إن حالة التصهين التي تصاعدت وعمليات التطبيع التي تراكمت؛ تشير إلى الخطورة الكبرى على كيان الأمة؛ وحقيقة الإدراك والتصور لصراعها المصيري والحضاري. وربما هنا عليّ أن أشير الى ندوة مغلقة تعلقت بمستقبل الأمة بعد طوفان الأقصى ضمن تصور لهذا المستقبل في سياق المتغيرات التي ترتبط بالنظام الدولي من جهة والنظام الإقليمي من جهة أخرى؛ ويمتد ذلك الى مستقبل الكيان الصهيوني. وراعني في الحقيقة أن نجد بين نخبة فكرية معتبرة؛ أن يكون فيما بينها أن يحمل تساؤلات أو آراء وربما مواقف تنكر علينا عقدية الصراع كجزء لا يتجزأ من كونه صراعا حضاريا ومصيريا، وكذلك ازداد عجبي أن البعض لا يزال يميز بين الغرب الثقافي والغرب الاستعماري، وتناسى هؤلاء أن الثقافي خاصة فيما يخص علاقة الغرب بقضايانا الكبرى وعلى رأسها الصراع مع الكيان الصهيوني والقضية المحورية المتعلقة بفلسطين (القدس والأقصى)؛ إنما هو أهم مدخل له لتفكيك الأمة وتسميم مواقفها. فإن أردت الحق والحقيقة؛ فإن التصهين وشعبته الكبرى التي تتمثل في التطبيع؛ هو ما يوطن للقابليات الثقافية والحضارية فينخر في كيان الأمة وينال من عقيدتها.
لا أدري وأنا أفتح ملف التطبيع والتصهين وحقيقة تطويع الأمة تطبيعا وتصهينا وتسميما أن طاف على ذهني ثلة من مفكري الأمة رابطوا على ثغر هذه القضية؛ وشكلوا برؤيتهم تلك حالة من تقوية مناعة الأمة في هذا المضمار؛ خاصة مع فطنتهم لهذا الغزو المعنوي والحضاري للأمة. كانت رؤاهم بمثابة إنذار مبكر للأمة؛ مع ما بدا من انتشار مفهوم التصهين وشبكته المفاهيمية، واعتبار أن التطبيع شعبة من التصهين، ورصد خطورة التطبيع الرسمي، والتطبيع الشعبي بأنه أنكى وأشد.
لا أدري وأنا أفتح ملف التطبيع والتصهين وحقيقة تطويع الأمة تطبيعا وتصهينا وتسميما أن طاف على ذهني ثلة من مفكري الأمة رابطوا على ثغر هذه القضية؛ وشكلوا برؤيتهم تلك حالة من تقوية مناعة الأمة في هذا المضمار؛ خاصة مع فطنتهم لهذا الغزو المعنوي والحضاري للأمة. كانت رؤاهم بمثابة إنذار مبكر للأمة؛ مع ما بدا من انتشار مفهوم التصهين وشبكته المفاهيمية، واعتبار أن التطبيع شعبة من التصهين
وممن وقف على مفهوم التصهين وحقيقة تطويع الأمة وتسميمها، وحال الهرولة في المشهد القائم يشهد لتنبؤاتهم الثاقبة وتحذيراتهم البالغة؛ الدكتور حامد ربيع، والأستاذ عصمت سيف الدولة، والدكتور عبد الوهاب المسيري، والحكيم طارق البشري، رحمهم الله جميعا قد كانوا مدركين لهذه الظاهرة بأبعادها الثلاثة؛ خطاب الصهاينة، وتخذيل المقاومة وتجريمها، ودخول بيت الطاعة الأمريكي، وعبَّر كل منهم عن وجه يتعلق بمواجهة الكيان الصهيوني؛ واضعا إصبعه على عمليات الانهزام الداخلي من خلال خطاب لا يتلاءم مطلقا ولا يكافئ حال المواجهة والمقاومة لهذا العدو والعدوان.
كان أستاذنا حامد ربيع -رحمه الله- يحمل بين جوانحه ودراساته العميقة رؤية لطبيعة هذا الصراع (المصيرية والحضارية)، وألّف منطلقا من ذلك كتابه -كان يصفه لي بأنه ليس بالكتاب الأكاديمي، ولكنه تثقيفي يتوجه به إلى جماهير الأمة- “الثقافة العربية بين الغزو الصهيوني وإرادة التكامل القومي”، محذرا من موجات ما أسماه وتبناه “التسميم السياسي“.
