كاينابريس – أحمد منصور(*)
التقيت قدراً في أحد المطارات خلال سفري مع عبد الله بن منصور، رئيس اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا، وكان ضيفاً عندي قبل سنوات في برنامجي التليفزيوني “بلا حدود”، وأعرفه معرفة جيدة -فله جهد مميز وحضور بارز في العمل الإسلامي في أوروبا- وإن كنت لم ألتق به منذ سنوات.
سألته عن تأثير حرب غزة على مسلمي فرنسا في ظل الانحياز الأعمى لإسرائيل من قبل الرئيس الفرنسي ماكرون والنفوذ اليهودي القوي في فرنسا ودوره في صناعة الإسلاموفوبيا ؟ فحدثني عن التشريعات التي صدرت خلال 24 ساعة بعد 7 أكتوبر، والتي تُجّرم كل شيء يتعلق بفلسطين في فرنسا بدءاً من رفع العلم، وحتى التلفظ بإسم حركة حماس، رغم أن قادة إسرائيل يقولون “حماس” ليل نهار، ثم التغير الذي طرأ بعد أسبوعين من الحرب على المجتمع الفرنسي، وبعض السياسيين في ظل جرائم إسرائيل غير المسبوقة في غزة.
الصورة الناصعة التي لم يرها العالم من قبل للتعامل مع الأسرى الإسرائيليين أبهرت العالم أيضاً، وقد دفع هذا كثير من الغربيين للبحث في الإسلام وقراءة القرآن
لكن ما لفت نظري في حديثه هو كلامه عن النظرة الإيجابية للإسلام في فرنسا والغرب عموماً رغم المليارات التي أنفقت، والحملات القوية التي نُظّمت طيلة العقود الماضية للتخويف من الإسلام وتشويه صورته وصناعة ما يسمى “الإسلاموفوبيا”. فقد مسح أهل غزة كثيراً من هذا وأظهروا صورة ناصعة مشرقة للإسلام، من خلال آلاف مقاطع الفيديو التي ظهرت لهم وتم تداولها وترجمت للغات كثيرة على مستوى العالم، وهم يحتسبون بصبر ويقين ورضا ما جرى لهم عند الله، كما أن الصورة الناصعة التي لم يرها العالم من قبل للتعامل مع الأسرى الإسرائيليين أبهرت العالم أيضاً، وقد دفع هذا كثير من الغربيين للبحث في الإسلام وقراءة القرآن ثم دخول الناس في دين الله أفواجاً.
وهنا يقول بن منصور : “لم نشهد في فرنسا طيلة 40 عاماَ إقبالاً على الدخول في الإسلام لاسيّما من فئة الشباب والفتيان الفرنسيين كما نراه الآن منذ حرب غزة، فقد ارتفعت الأعداد الرسمية للمسلمين الجدد من 80 في اليوم إلى 400 الآن في بعض الأحيان، ولا يقل العدد عن ثلاثمائة مسلم فرنسي جديد كل يوم”. وهذا يعني وفقاً لكلام بن منصور أن عدد من من دخلوا الإسلام في فرنسا وحدها على أقل تقدير منذ اندلاع طوفان الأقصى وخلال ما يقرب من شهرين حوالي 20 ألفاً شخصاً أغلبهم من الشباب. وقس على ذلك بنسب متقاربة العشرات من الدول الغربية.
وحينما قلت لـ بن منصور هل سألتموهم لماذا تريدون الدخول في الإسلام؟ قال نعم أغلبهم كانوا يقولون:” إن الصبر والرضا واليقين والشعور بالطمأنينة والأمان والسلام الذي وجدناه في أهل غزة، رغم فداحة مصابهم وفقدانهم لعائلاتهم وأحبابهم وبيوتهم وأموالهم، جعلنا نسأل عن السر وراء هذا فوجدناه في الإسلام والقرآن، فقلنا ما هذا الدين العظيم الذي يملأ قلوب الناس وحياتهم بهذا اليقين والأمان والسلام الذي نفتقده في حياتنا ؟ فقرأنا عن الإسلام واقتنعنا بالقرآن وقررنا أن ندخل في هذا الدين”.
