اعترض صديقي الحميم على كلمة الصمت الواردة في العنوان أعلاه حين سألني عن مشاهد نهش الكلاب جثث شهداء في العدوان الصهيوني في غزّة، معتبراً أنّ الأمر يتجاوز “صمت العاجز” إلى الخيانة والتواطؤ على الشهداء.
عجزُنا، أو صمتُنا أو تواطؤنا وتخاذلنا، سمّه ما شئت! هو ما جعل جثث شهداء أنبل معاركنا وجبةً للكلاب الضالة، بعد أن فشلت أمّةٌ يفوق تعدادها خمسمائة مليون مواطن في توفير أكفان ومقابر لشهداء عدوان تشنّه عصابة احتلال لا يزيد عددها عن بضعة ملايين محتل، هذا بافتراض حسن النيّة واعتبار أنّ هذه الأمّة، حكومات وشعوبًا، حاولت أو أرادت أن تدافع عن وجود جزء أصيل منها، وبهذا المعنى يصبح هذا الصمت على إهانة واستباحة الأشقاء الأحياء أقسى وأبشع من نهش الأعداء والكلاب في جثث الأموات الشهداء.
جاعت الكلاب فنهشت الجثث المُلقاة في الشوارع، بينما شبعت الأمّة حدّ التخمة وانتفخت فراحت تشاطر العدو نهش الأحياء، والتهام المساحات والخرائط، وترتيب أوضاع المنطقة جغرافيًاً وسياسيًاً وسكانيًاً، على الوجه الذي يراه ويقرّره ويفرضه على الجميع، حتى استطاع في شهرين فقط من الخرس العربي العاجز المتواطئ تحقيق ما ظلّ يحلم بنصفه أو ربعه أو دون ذلك خلال سبعة عقود على الأقل.
أمضى الاحتلال نحو 50 عاماً يحلم بسفارة وعلم في عاصمةٍ عربيّةٍ واحدة، وفي غضون أشهر معدودات بات هذا الاحتلال الآمر الناهي في الشرق الأوسط، يقتطع أراضي في لبنان ويفرض نفسه متحكّمًا وحيدًا في كلّ ما يرفّ في السماء من طير، وما يدب على الأرض من بشر، ثم يحتل مساحات إضافية في سورية التي تعيش نشوة الانتصار والفتوحات، فيُهيمن على كامل الجولان، ويقلّم أظافر سورية ويخلع أسنانها، ويجرّدها من العتاد العسكري والقدرة على النطق، ويتأهب لتوسيع نطاق ضرباته لتطاول اليمن وإيران، ويضغط على مصر والأردن للتسليم بخطط التهجير والإخلاء، بحيث يستعيد هيمنته على الضفة الغربية وقطاع غزّة، ويلغي كلّ ما ترتّب على اتفاقيات ظلّ يحلم بتوقيعها أكثر من ثلاثة أرباع عمره.
ما كنا نعدّه هلوسة استعلائية يمارسها بتسلئيل سموتريتش عن حدود الدولة اليهودية الجديدة، التي تشمل أراضي في سورية ولبنان والأردن ومصر والعراق وحتى السعودية، يبدو الآن برنامج عمل يُطبّق على الأرض، بينما قطاع هائل من الأمّة العاجزة لا يزال تحت تأثير نشوة “فتح سورية”.. ما أتعسه من توصيف!
الصهيوني كذلك يحتفل بفتح سورية، تماماً كما كان يحتفل الفاتحون البواسل قبل شهرين بانتصارات هذا الصهيوني في لبنان، وتتعالى أصواتهم طرباً باغتيال رجال كانوا يجسّدون آخر ما تبقى من شرفٍ عربي، ويرقصون على إيقاعاتِ نسف معالم ضاحية بيروت الجنوبية، ولا يخفي بعضهم سعادته باغتيال يحيى السنوار.
قبل أربع سنوات، كان سؤال يحلّق في الخيال: ماذا لو عاد شاعر “لا تصالح” ورأى اليد التي كان سيفها لنا ممدودة بكوب الماء وكسرة الخبز وقطعة من لحم السابقين من الشهداء إلى اليد التي سيفها أثكلنا وأدمانا وقتلنا؟ وها هو الواقع الآني يتجاوز خيال الأمس، فتصطف طوابير تنتظر دورها في وضع قبلة على اليد السوداء لكي تتعطّف وتوافق على صفقة جزئية مؤقتة توقف القتل بعض الوقت مقابل أن يفعل الاحتلال ما يشاء في الجغرافيا، ويمضي إلى مرحلة “الاستمتاع الكامل بالنصر المطلق” كما يكتب أحد الصهاينة في “يديعوت أحرونوت”!، وهو النصر الذي جرى في أراضي العرب ولم يبق لاكتماله سوى القضاء على البرنامج النووي الإيراني، وهو ما يتأهّب له وفي ظهره صهيوني أشرس من جو بايدن اسمه دونالد ترامب، يحثّ نتنياهو على إنهاء انتصاره حتى يبدأ فترة الاستمتاع بالمنطقة، التي ستصبح تحت المظلّة الصهيونية، تبعًا للمشروع الذي أطلّ برأسه بعد شهر واحد من رئاسة جو بايدن التي تنتهي بعد أيام. “كيان شرق أوسطي جامع يضم إسرائيل والدول العربية، تحت المظلة الأميركية”. هذا هو المشروع المقترح الذي صاغه كلّ من: روبرت دانين، وهو باحث بمشروع مستقبل الدبلوماسية في مركز بيلفر للعلوم والشؤون الدولية، التابع لـ”مدرسة كيندي في جامعة هارفارد”، وأيضًا مسؤول سابق بوزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي الأميركي! وماهسا روهي الباحثة بمعهد الدراسات الاستراتيجية التابع لجامعة الدفاع القومي الأميركي، وعُرِض على إدارة بايدن.
الآن، عاد ترامب أقوى ممّا كان، ليجد دول المنطقة أضعف وأقلّ مناعة ممّا كانت عليه قبل أربع سنوات، فما الذي يمنع نتنياهو وترامب من الاستمتاع بالشرق الأوسط بعد ذبحه وسلخه وطبخه؟ وما الذي يمنع الكلاب من نهش الجثث وقضم الخرائط وعضّ كلّ ما يعترض طريقها؟