إن كان هناك شيء يتغزّل فيه الشعراء بعد المرأة فحتما سيكون الشتاء، فصْل الإبداع والشجن، يُلهم الشعراء فيُلقي الكون ظلالا على أسنة أقلامهم.
مشهد البرد القارس، الذي يجعل المرء يضم بعضه إلى بعضه، وقطرات الغيث التي تصطك بالنوافذ الزجاجية لتعرب عن نفسها في زهو، ولهب المدفأة الذي يباري برد الغرفة بندّية، وفنجان القهوة الذي يتصاعد منه الدخان، سيكون مشهدا مناسبا لأن يفرغ الشاعر والأديب ما جادت به قريحته التي شحذها فصل الشتاء. ولكن ليس كل الشعراء مع الشتاء سواء، فرُبّ شاعر يقضي ذلك الفصل في خيمة أبلتها شمس الصيف، وأجهز على بقاياها المطر، فيمزق كل قصيدة كتبها في حب الشتاء.
أي خير في هذا العالم الذي يموت فيه الأطفال بعد أن تتجمد أجسادهم من شدة البرد! نعم هناك في غزة يلقى الأطفال والضعفاء حتفهم بهذه الطريقة
كل منا له مع الشتاء قصة عشق، فما بين عابد يفرح بقِصر نهاره ليصومه كغنيمة باردة، أو طول ليله ليكون فيه قانتا، ومبتغٍ للسكون الذي يسمح لخواطره بانسيابية التجوال، ومحُب للسير بمعطفه تحت زخات المطر ليعيد ذكريات اللهو في الصبا، وآخر ينشد دفء الأسرة فيمتّع ناظريه بمشهد اجتماع أفرادها للسمر، وفلاح يستبشر به ليسقي الأرض بماء السماء، والقائمة لا تنتهي.
الصورة ليست هكذا دائما، وكما قيل: «كل شيء جميل في الشتاء، عدا ارتجاف الفقراء»، فللشتاء في غزة وجه آخر، وجه قاسٍ، يبغضه أولئك الذين يموتون في خيامهم البالية من شدة البرد، هم في الخيام تداهمهم قطرات المطر من ثغرات الأسقف الهشة، وتقتحم الخيام عليهم من تحت أرجلهم. يزيد المشهدَ بؤسا تلك المعاناة من نقص الغذاء الذي يمدهم بالطاقة، وقلة الأغطية التي يمكن أن تمنحهم بعض الدفء، فلم يكن يعلم الشاعر محمود درويش إذ يناجي ريتا: «يا ريتا طويلٌ هذا الشتاء»، أن الشتاء في غزة أطول وأطول، لا بالعشق والشغف، بل بقسوة الزمهرير وهوس الرياح.. أي خير في هذا العالم الذي يموت فيه الأطفال بعد أن تتجمد أجسادهم من شدة البرد! نعم هناك في غزة يلقى الأطفال والضعفاء حتفهم بهذه الطريقة.
تعالوا نفسر القول إن الشتاء في غزة أشد عليهم من صواريخ الأعداء، نعم، فمشاهد القصف قد اعتادها الأهالي، يلهو الأطفال في الحفر التي أحدثتها القذائف، ويعود الناس إلى خيامهم بعد الغارات المجاورة ليبحثوا عن كسرة خبز وكوب من الشاي الساخن وكأن شيئا لم يكن.. بعضهم يتعامل مع القصف بنسبة الخمسين في المئة، بقسمة الاحتمالين، فإما أن يصيبه القصف فيرتقي شهيدا، أو يتجاوزه الموت ليعيش ما بقي له من العمر، وبعضهم ذو أمل عريض، يأمل في أن يكون من الناجين دائما كما يحدث في كل مرة، فالخوف من الموت قصفا بالنسبة إليهم هو معاناة تتعلق بالزمن اللاحق والمستقبل.
أما الشتاء فالمعاناة من قسوته آنية نصيبها من الأفعال: المضارع المستمر، يعيشها أهل الخيام على مدى ذلك الفصل، تقتلهم في كل لحظة، وتجهز على أرواحهم بالبطيء، ليس فيها احتمال الخمسين، وشدتها تخمد كل أمل ينبعث في قلوبهم.
