جاحد من سينكر الطابع الثمين للحوار الذي دار بين وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، أحمد التوفيق، ورئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران.
أي حظ هذا الذي أحيانا معه الله حتى تابعنا نقاشا مفتوحا وعلنيا من هذا النوع.
لا أخاطب هنا من انقاد سلوكهم لنمط الفرجة الذي أتى مع عصر الشبكات الاجتماعية، ولا من تابعوا الأمر بعين المتفرج على “كلاشات” فناني الراب.
ولا أقصد حتى هواة استعمال قلم الحبر الأحمر لتسطير الأخطاء وتصيّد الهفوات…
حديثي هنا موجّه لمن يدرك قيمة انفتاح جزء من العلبة السوداء للدولة، وإن كان أحد طرفي الحوار في حكم المغادر لموقع السبطة.
سأتوقف في هذا المقال عند الجانب الشكلي لأنه بالغ الأهمية أولا، ثم لأنه أول ما يقفز عليه النقاش كما لو كنا نعيش حوارات مماثلة كل يوم.
وإذا كان لابد من التعليق على مضمون الرسالتين ودلالتهما، فإنني شخصيا لا أرى رسالة التوفيق مبادرة شخصيا ولا تعبيرا فرديا. الأمر يتعلق بواحد من حراس الأصول في الدين كما في الحكم وطقوس السلطة، ولا يعقل أن يكون
الإقدام على نشر رسالة من هذا النوع سوى تلبية لتوجيه أو بعد استئذان على الأقل.
هذا بالضبط ما تؤكده رسالة بنكيران الجوابية. الرجل يعرف أنه أمام الممثل الأول لمؤسسة إمارة المؤمنين بعد الملك، بل أداتها التنفيذية. وبالتالي كانت الرسالة بمثابة اعتذار علني وصريح لشخص التوفيق، ومن خلاله إلى “من يهمّه الأمر”.
رسالة أحمد التوفيق كانت أقرب إلى عتاب شديد اللهجة موجهة إلى بنكيران، محملة بلغة أدبية وحجج تاريخية وسياسية. ودافع الوزير عن موقفه مؤكدا أن الدولة المغربية ليست علمانية، بل تحكمها إمارة المؤمنين التي توازن بين الدين ومتطلبات العصر.
واتهم الوزير رئيسه السابق بالتسرع في التفسير دون التحقق من مقاصده، وذكّره بأن العمل السياسي ذاته مستلهم في جوانب عديدة من النظم العلمانية الغربية، ما يجعل النقاش أكثر تعقيداً.
على الطرف الآخر، جاء رد بنكيران برسالة أقل حدة، لكنها لا تخلو من الاعتزاز بالموقف السياسي والدفاع عن الثوابت الإسلامية للمغرب. وبينما أكد أنه لم يقصد الإساءة إلى الوزير، أوضح أن تصريحه كان موجها ضد من حاولوا استغلال كلام التوفيق بشكل مغرض. وفي إشارة إلى التقدير المتبادل، قدّم اعتذارا ضمنيا عن أي سوء فهم.
هذه الرسائل المفتوحة بين أحمد التوفيق وعبد الإله بنكيران هي بمثابة تمرين فكري وممارسة سياسية إيجابية، ليس فقط لكونها تعبر عن وجهات نظر متباينة، بل لأنها تدفع بالنقاش إلى واجهة الساحة العامة، وتجبر الجميع على إعادة التفكير في قضايا تبدو أحيانا محسومة.
بغض النظر عن تباين الأسلوب بين الرسالتين أو تفاوت القوة في الحجة والمضمون، فإن الحوار الذي أنتجته هذه الرسائل يعكس دورا مهما للتواصل المفتوح في تفكيك القضايا الشائكة وإعادة صياغة النقاش حولها.
الرسائل، حتى لو حملت في طياتها عتابا شخصيا أو نقدا ضمنيا، تؤدي دورا أعمق من ذلك؛ فهي تدعو القراء إلى التفكير، وتعيد طرح الأسئلة الكبرى بصيغ مبسطة ومباشرة.
