دخل عبد الرحمن يوسف القرضاوي لبنان بشكل قانوني ورسمّي تماماً، ومنها عبر إلى سورية للاحتفال مع الشعب السوري بذهاب عصر التعذيب والقتل على الهُويَّة واغتيال حقوق الإنسان. لم ترفض السلطات اللبنانية دخوله ولم تستوقفه، ووصل إلى سورية مهنئاً محتفلاً بما رآه انتصاراً لواحدة من ثورات الربيع العربي، فهتف وسط جموع المحتفلين ضدّ قتلة الربيع وصنّاع الثورات المضادة.
في مبتدأ الحكاية وخبرها أن الشاعر المنتمي للثورة المصرية تحدّث بخطاب سياسي وثوري، صفق له بعض الناس، وسبّه وسبّ والده، عالم الأمّة الراحل يوسف القرضاوي، الذي كان ينحني أمام قيمته العلمية والفقهية ملوك وأمراء وسلاطين، في دول تطلب رأس ابنه الآن.
في زوابع الاستقطاب الحادّ التي تعصف بكلّ شيء هذه الأيام، وجد خطاب عبد الرحمن القرضاوي من يعتبره كفراً بأصنام الاستبداد في المعسكر الذي يسمّي نفسه “محور الاعتدال السني”، الذي بلغت به كراهية المقاومة ومناصبة مشروعها العداء أن جعلت كلّ كلمة تشيد بالمقاومة وتدافع عنها عمالةً لإيران وتآمراً على العرب، وكأنه بات من غير الممكن أن تكون منحازاً لمشروع المقاومة، وفي الوقت نفسه، سعيداً بسقوط طاغية سورية بشّار الأسد.
حالة عبد الرحمن يوسف القرضاوي تجسيد حقيقي لهذه اللوثة الاستقطابية التي لا تقبل بأن يكون الشخص مؤيّداً للمقاومة ومحورها، ومؤيّداً للربيع العربي معاً، وهي ثنائية تسيئ للاثنين: المقاومة والديمقراطية.
في حالة القرضاوي، اشتعلت حملات التشويه ضدّه قبل أن يغادر دمشق في رحلة العودة عبر مطار بيروت، كما كانت رحلة الوصول، إذ جاء التحريض والتشويه من بعض جمهور الثورة السورية، ومن جل جمهور المحور الكاره للمقاومة وللثورات معاً، ليُفاجأ عند وصوله بيروت بإلقاء السلطات اللبنانية القبض عليه، فبقي قيد الاحتجاز حتى كتابة هذه السطور، وقيد مداولات وضغوط إقليمية وعربية تطلب من الحكومة اللبنانية تسليمه لها، للانتقام منه على هجائياته الشعرية لمحور التطبيع والثورات المضادّة. والسؤال المنطقي الذي طرحه قانونيون وحقوقيون: إذا كان عبد الرحمن القرضاوي خطيراً على لبنان والأمن القومي العربي إلى هذا الحدّ، فلماذا لم ترفض السلطات اللبنانية دخوله حين وصل مطار بيروت قادماً من تركيا، لماذا لم يقبضوا عليه عند الوصول واعتقلوه عند المغادرة؟
ما جرى بين الوصول والمغادرة أن ضغوطاً مورست على السلطات من حكومات عربية، لكي تعتقل هذا “الصيد الثمين” وتسلّمه لها، وهو ما يضع لبنان كلّه أمام اختبار تاريخي، واختيار بين لبنان الحرّيات والتنوير والتنوع والتعدّدية، ولبنان المحشور وسط ضغوط أصحاب النفوذ السياسي والاقتصادي، الذين تتكتّل حكوماتهم الآن للفتك بمواطن عربي، فرد، والظفر به، وهو سيناريو كابوسي يُطلب من لبنان الرسمي أن يكون منشاراً في سيناريو انتقامي قد يكرّر مأساة جمال خاشقجي، بالنظر إلى سجلّ طالبي رأس الشاعر في حوادث من هذا النوع، إذ لا معنى لتسليم السلطات اللبنانية هذا الهدف سوى أن عاراً قد يلحق بلبنان لو حدث وخضع لضغوط حكومات عربية، تواطأت على قرارات محكمة العدل والجنائية الدوليتين ضدّ مجرم الحرب بنيامين نتنياهو، لكنّها لا تتسامح مع شاعر عربي سخر من صمتها وسبّ استبدادها في قصيدة، وهو العار نفسه الذي قد يلاحق سورية الجديدة التي زارها مهنئاً، وتركيا التي اتخذها وطناً بديلاً، إن التزمتا الصمت والفرجة على مصير عبد الرحمن يوسف القرضاوي.