وحينما سألته عن أعمارهم قال: “معظمهم شباب و كثيرٌ منهم فتيان، لكن الفتيات أكثر، ونحن لا نمنح شهادة الإسلام لمن هم دون الثامنة عشرة حسب القانون إلا بحضور الأبوين وموافقتهم، وما نتعجب له هو أن الأبوين يأتيان في بعض الأحيان بصحبة أبنائهم ويوقعن بالموافقة على دخول أبنائهم في الإسلام ،”قلت له: وما فائدة الشهادة في بلد علماني؟ قال:”مهمة لتطبيق أحكام الإسلام الشرعية على المسلم في كل شيء حتى الوفاة والميراث”..
قلت له ما هي أغرب حالة مرت عليك؟ قال فتاة في الثامنة عشرة سألتها عن سبب دخولها في الإسلام، فقالت: أحضرت القرآن مترجماً وقلت سأقرأ فيه لأتعرف على هذا الإله الذي أنزل هذا الكتاب وهذه السكينة على قلوب هؤلاء الناس، وحينما بدأت القراءة لم أكمل ولكني توقفت وبكيت وانهمرت دموعي بشكل لم يحدث من قبل، وقلت هذا هو الإله العظيم الذي أريد أن أعبده وقررت أن أدخل الإسلام.
وفتاة آخرى قالت لي : لقد شاهدت أمّا فقدت أبناءها الخمسة وبدلاً من أن تلطم وجهها وتصرخ وتبكي وجدتها صابرة وتقول: لقد سبقوني إلى الجنة، وغيرها وغيرها، فقلت هؤلاء ليسوا بشراً، فكيف أصبحوا كذلك حتى أصبح مثلهم فعرفت أن دين الإسلام وراء ذلك اليقين فقررت أن أدخل هذا الدين”..
لعل التعاطف مع فلسطين وغزة هو ما دفع أمريكا والاتحاد الأوروبي لفرض قيود صارمة على تطبيق “تيك توك “
ما حدثني عنه عبد الله بن منصور -وهو تكلم عن فرنسا فقط وعن نماذج محدودة- قرأته في عشرات التقارير المترجمة عن الصحف الغربية خلال الفترة الماضية، وشاهدت كثيراً من الفيديوهات والمقاطع المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي لاسيّما تطبيق “تيك توك” لمراهقين وفتيان وفتيات غربيين لاسيّما في الولايات المتحدة يؤكدون على ما ذكره بن منصور وأنهم يبحثون في هذا الدين العظيم، ولعل التعاطف مع فلسطين وغزة هو ما دفع أمريكا والاتحاد الأوروبي لفرض قيود صارمة على تطبيق “تيك توك “مع مطالبة مشّرعين أمريكيين بحظره، و قد نشرت “نيويورك تايمز” وغيرها من الصحف الأمريكية ووسائل الإعلام تقاريراً كثيرة جاء فيها أن أكثر الكتب مبيعاً في الولايات المتحدة هي الكتب التي كتبت عن الإسلام والقرآن وفلسطين.
ربما لم يحدث هذا منذ أحداث 11 سبتمبر لكن الفارق بين 11 سبتمبر 2001 و 7 أكتوبر 2023 هو أن الأولى استخدمت لتشويه الإسلام وتجريم المسلمين، أما الثانية فقد نجحت في دفع العالم كله للبحث عن الإسلام الصحيح، وأثبتت أن صورة المسلمين المشوهة هي صناعة صهيونية غربية تخالف الحقيقة. ويكفي مشاهدة صور أهل غزة الصابرين وهم يودعون بصبر ورضا فلذات أكبادهم، أو صور الأسرى الإسرائيليين وهم يودعون مقاتلي حماس وداعاً حاراً ويقدمون الشكر والامتنان لهم، كأنما كانوا في رحلة سياحية وليسوا أسرى حرب، للتعرف على حقيقة الإسلام والمسلمين، ولعل هذه الصور هي التي دفعت مجرمي الاسرائيليين إلى استئناف الحرب و مواصلة جرائمهم في غزة بعدما تحولت عمليات الإفراج عن الأسرى إلى حفلات فرحة يومية مسائية يشاهدها العالم أجمع رغم الجراح والآلام.