مليونان من النازحين يقيمون على مدى سنة في الخيام، بسبب العدوان الذي دمر ثلاثة أرباع المباني والمنشآت في غزة، لكن المعاناة تتفاقم بعد أن أصبح 81% من تلك الخيام بالية مهترئة لا تحمي القابعين في أحشائها من خطر البرد والمطر. الصورة بشعة، أبشع ما تكون، فلا غذاء، ولا وقود، ولا دواء، ولا غطاء، ولا أمان حتى في المناطق التي يزعم الصهاينة أنها آمنة، كل ذلك قد اجتمعت إليه قسوة هذا الشتاء. لقد خلّينا بين أهل غزة والشتاء، تركناهم فريسة له، فليس فينا من يصغي لوصية الفاروق عمر لأهل الشام: «إن الشتاء قد حضر وهو عدو ، فتأهبوا له أهبته من الصوف والخفاف والجوارب، واتخذوا الصوف شعارا ودثارا، فإن البرد عدوٌ، سريع دخوله، بعيد خروجه». وليس فينا مثل القاضي أبو يوسف الذي كان مهموما بوقاية السجناء من بأس البرد، فطالب هارون الرشيد بصرف ملابس ثقيلة لهم تحميهم. وليس فينا الليث بن سعد الذي كان يُطعم الناس في الشتاء الأغذية التي تولد في أجسادهم الطاقة.
اكتبوا، وتكلموا، عن معاناة أهلنا في غزة مع فصل الشتاء، لا تتجاهلوا معاناتهم، إن لم يحرك هذا ساكنا لدى الدول والحكومات، فعلى الأقل، سيصل ما تتداولونه إلى إخوانكم في غزة، فيوقنوا أنكم مقهورون مغلوبون، لكنكم لأجل مصابهم تتألمون
نقف أمام معاناة النازحين في الشتاء نبكي، ثم ينقطع البكاء، ثم يأخذنا الاعتياد، ثم ننسى، وإذا تذكرنا صرفنا أنظارنا لئلا نبكي مجددا، أليس هذا هو حالنا؟ المجتمع الدولي يتناقل أخبار المعاناة في غزة، وتحذر هيئاته من خطورة الشتاء على أهل غزة، ثم يتحدثون عن صعوبة إدخال المساعدات الشتوية بسبب تعنت سلطات الاحتلال، لا بأس فهذا هو العهد بهم وبازدواجية معاييرهم وكيلهم بمكيالين. لكن ما يدعس القلب حقا، هو استسلام الأمة العربية والإسلامية لتعنت الاحتلال، لا تستطيع أمة بالمليارات أن ترغم هؤلاء الشراذم على إدخال ما ينقذ أهلنا في غزة، يتركون الأغطية والإمدادات الشتوية عالقة منذ أشهر في انتظار موافقة الاحتلال على إدخالها للقطاع، فأي عار قد وصم الجباه!
ترددت كثيرا في كتابة هذه السطور، لأنه من المفترض بالكاتب ألا يقتصر على السرد وعرض المشكلة، وأن يطرح الحلول، بينما أنا عاجزة عن ذلك، فأي حل أطرحه ومفاتيح غزة بيد عدوها، يغلق عليها الأبواب ويحكم حولها الحصار، وهو آمن مطمئن بأن العالم العربي والإسلامي خامل خانع ضعيف متفرق، لن يستطيع إرغامه على شيء، فهو في حماية وتحت رعاية قوى العالم العظمى.. لكنني مع ذلك ضاق صدري بما أرى، ولم أتحمل تزاحم هذه الصور والمشاهد في ذهني، دون أن يتحرك قلمي، فلا أقل من أن أحرك القضية في الوجدان، وأذكّر الناسين والمتناسين، فهو أهون من موت الضمير. ولكن اكتبوا، وتكلموا، عن معاناة أهلنا في غزة مع فصل الشتاء، لا تتجاهلوا معاناتهم، إن لم يحرك هذا ساكنا لدى الدول والحكومات، فعلى الأقل، سيصل ما تتداولونه إلى إخوانكم في غزة، فيوقنوا أنكم مقهورون مغلوبون، لكنكم لأجل مصابهم تتألمون، لعلنا نكون كما قال التابعي أويس القرني: «اللهم إني أعتذر إليك من كل كبد جائعة، ومن كل جسد عارٍ، فليس لي إلا بما على ظهري وفي بطني»، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.