«الشنّاقة» يحكمون

يونس مسكين2 مارس 2025
يونس مسكين

تشكل هيمنة الوسطاء، أو ما يُعرف ب”الشناقة”، على الأسواق في المغرب، أحد أبرز العوامل المؤثرة في الأسعار، بحيث أصبحوا حلقة مفصلية بين المنتجين والمستهلكين، لكنهم في الوقت نفسه أداة تضخم الأسعار وتحجيم المنافسة الحرة.

ومن خلال ربط ما حدث مع “مول السردين” في مراكش، أي الشاب عبد الإله الذي حاول كسر هيمنة المضاربين عبر بيع سمك السردين بسعر منخفض، مع تصريحات رئيس مجلس المنافسة، أحمد رحو، الذي أكد استحالة القضاء على الوسطاء رغم تحميلهم مسؤولية تضخم الأسعار؛ يظهر بوضوح أن السوق المغربية ليست خاضعة لقوانين العرض والطلب النقية، بل تتحكم فيها بنية سياسية- اقتصادية تجعل من “الاحتكار غير الرسمي” أداة لإعادة توزيع السلطة الاقتصادية.

ففي كل مرة يُطرح فيها سؤال الإصلاح السياسي في المغرب، يبرز أمامنا ذلك التبرير السحري الذي يُرفع في وجه كل من يطالب بالديمقراطية الحقيقية: “الخبز أولى من الديمقراطية”.

هذا الطرح الذي يُقدَّم كأنه منطق بسيط وواقعي، يخفي في جوهره مغالطة خطيرة، بل ووقاحة سياسية لم يعد من الممكن السكوت عنها.

فمن يتأمل واقع السوق المغربية اليوم، حيث الأسعار تُضبط بعيدا عن أي قانون اقتصادي، وحيث قوت المواطن أصبح رهينة في يد شبكات المضاربين والوسطاء، سيدرك بسرعة أن المشكل ليس في الديمقراطية، بل في غيابها، وأن الخلل الكبير في توازنات الحكم هو الذي يجعل أبسط أساسيات العيش اليومي مهددة.

حين نسمع أحمد رحو، رئيس مجلس المنافسة، يعلن بوضوح أن القضاء على المضاربين والوسطاء غير ممكن، فنحن لا نسمع تحليلا اقتصاديا، بل تصريحا سياسيا بامتياز، يعبّر عن اختيارات تدبيرية و”نموذج تنموي” يبشّر بالفقر والجوع، لأن هؤلاء الوسطاء الذين يهيمنون على الأسواق ليسوا فاعلين اقتصاديين مستقلين، بل هم جزء من منظومة اشتغال السلطة، التي تتغذى من فائض القيمة الناتج عن المضاربة والاحتكار، وتعيد ضخه في قنوات تُستخدم لمراقبة المجتمع وضبطه.

الوسطاء ليسوا مجرّد تجار جشعين يستفيدون من هوامش ربح خيالية، بل هم أذرع غير رسمية تُستعمل في بناء الولاءات السياسية، وإنتاج طبقة من الأعيان التابعين للدولة، يُستدعون عند الحاجة لإدارة الانتخابات، وتوجيه الرأي العام، والتدخل متى دعت الضرورة لحماية الوضع القائم.

من هنا، لا يبدو مستغربا أن يكون مصير أية مبادرة لكسر هذه الحلقة الجهنمية هو الإجهاض الفوري. وتجربة “مول السردين” في مراكش ليست استثناء، بل هي القاعدة التي تؤكد أن التلاعب بالسوق ليس مجرد نشاط اقتصادي، بل سياسة ممنهجة تحكمها توازنات دقيقة لا يُسمح لأحد بكسرها.

فالرجل لم يرتكب جريمة اقتصادية، ولم يخالف قواعد المنافسة الشريفة، لكنه حاول البيع بسعر أقل مما تفرضه مافيا السوق، فوجد نفسه في مواجهة ليس فقط مع المضاربين، بل مع أدوات الدولة التي تحركت لضبط النظام المختل وإعادة الأمور إلى نصابها كما رسمه الكبار، بمبرر وجود شكايات قدّمها بعض التجار ضده.

ومن جانبها، تصريحات رئيس مجلس المنافسة، أحمد رحو، حول أهمية الوسطاء، تعكس بشكل غير مباشر مدى تعقيد البنية الاقتصادية والسياسية المتشابكة التي تحكم السوق المغربية.

فمن جهة، يُقر رئيس مجلس المنافسة بأنهم يحققون أرباحا قد تصل إلى 50% من السعر النهائي، ما يجعلهم عامل تضخم اصطناعي للأسعار، لكنه في الوقت نفسه يؤكد أن القضاء عليهم غير ممكن، مما يعني ضمنيا أن وجودهم ليس فقط واقعا اقتصاديا، بل ضرورة سياسية واجتماعية تخدم استقرار النظام.