والأهم من جودة الكتابة أو دقة الصياغة هو أن هذه المراسلات تنقل النقاش من الكواليس المغلقة إلى ساحة الرأي العام، مما يخلق فرصة للتفاعل الأوسع.
الرسائل المتبادلة بين أحمد التوفيق وعبد الإله بنكيران هي استمرار لتقليد إنساني قديم في استخدام الرسائل كوسيلة للتعبير عن المواقف والاختلافات الفكرية.
مثل هذه الحوارات الكتابية شهدتها تواريخ عديدة، حيث شكلت الرسائل المفتوحة ساحة لتصفية الخلافات أو تقديم الحجج بطريقة مباشرة وعلنية.
في سياق مشابه، يمكن استحضار تجربة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في أواخر القرن التاسع عشر.
كان الرجلان رفيقين في مشروع إصلاح الفكر الإسلامي، لكنهما افترقا حول بعض القضايا المركزية.
اعتمد الأفغاني الرسائل المفتوحة لشرح أفكاره والدفاع عن مواقفه، مجادلا من موقع الثائر على الاستبداد والاستعمار، بينما كان محمد عبده يميل إلى منهج إصلاحي أكثر هدوء.
كذلك كانت المراسلات الشهيرة بين محمد عابد الجابري وحسن حنفي تنشر في إطار جدالي بين مثقفين يعملون في مجال واحد، وتُعنى بقضايا فلسفية أو اجتماعية معقدة.
وبما أن السجال يدور حول العلمانية، فلا بأس في استحضار مثال آخر من أوروبا، لذلك السجال الذي دار بين مارتن لوثر والبابا في بداية القرن السادس عشر.
لوثر، الذي ثار على الكنيسة الكاثوليكية، كتب رسائل مفتوحة مليئة بالحجج اللاهوتية والسياسية، حيث كان يسعى لتحرير العقيدة من قبضة رجال الدين، وهو ما أثار نقاشا فكريا حادا في زمنه.
وفي الأدب العربي الحديث، نجد سجالات طه حسين وعباس العقاد، التي عالجت قضايا الأدب والدين والاجتماع. تلك الرسائل، وإن كانت أقل حدة، تعكس طبيعة الاختلاف الفكري بين المفكرين في بيئة تحاول التوفيق بين التراث ومتطلبات الحداثة.
ليست الغاية من استحضار هذه الأمثلة التاريخية الرفع من قيمة طرفي النقاش الحالي، وإن كنت على يقين أن للرسالتين أهمية بالغة سندركها بعد سنوات وربما عقود، عندما سيأتي من يبحث عن منافذ للإطلال على علبة السلطة القادمة حاليا في المغرب ويجد هاتين الوثيقتين…
بل الغاية هي إبراز كيف يمكن للرسائل المفتوحة أن تكون أداة فعالة للتعبير عن الاختلاف الفكري أو السياسي، لكنها تختلف باختلاف دوافع الأطراف وأهدافهم.
وما يميز الحالة المغربية أن هذه الرسائل تأتي في إطار دولة لها خصوصيتها التاريخية والدينية. المغرب، بتجربته المتمثلة في إمارة المؤمنين، يجمع بين أصالة دينية وتحديث سياسي، مما يجعل الحوار حول العلمانية في سياقه مختلفا عن النموذج الأوروبي أو حتى العربي.
التوفيق، في رسالته، يحاول تقديم قراءة معيّنة لتاريخ العلاقة بين الدين والسياسة في المغرب، بينما بنكيران، من موقعه السياسي، يعبر عن هواجس تحيط باستغلال مفهوم العلمانية لتقويض الثوابت الدينية.
لقد كانت الرسائل المفتوحة تاريخيا أداة لإشراك الجمهور في قضايا الفكر والسياسة. واليوم، مع توسع وسائل الإعلام الحديثة، تضاعفت قوة هذه الرسائل في تشكيل النقاش العام.
لكنها، كما هو الحال مع تجربة التوفيق وبنكيران، تظل تعبيرا عن تحديات أزلية: كيف يمكن الجمع بين الدين والدولة في عالم متغير؟