يؤكد ربيع: “قد يبدو لأول وهلة أن معالجة ظاهرة الغزو الصهيوني الأجنبي للثقافة العربية أمر سهل المنال، فكما أن المنطقة العربية خضعت منذ العثماني لعملية استعمار سياسي تتابعت مراحلها في فصول متعددة ولكنها جميعها تعبير عن علاقة تبعية دائمة، فكذلك الثقافة العربية خضعت لآثار هذا الاحتلال الذي كان لا بد وأن يتسلل إلى النواحي المعنوية والفكرية للوجود العربي”. ويقول: “إن ظاهرة الغزو الأجنبي للثقافة العربية هي في الواقع حقيقة تستقل استقلالا تاريخيا وكاملا عن ظاهرة الغزو الاستعماري كما عرفته المنطقة العربية ابتداء من القرن التاسع عشر. ولنستطيع أن نفهم هذه الحقيقة، ولنستطيع أن نتابع تطوراتها مع الحركة الصهيونية ولنستطيع أن نحدد الوظيفة التي يجب إن يعهد بها إلى المفكر وكيف يجب أن يعهد بها إلى أجهزة متخصصة في مواجهة ذلك الغزو، علينا أن نبدأ من ذلك المنطلق الحقيقي لتحليل الظاهرة وهو حقيقة العلاقة بين الثقافات”.
وكان عصمت سيف الدولة بمشروعه الفكري العميق يؤشر مع تطور حركة فكره والذي بلغ قمته في كتابه التثقيفي المهم “العروبة والإسلام” في سلسلة لمركز دراسات الوحدة العربية، ليعبر هو الآخر عن رؤية واعية بصيرة ترتبط بفلسطين وقضية محورية في الصراع مع الكيان الصهيوني.
في السادس من نيسان/ أبريل ١٩٧٧، وقف المفكر العربي المرحوم الدكتور عصمت سيف الدولة أمام طلبة جامعة الكويت يحاضر حول “الصهيونية في العقل العربي”، قائلا: “إن الصهيونية وحلفاءها بعد أن انهزموا عسكريا في جبهة القتال في تشرين الأول/ أكتوبر 1973، فتحوا من جباهنا ثغرات، وغزوا عقولنا. اختصروا الطريق إلى النصر النهائي، فبدلا من احتلال أرضنا جزءا جزءا، بدأوا في احتلال رؤوسنا فكرة فكرة”، وبدلا من الاستيلاء على الوطن، يحاولون الاستيلاء على البشر، ليكون الوطن لهم بعد ذلك دون حاجة إلى القهر. واستطرد سيف الدولة: “جردونا من نظريتنا العربية، ودسوا في رؤوسنا نظريتهم الصهيونية، ورفعوا من فكرنا القومية العربية، ووضعوا بدلا منها القومية اليهودية، ولما انمحت من ذاكرتنا دولة الوحدة، قامت بدلا منها دولة إسرائيل”.
وكذلك تذكرت أستاذنا الدكتور عبد الوهاب المسيري وقد أوكل لي المعهد العالمي للفكر الإسلامي الذي حمل بعد ذلك اسم “مركز الدراسات المعرفية”؛ إدارة ندوة لأستاذنا تحدث فيها حينذاك عن “ظاهرة التصهين”: “من الآن فصاعدا سنجد يهودا في ثياب مسلمين، اليهودي الوظيفي، مسلم يصلي معنا العشاء في المسجد لكنه يقوم بنفس الدور الذي يقوم به الجنرال اليهودي، وعليه يجب تحليل تلك الظاهرة حتى لا يتحول كثير منا إلى يهود دون أن يدروا”، هكذا تنبأ المفكر والأكاديمي الراحل عبد الوهاب المسيري بما ستؤول إليه العلاقة بين العرب و”إسرائيل” قبل عشرات السنين.
تسليط الضوء على تلك التحذيرات القديمة للمفكرين العرب التي لم يؤخذ بها للأسف وأوصلت الأمة إلى ما هي عليه الآن؛ بات من الضرورة بمكان لإنقاذ ما تبقى من عقد العرب المنفرط على أيدي الصهاينة العرب
وفي ظل تلك الهرولة التي يشهدها عالمنا العربي نحو الارتماء في أحضان الصهاينة والمتجسدة في اتفاقي الإمارات والبحرين، فإن تسليط الضوء على تلك التحذيرات القديمة للمفكرين العرب التي لم يؤخذ بها للأسف وأوصلت الأمة إلى ما هي عليه الآن؛ بات من الضرورة بمكان لإنقاذ ما تبقى من عقد العرب المنفرط على أيدي الصهاينة العرب. وأسهمت كتابات المسيري ونظرياته في وضع العديد من النظم العربية في حرج شديد، وذلك لما كشفه من غياب الإرادة حيال مقاومة الصهيونية واستمراء الوضع الراهن تحقيقا لأهداف وأجندات خاصة.