إن المسألة لا تتعلق فقط بالأسعار أو القدرة الشرائية، بل بأصل المشكل: من يحكم هذا البلد فعليا؟ ومن يملك مفاتيح السلطة الحقيقية؟

ففي الوقت الذي تُصوّر فيه الحكومة كصاحبة القرار في تدبير الشأن العام، علما أنها باتت بدورها موصومة بشبهة الخضوع لسطوة “الشناقة”، يكشف الواقع أن المنظومة السياسية باتت خاضعة بالكامل لتحالف غير مُعلن بين السلطة وشبكات المضاربين، الذين أصبحوا أكثر من مجرد مستفيدين اقتصاديين، بل تحولوا إلى أدوات حكم حقيقية، تتحكم في توزيع الثروة، وضبط الاستقرار الاجتماعي، بل والتأثير في المواعيد الانتخابية وفق حسابات دقيقة.

وعند النظر إلى الظاهرة من منظور الاقتصاد السياسي، نجد أن الوسطاء لا يؤدون فقط دورا اقتصاديا، بل لهم وظيفة سياسية واجتماعية مزدوجة، تتمثّل أولا في التحكم في الأسعار كآلية للضبط الاجتماعي، أي بقاء الأسعار عند مستوى معين يحقق توازنا بين ما يمكن للمستهلك تحمله، وما يحقق أرباحا كافية لحماية مصالح كبار المتحكمين في السوق.

هذا التحكم يسمح بتجنب تقلبات حادة قد تؤدي إلى اضطرابات اجتماعية، حيث إن ارتفاع الأسعار بشكل فوضوي قد يؤدي إلى احتجاجات، لكن في المقابل، انخفاضها بشكل مفاجئ يضر بمصالح الفئات المستفيدة من المنظومة الحالية.

كما تمكّن هذه الآلية، من جهة ثانية، من إعادة توزيع الريع الاقتصادي وإبقاء إنتاج الثروة منضبطا لقرار وإرادة السلطة. ففي غياب نموذج اقتصادي يعتمد على المنافسة الحرة، يتم استخدام نظام الوساطة والمضاربة كوسيلة لتوزيع الموارد الاقتصادية بين فئات لها امتداد سياسي أو قبلي أو جهوي، مما يحوّل السوق إلى شبكة من المصالح المتبادلة، بدل أن يكون فضاء للتنافس الشفاف.

هذا النموذج يخلق نوعا من “التواطؤ البنيوي”، حيث يستفيد الوسطاء الكبار من الحماية الضمنية مقابل ضمان استمرار تدفق السلع بطريقة لا تهدد التوازنات القائمة.

هكذا نجد أنفسنا أمام معادلة مقلوبة، حيث لم يعد السؤال هو: “هل الديمقراطية تأتي بالخبز؟”، بل أصبح السؤال كالتالي: “كيف أصبح غياب الديمقراطية يهدد حتى أبسط مقومات العيش اليومي؟”.

وفي ظل هذا الوضع، لم تعد السياسة أداة لخدمة المجتمع، بل تحولت إلى منظومة مغلقة تدير نفسها عبر شبكة من المصالح المتشابكة بين السلطة والاقتصاد الموازي، حيث يُمنح كبار المضاربين صلاحيات غير رسمية تجعلهم يتحكمون في تدفق الموارد، ويعيدون توزيع الفائض لصالح منظومة الحكم.

هذا هو التهديد الحقيقي الذي يواجه المغرب اليوم، حيث لم تعد الطبقة السياسية هي الفاعل الأساسي في تقرير مصير البلاد، بل أصبح القرار بيد نخبة من الوسطاء الذين لا يظهرون في الواجهة، لكنهم يتحكمون في كل شيء، من أسعار الطماطم والسردين، إلى نتائج الانتخابات.

لذلك، عندما تُطرح مسألة الإصلاح السياسي، يجب أن يكون واضحا في الأذهان، أن الأمر لا يتعلق فقط بإصلاح القوانين أو تعديل الدستور، بل بكسر هذه الشبكة التي جعلت السياسة رهينة بين أيدي المضاربين، وأوصلتنا إلى وضع تُستعمل فيه الأسواق كسلاح للضبط الاجتماعي، ويُستخدم الخبز كأداة لابتزاز المجتمع وإبقاء الجميع داخل الحلقة المفرغة.

فإما أن يكون هناك تغيير حقيقي يعيد السلطة إلى المؤسسات المنتخبة، ويجعل الدولة قادرة على ضبط الأسواق لصالح المواطنين، وإما أن يستمر هذا التحالف غير المقدس بين السلطة والمضاربة، حتى يجد المغاربة أنفسهم لا فقط بلا ديمقراطية، بل بلا خبز أيضا.


يونس مسكين | كاتب صحفي مغربي
اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل