كما كان الحال عقب تنفيذ المقاومة الفلسطينية عملية سابع أكتوبر الناجحة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وأثار حينها الجدل بمقاله الشهير “كلنا إسرائيليون”، عاد الناشر المغربي أحمد الشرعي ليسرق الأضواء هذا الأسبوع بنشره مقالا مستفزا في صحيفة إسرائيلية، يدافع فيه عن رئيس الوزراء الإسرائيلي وشركائه في جرائم الحرب، ضدا في قرار المحكمة الجنائية الدولية التي أقنعها أخيرا جبل الأشلاء والجماجم الفلسطينية بتحريك المتابعة ضد المسؤولين المباشرين عن الجريمة.
النقاش القوي الذي أثاره مقال أحمد الشرعي الجديد، والمنشور في صحيفة “تايمز أوف إسرائيل”، يعني أن القضية تتجاوز مجرد تعبير عن رأي فردي. فهذا الحدث يضعنا أمام أسئلة جوهرية حول الثوابت الوطنية، وحدود التعبير عن الرأي، ودور الشخصيات العامة التي تمثل، عن قصد أو غير قصد، صورة البلاد في الداخل والخارج.
وإذا كان المغرب قد نجح تاريخيا في تقديم نفسه كدولة متماسكة ذات هوية متعددة الأبعاد، فإن مثل هذه المواقف تضعه أمام تحديات تتعلق بتماسكه الداخلي ومصداقية مواقفه المعلنة دوليا.
وحتى لا نضيع الوقت في نقاش عبثي، فإن الأمر لا يتعلّق، في حالة أحمد الشرعي، بمواطن يعبّر، أو فرد يكتب، ولا حتى صحافي نشيط ونافذ.
الأمر يتعلّق هنا بشخصية معروفة باشتغالها من داخل أجهزة وأدوات عمل الدولة. لا نعرف له صفة رسمية أو علنية هذا صحيح، لكن لا يمكننا أن نغمض أعيننا تجاه كل هذا الكم المتوفر من المعلومات والمعطيات حول الأدوار الرسمية التي تقوم بها هذه الشخصية، وقد تكون مفيدة وضرورية، لا أحد يعلم الخفايا، لكن الأساسي عندنا في هذا السياق هو أننا لا نتحدّث عن فرد يمارس مواطنته وحرياته الشخصية.
وحتى لا نضطر للعودة إلى بعض الأحداث والوقائع، دعوني أقتصر على ذاكرتي وتجربتي الشخصية، في أواخر يناير 2017، حين كنت المغربي الأول، وربما الوحيد، الذي وطئت قدمه مقر منظمة الاتحاد الافريقي قبيل القمة التي استعاد فيها المغرب مقعده داخل هذه المنظمة.
في اليوم الذي بدأت فيه طلائع الوفد الرسمي المغربي تصل إلى مكان انعقاد القمة، وأتذكّر جيدا مشاهد دخول وزير الخارجية المغربي، صلاح الدين مزوار، ومرافقيه، وجولتهم التائهة حينها بين أروقة البناية، لعدم معرفتهم المسبقة بها…
في هذا السياق كان السيد أحمد الشرعي من بين أوائل الملتحقين، وكان برفقة شخصية “سيادية”، ولم يكن يحمل شارة الصحافة كمثل تلك التي كانت تخوّلني الدخول من بوابة البناية. أقول هذا ليس لأنه نقيصة أو عيب، بل كي نستبعد دون كثير “تحكار” مسألة المواطن والصحافي الذي يعبّر عن رأي شخصي.
ففي عالم السياسة والإعلام، ليس كل رأي يعبر عن صاحبه فقط. وعندما يكون صاحب الرأي شخصية بحجم أحمد الشرعي، الذي يدير مجموعة إعلامية كبيرة ويمثل، بشكل أو بآخر، امتدادا غير رسمي لصورة الدولة المغربية في الخارج، فإن ما يقوله يتجاوز حدود حرية التعبير الفردي.
المعني بالجدل الحالي ليس مجرد ناشر، بل هو شخصية لها امتداداتها في مراكز القرار ودوائر التأثير، ما يجعل كلماته تُقرأ دوليًا باعتبارها مؤشرًا، إن لم يكن على موقف رسمي، فعلى الأقل على توجه موجود داخل الدولة.
وعندما يدافع الشرعي عن شخصية مثل بنيامين نتنياهو، المتهم بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية، فإن ذلك لا ينعكس فقط على صورته الشخصية، بل يطرح تساؤلات حول الموقف المغربي تجاه قضايا مركزية مثل القضية الفلسطينية.
لطالما التزمت الدولة المغربية، بقيادة الملك محمد السادس رئيس لجنة القدس، بمواقف واضحة تدعم الحق الفلسطيني وترفض جرائم الاحتلال. في هذا الإطار، يصبح مقال الشرعي متناقضا مع الخطاب الوطني ومع ما يترتب عليه من مسؤوليات تجاه القضية الفلسطينية.
وأول ما يجب الانتباه إليه ونحن نخوض نقاشا داخليا، هو تداعياته المحتملة على التماسك والاستقرار الداخليين. ومن هنا ينبع التساؤل حول سياق المقال الجديد، والذي أتى متزامنا مع حالة من التوتر الإقليمي والدولي، ما يجعل أي انقسام داخلي يشكل خطرا أكبر من مجرد جدل إعلامي عابر.