من جانبه كان الحكيم البشري حريصا على أن يضع كل ذلك في إطار ناظم ينبهنا إلى حقيقة “أيامنا العربية وأيامهم” وكذلك “العرب في مواجهة العدوان”، ليؤكد على تلك الطاقة الرمزية في الأمة وفعلها المقاوم. ونحن لا بد من أن نتمسك بحقنا في استقلال إدراكنا التاريخي، وبحقنا في أن يكون لنا تاريخنا وأحداثنا مما كان يسمى قديما “أيام العرب”، أو أيام المسلمين. وفي الآونة الأخيرة فإن من أيامنا 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2001 عند غزو الأمريكيين لأفغانستان وليس 11 أيلول/ سبتمبر. ومن أخطر أيامنا في السنتين الأخيرتين انتفاضة فلسطين في 28 أيلول/ سبتمبر 2000، ثم ما يجري من يومها حتى اليوم، وحتى الغد القريب والغد البعيد فإن ما يحدث اليوم في فلسطين سيتحدد به مصير الأمة العربية لمرحلة تاريخية لا أعرف منتهاها.
نحن نعرف أن فلسطين هي المجال الجغرافي للقدس وأن فلسطين كلها قدس كما يعبر البعض عن ذلك، ونعرف أن القدس خاصة، وفلسطين عامة، هما أكثر ما نجتمع عليه، وأنهما تجمعان بين أنصار العروبة وأنصار الجامعة الإسلامية، وتجمعان بين المسلمين والمسيحيين، وبين الإسلاميين العلمانيين من الوطنيين، وبين الحركات الشعبية من حيث هي حركات تحرير واستقلال، وبين الدول العربية من حيث أن مراعاة واجبات الأمن القومي هي أول واجبات الدول ونظم الحكومات، لكن في هذه العلاقة الأخيرة يكمن المشكل القائم الآن بين الحركات الشعبية وسياسات الحكومات.
من قلب تلك الذاكرة الحضارية والتي استحضرنا فيها ذكرى وذكريات حملت الكثير في تصوراتها للأمة في صراعها مع الصهيونية والكيان الصهيوني، وطاف بنا كل ذلك ليشير الجميع وبوضوح لخطر الظاهرة الصهيونية والمتصهينة وعمق المواجهة والمدافعة والمقاومة المصيرية من الأمة لهذا العدوان والطغيان في آن، ومع ذلك فإن طوفان الأقصى كانت لها إسهامات مركزية في تعظيم قيمة وأهمية ما ذهبوا إليه جميعا؛ وأن هذه الظاهرة من أخطر الظواهر التي تواجه قضايانا الإسلامية والعربية. فقد كشفت “طوفان الأقصى” بأجلى صورة، واضحة فاضحة، كل ما يتعلق بهذه الظاهرة وصعودها وحجمها الذي استشرى وتسرب في كيان الأمة، ضمن عملية تسميم حضاري كبرى.
إن تصور هذا الصراع في مثلثه الجامع والناظم؛ صراعا عقديا، صراعا مصيريا، صراعا حضاريا، تجلى في الطوفان كأجلي ما يكون، وإن إغفال أي من هذه الأضلاع إنما يسمم باختراقات كبرى، وتزييفات مفتراة تؤثر بالتالي على منظومات الإدراك ومنظومات الحرك. فهو عقدي بمقدار ما يقع في جوهره من القدس والأقصى، وهو مصيري في رؤيته بجعله صراع وجود وليس مجرد صراع حدود، وهو حضاري في مواجهة كيان عنصري اصطنعته الحضارة الغربية في سياقات وظيفية، واتضح ذلك كأجلى ما يكون في مواقف دول تلك الحضارة التي دعمت بشكل أو بآخر هذا الكيان وعدوانه وارتكابه كل ما يهدم العمران ويناقض جوهر الحضارة بما تشير إليه من تمدن ورُقي.
ومن خلال هذا المثلث تبدو لنا وظيفة الظاهرة التي تشير إلى التصهين وإلحاقاته من التطبيع ضمن مثلث يهدف الى تسميم الأمة والفت في عضضها ووحدتها. إنه التطبيع اللئيم والتصهين الخبيث؛ فلنتعلم من خطاب الرواد حتى نتعرف على طبيعة الصراع وكيفيات مواجهته في كل أشكاله مهما تخفّى أو تسلل.