قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم عن اليهود: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75].
لقد بلغ عظم شأن الأمانة أنها أنصفت اليهود على الرغم مما ارتكبوه بحق الأنبياء، وذلك حين شهد القرآن لبعضهم بأداء الأمانة رغم كفرهم وجحودهم، لذا كان الرموز وأهل الصدارة وأصحاب التوجيه في المجتمع والذين يتخذهم الناس قدوات لهم، هم أولى الناس بالتخلّق بهذا الخُلق القويم، وأحوج الناس إلى التحلّي بالأمانة، لأنها ترفع صاحبها، وتمنحه المصداقية، وتؤلف قلب الجماهير تجاهه وتجاه فكرته.
وإنك لترى في قصة موسى عليه السلام كيف رفعته الأمانة وأنصفته بعد فراره إلى مدين من بطش فرعون، وقرّبته من أهل الصلاح، ونال بها دعمهم وتأييدهم، وذلك حين سقى لفتاتين كان أبوهما شيخا كبيرا، ولا يسقيان حتى يصدر الرعاء، فعادت إليه إحداهما تُبلغه أن أباها يدعوه ليجزيه على صنيعه، فبعد أن تحدث إليه وقص عليه قصته {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26]، قال ابن عباس وغيره: «لَمَّا قَالَتْ: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ} قَالَ لَهَا أَبُوهَا: وَمَا عِلْمُكِ بِذَلِكَ؟ قَالَتْ: إِنَّهُ رَفَعَ الصَّخْرَةَ الَّتِي لَا يَطِيقُ حَمْلَهَا إِلَّا عَشَرَةُ رِجَالٍ، وَإِنَّهُ لَمَّا جِئْتُ مَعَهُ تقدمتُ أمامهُ، فَقَالَ لِي: كُونِي مِنْ وَرَائِي، فَإِذَا اجْتَنَبْتُ الطَّرِيقَ فَاحْذِفِي بِحَصَاةٍ أَعْلَمُ بِهَا كَيْفَ الطَّرِيقُ لِأَهتدى إِلَيْهِ».
والنبي صلى الله عليه وسلم كانت الأمانة صفته ولقبه بين الناس حتى قبل البعثة، وقد جاء فيما رواه أحمد عن السائب بن عبد الله في قصة إعادة بناء الكعبة قبل البعثة: «فبنينا حتى بلغنا موضع الحجر ولا يرى الحجر أحد فإذا هو وسط أحجارنا مثل رأس الرجل يكاد يتراءى منه وجه الرجل. فقال بطن من قريش: نحن نضعه. وقال آخرون: نحن نضعه. فقالوا: اجعلوا بينكم حكما. فقالوا: أول رجل يطلع من الفج فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أتاكم الأمين. فقالوا له فوضعه في ثوب ثم دعا بطونهم فرفعوا نواحيه [معه] فوضعه هو صلى الله عليه وسلم».
لذلك وجد مشركو مكة صعوبة بالغة في تخوين النبي صلى الله عليه وسلم وتكذيبه، نظرا لأنه قد اشتهر بين الناس بالأمانة حتى مع خصومه، وقد ورد في أحداث الهجرة النبوية أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر عليا رضي الله عنه أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت عنده للناس.
إن القلم ليجد نفسه مدفوعًا إلى طرق هذا الموضوع نظرًا لأن بعض المتصدرين للشأن العام ويوجهون الجماهير، قد نأوا بأنفسهم عن خُلق الأمانة، وأصبحوا مثالا سيئًا في القدوة.
فالرمز الذي يستخدم مكانته في الصدارة لتحقيق منافع شخصية على حساب الآخرين ليس أمينًا.
والرمز الذي يتهاون في الوفاء بوعوده ومواعيده مع الناس ليس أمينا.
والرمز الذي يعيش بشخصيتين بين الناس ويخالف فعله قوله ليس أمينا.
والرمز الذي يجعل من محاضراته ومؤلفاته بوقًا للأنظمة الجائرة والترويج لسياساتها الظالمة ليس أمينا.
والرمز الذي يحث الناس على الصبر على الظلم الاجتماعي دون أن يشير إلى حقوق الناس ويطالب بها ليس أمينًا.
والرمز الذي يفشي أسرار الناس التي اؤتمن عليها ويكشف عوراتهم ليس أمينًا.
إنما الأمانة صفة الأنبياء وأصحاب الدعوات، ولذا قال هرقل ملك الروم في حواره مع أبي سفيان بن حرب قبل إسلامه بشأن النبي صلى الله عليه وسلم: «سَأَلْتُكَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَزَعَمْتَ: «أَنَّهُ أَمَرَكُمْ بِالصَّلاَةِ، وَالصِّدْقِ، وَالعَفَافِ، وَالوَفَاءِ بِالعَهْدِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ»، قَالَ: وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ» رواه البخاري.
فحري بكل من جعله الله في موقع الصدارة والقدوة أن يكون له قسط وافر من هذا الخُلق، ليكون زادا له في مسيرته بين الأنام ويوم يلقى ربه، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.