة “الصحيفة”، أن الصفقة شابها غموض وظروف غير طبيعية قدّمت أفضلية لتحالفه مع الشركة الإسبانية “أكسيونا”. ولم يصدر يوما عن الحكومة ما يفسّر تأخير موعد فتح الأظرفة الخاصة بهذه الصفقة من 10 إلى 24 يونيو 2022.
يبرز أخنوش ملامح التحدي والتعالي والتهديد أمام أعضاء البرلمان وهو يذكّر في كل مرة كيف تأخرت مشاريع إنجاز البنيات التحتية الخاصة بتوفير الماء إلى أن جاءت حكومته. لا يدرك الرجل أنه يقدّم حجة إضافية ضدّه، بما أن المستجد الرئيس في موضوع صفقة محطة تحلية المياه للدار البيضاء هو تشكيل شركاته الخاصة تحالفا بات أوفر حظا للفوز بها.
ثم ألم يكن أخنوش ووزراء حزبه الحالي (لأنه كان دون حزب في الحقيقة)، يتحكّمون في قطاعات المالية والفلاحة والصناعة… وبالتالي كانت لهم الكلمة العليا في إنجاز المشاريع من عدمها، واستنزاف المياه الجوفية وتصديرها من بقائها؟
حتى الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها التي توصلت ببلاغ رسمي من أحد مكونات المعارضة البرلمانية، كي تنظر في هذه الصفقة وتتحقق من احترامها شروط النزاهة، باتت منذ ذلك الحين موضوع مقاطعة من جانب رئيس الحكومة واستهداف عبر تصريحات وزرائه وتقليص للميزانية من طرف برلمانييه.
سواء شئنا أم أبينا، فإن لغة أخنوش في البرلمان لم تكن مجرد دفاع عن صفقة، بل حملة شخصية للتصدي لأي انتقاد. حين يخاطب برلمانية بلهجة تهديد قائلاً: “يوما ما سأتحدث للتاريخ”، ليُظهر جانبا من الاستعلاء الذي يسيء للمشهد السياسي.
قضية صفقة محطة تحلية المياه ليست حدثا عابرا، بل تمثل اختبارا حقيقيا لنظام الحكم في المغرب وتهديدا مباشرا لمقومات الاستقرار والثقة في المؤسسات. وإذا كنّا اليوم نداري خيبتنا وعجزنا بتجاهل ما يُفعل بنا من أفاعيل مخزية، فإن التاريخ يعلّمنا أن “الحسابة بتحسب” وهناك يوم سيخرج فيه من يحاسبنا جميعا، فاعلين ومتواطئين وصامتين، عما يجري.
رئيس الحكومة ليس موظفا بسيطا، بل هو مؤسسة تجسّد أهم مستجدات دستور 2011 الذي كان نتيجة لحراك 20 فبراير وخطاب 9 مارس، ويفترض فيه أن يكون رمزا للأمانة والنزاهة.
أي أننا أمام تلاعب بواحدة من أهم ركائز العقد الاجتماعي المبرم بمبادرة وإشراف ملكيين لتجنّب مآلات الجوارين العربي والإفريقي المأساوية.
وعندما يتجاهل الشخص الذي يشغل هذا المنصب التزامات الأخلاق والشفافية في إدارة شؤون الدولة، فإنه يقوض ثقة المواطنين في المؤسسات، ويعمق شعورهم بالغربة عن النظام السياسي.
يتحدّث المدافعون عن الصفقة عن تخفيض تكلفة المتر المكعب إلى 4.8 دراهم مقارنة بمشاريع أخرى تصل إلى 10 دراهم.
وأنا أغادر بيتي صباح اليوم، معتزما الكتابة عن هذا الموضوع، راجعت فاتورة استهلاك أسرتي للماء والكهرباء في الشهر الماضي، فوجدت أن سعر المتر المكعب الواحد هو 2.5 درهم في الشطر الأول.
وبما أن السيد أخنوش قال بنبرة من يقدّم حجة دامغة إن مشاريع تحلية مياه البحر لن تحصل على دعم عمومي، فهذا معناه أن المواطن مقبل على تضاعف سعر الماء الشروب، مع مطالبته بإبداء الشكر والامتنان تجاه من “غامر” بملاييره لإنشاء محطة لتحلية مياه البحر، لم نكن لنحتاج إليها لو كان تدبير مخطط “المغرب الأخضر” يفكّر في المواطن المغربي أكثر من تفكيره في “مول الشكارة” والمستهلك الأوربي.
الحاصول.. أخنوش يقول لنا جميعا: اشربوا البحر!