الفارق بين 11 سبتمبر 2001 و 7 أكتوبر 2023 هو أن الأولى استخدمت لتشويه الإسلام وتجريم المسلمين، أما الثانية فقد نجحت في دفع العالم كله للبحث عن الإسلام
وكما أصبحت 11 سبتمبر علامة تحول بارزة في التاريخ، سيصبح تاريخ 7 أكتوبر كذلك، ولعل الأعداد التي تدخل الإسلام في فرنسا يمكن القياس عليها في كل بلد غربي لاسيّما الولايات المتحدة التي تشهد جدلاً غير مسبوق، ولعل الأخوة القراء الذين يعيشون في هذه البلاد يضيفون المزيد من المعلومات الموثقة في هذا الجانب.
إن ما يجري في الدنيا منذ السابع من أكتوبر هو تغيرات كونية هائلة، وهذا الألم الشديد وهذه المحنة العظيمة التي يتعرض لها أهل غزة والضفة الغربية ستؤدي إلى وعي ويقظة إنسانية ستغير الكثير من الأفكار النمطية السلبية عن الإسلام والمسلمين، التي نجح الصهاينة في ترسيخها طيلة العقود الماضية.
ولله درهم أهل غزة الصابرين المحتسبين الراضين بقدر الله المؤمنين بقضائه، والله يا أهل غزة إن دماؤكم الذكية الغالية وأرواحكم الطاهرة، ونفوسكم الذكية لم ولن تذهب هباء منثوراً، فحرمة دم المؤمن هي الأعظم عند الله.
إن قصة أصحاب الأخدود التي نتعبد بها إلى الله في القرآن ليل نهار تملأ قلوبنا يقينا ورضا بأقدار الله، وقد كان مقتل الغلام المؤمن بعدما أجبر الملك الغاشم أن يقول “بسم الله رب الغلام ” سببا في دخول الناس في دين الله أفواجا، ثم كانت محنتهم “وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد” وهي محنة أهل غزة، كما أدى إيمان سحرة فرعون إلى زلزلة في المجتمع الفرعوني زلزلت حكم فرعون وسلطانه وألوهيته الفاسدة فجعلته يحكم عليهم بالقتل الشنيع “فلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلٰفٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ” فماذا قالوا ؟ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا”..
وهذا وذاك دليل على أن الموت ليس نهاية الحياة لمن يوقنون بالآخرة ومن يختارهم الله شهداء، وإنما هم “أحياء عند ربهم يرزقون” وهي أشرف ميتة يحصل عليها الإنسان طالما أن الموت قدر محتوم . إن الإيمان واليقين بهذه الآيات يغير فهم الإنسان للكون والحياة وهذا ما يحدث لمن يقرؤون عن الإسلام في الغرب الآن، وإن كان يؤلمنا ما يجري لأهلنا في غزة والضفة الغربية ويصّدع قلوبنا، لا سيّما مع تآمر وخيانة معظم الحكام والحكومات الإسلامية، لكن عزاءنا هو أن الله هو الذي اختارهم شهداء واتخذهم أصفياء، كما اختار أصحاب الأخدود وغيرهم من الأقوام الذين صبروا ابتغاء وجه ربهم، ربما لتكون بداية لتغيير في الكون يدبره الخالق سبحانه وتعالى.
و رغم أن التغيرات الكونية تأخذ مداها ولا تحدث في يوم وليلة، إلا أن دخول الآلاف من الشباب والفتيان والفتيات في الغرب الي الإسلام في دين الله أفواجا رغم التشوية المتعمد والهيمنة الإعلامية والسياسية والاقتصادية للوبيات الصهيونية في هذه المجتمعات، فإن هذا يعني أن تغيرا كبيرا سوف يحدث في الكون حتى على المدى البعيد لأن الله وعد “كتب الله لأغلبن أنا ورسلي” أما التوقيت فعند الله لكنه مؤكد “وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا”.
إننا لا نرى من حرب غزة إلا جرائم الحرب البشعة التي ترتكبها العصابات الصهيونية المارقة، لكن هناك جوانب أخرى كثيرة لا نراها يدبرها الله سبحانه وتعالى، وقد أراد لأهل فلسطين الصابرين الصامدين أن يكون لهم الفضل فيها لتغير الكون كله وأن يجري ذكرهم في العالمين {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا “يَعْلَمُونَ}.
(*) كاتب وصحافي ومنتج مصري، يعمل في قناة الجزيرة الفضائية.