فالمغرب اليوم يواجه تحديات عديدة، منها القضية الوطنية المرتبطة بالصحراء المغربية، إضافة إلى تحديات إقليمية ودولية تستلزم تكاتف جميع أطياف المجتمع. ومن هنا تبدأ شرعية التنبيه إلى ضرورة تجنّب كل فعل يمكن أن يضرّ بالجبهة الوطنية الداخلية، سواء كان فعلا أو ردة فعل.
في مثل هذا السياق، تتحول الخلافات حول بعض القضايا الحساسة، إلى أدوات تُستغل ضد اللحمة الوطنية، سواء من قبل خصوم المملكة أو من جهات داخلية تسعى إلى تصفية حسابات سياسية ضيقة. وبالتالي، فإن السجال الذي اندلع بين حزب العدالة والتنمية والمجموعة الإعلامية التي يديرها الشرعي لا يمكن أن يُنظر إليه إلا كإهدار للجهود التي كان من الأولى أن تُوجه نحو بناء توافق وطني حول قضايا أكبر وأعمق.
التماسك الداخلي ليس رفاهية في الظروف الحالية، بل ضرورة استراتيجية تضمن قدرة الدولة على مواجهة التحديات. ومع ذلك، فإن الحفاظ على هذا التماسك لا يعني التغاضي عن تجاوزات تمس الثوابت الوطنية، بل يعني معالجة الانحرافات بصرامة ووعي.
في جميع الدول، بما فيها الأكثر ديمقراطية، هناك حدود لا يمكن تجاوزها تحت مظلة حرية التعبير. الدفاع عن مجرمي الحرب أو تبرير الإبادة الجماعية ليس مجرد رأي، بل هو موقف يضرب في الصميم القيم المشتركة التي تُبنى عليها الأمم.. ألم نتابع مجموعة من الشباب لمجرد الاشتباه في إشادتهم باغتيال السفير الروسي في تركيا؟ كيف تصبح الإشادة بمقتّل الأطفال الفلسطينيين مجرّد رأي منفلت من رقابة قانون مكافحة الإرهاب؟
لا يمكن في أي سياق وطني أو دولي قبول تبرير الجرائم ضد الإنسانية بوصفها “حق الدفاع عن النفس”، كما لا يمكن اعتبار القتل الجماعي مجرد “أضرار جانبية”.
القضية الفلسطينية ليست مجرد قضية خارجية بالنسبة للمغاربة؛ هي جزء من الوجدان الوطني الذي يتقاطع فيه التاريخ والدين والسياسة. وأي خروج عن هذا الإجماع هو انحراف خطير، تمامًا كالدفاع عن الإرهاب أو تبريره.
وفي حالة أحمد الشرعي، يصبح الدفاع عن نتنياهو وكيانه الاستعماري تحديا واضحا للإجماع الوطني، وافتئاتا على مواقف الشعب المغربي الذي ظل ثابتا في رفض التطبيع مع الإجرام والاحتلال.
إن وصف نتنياهو بـ”الزعيم الديمقراطي”، والدفاع عن القضاء الإسرائيلي كمؤسسة “مستقلة”، هو تزييف واضح للواقع يتجاهل الجرائم الموثقة التي ارتكبها هذا الكيان ضد الفلسطينيين. ومثل هذه التبريرات لا تخدم إلا الدعاية الصهيونية، وتضع المغرب في موقف محرج أمام حلفائه في العالم الإسلامي وأمام شعبه الذي يعتبر القضية الفلسطينية خطاً أحمر.
ما كتبه الشرعي هو مؤشر على خلل يجب أن يُعالج بسرعة وحزم. فالدول العظمى، التي نتطلع إلى نماذجها، تحمي ثوابتها من العبث، وتضع خطوطا حمراء لا يمكن تجاوزها. والمغرب، كدولة ذات تاريخ عريق وتقاليد دبلوماسية راسخة، يحتاج إلى تأكيد أن قضاياه الكبرى ليست محلا للتأويل الشخصي أو التلاعب الإعلامي.
ألم نتعاقد عبر القانون على أن الملكية والإسلام والوحدة الترابية خطوط حمراء في أي نقاش أو تعبير أو رأي؟ أليست القدس ومعها القضية الفلسطينية جسرا يربط الملكية بالإسلام؟ وبالتالي ألا تهدّد مثل هذه التعبيرات التي تصدر من مواقع ترسّخ في الأذهان أنها من داخل الدولة، التعاقدات الكبرى التي يقوم عليها استقرار وتماسك المغرب؟
إن القضية الفلسطينية ليست مجرد موضوع سياسي، بل هي تعبير عن التزام أخلاقي وإنساني تجاه شعب يناضل من أجل حقوقه المشروعة. وأي خروج عن هذا الالتزام ليس تعبيرا عن “رأي مختلف”، بل هو تحد صريح لوجدان الأمة المغربية وثوابتها الراسخة.
إن ما يحدث اختبار حقيقي لقدرة المغرب على حماية ثوابته وقيمه المشتركة. في هذا السياق، يجب أن يكون الرد مسؤولا وحازما، لا يستهدف الأفراد، بل يركز على ترسيخ القيم الوطنية التي توحد الجميع. فحماية الإجماع الوطني لا تعني القمع أو الحد من النقاش، بل تعني وضع إطار واضح يضمن أن النقاش لا يتجاوز الثوابت التي تحفظ وحدة الأمة وكرامتها.
القضية الفلسطينية ستظل رمزا لهذه الثوابت، وأي محاولة لتبرير الإجرام ضدها يجب أن تُواجه بصرامة تضاهي أهمية هذه القضية بالنسبة للمغاربة وللإنسانية جمعاء، لأن الإجرام يظل إجراما، مهما حاولنا جعله شرعيا.