مرهقةٌ جدّاً ومضيعة للوقت والجهد محاولة فرز بنود الإدانة والشجب والمناشدة والحثّ، كلٌّّ على حدة، في متاهة البيان الصادر عن ذلك الاجتماع الموسمي الذي سمّوه “القمّة العربية الإسلامية الطارئة” في العاصمة السعودية، والذي جاء طويلًا ورتيبًا في أكثر من 2800 كلمة، يستحقّ من عكف على تأليفها الحسد على دأبه وصبره.
من العبث كذلك وضع هذا البيان أمام ذلك الذي صدر قبل عام على مائدة المقارنة والتحليل، ومحاولة إثبات أنّه لا جديد يستحقّ التوقف عنده، وخصوصًا عندما يتوافق العرب الرسميون، كلّهم، على أنّه ليس بالوسع إلا الكلام، واعتماده سلاحًا استراتيجيًا وحيدًا بمواجهة حرب الإبادة التي يشنّها من يُفترض أنّه العدو الاستراتيجي والتاريخي والوحيد على بلدين عربيين، ولا يخفي أطماعه التوسّعية في سواهما. هنا لا تفيد المقارنات، ولا ينبغي من الأساس التعلّق بما تتمخض عنه اجتماعاتٌ كهذه، هي أشبه بمسابقات في الخطابة والإلقاء.
من حيث الشكل، غير مفهوم على الإطلاق تسمية الحدث بأنّه طارئ واستثنائي، بينما هو مجرّد طقس سنوي روتيني، تكرّر في الموعد نفسه (11/ 11)، وفي المكان ذاته مرّتين متتاليتين، بعد إعلانٍ مُسبق عنه قبل انعقاده بأسابيع، فضلاً عن أنّ الحضور لا يتغيّرون، قد يغيّب الموت أحدهم فيأتي بديله، يصطفون في الصور التذكارية، ويتناوبون على الميكروفون بالترتيب ذاته.
ومن حيث المضمون، كلّ ما قيل في قاعة عرض الخطب، وما ورد في البيان الختامي، يشيان بأنّ “مؤسّسة القمّة العربية”، أو قل جامعة الدول العربية، باتت لا ترى في نفسها أكثر من كيانٍ معارض، حزبًا كان أم حركة أم تيارًا، يرفع عقيرته بالاحتجاج الخجول على سياساتِ العدو الصهيوني، على نحوٍ أقلّ بكثير ممّا تفعله التظاهرات العارمة التي تشهدها المدن والعواصم الأوروبية، بل داخل الولايات المتحدة الأميركية نفسها، وداخل مجتمع الاحتلال أيضًا، إذ لا يختلف جوهر الفعل العربي الرسمي عن مردود شعار “أوقفوا الحرب” الذي يرج شوارع لندن وباريس ومدريد وواشنطن وتل أبيب على مدار عام وشهرين، من دون أن تتوقف مذابح الإبادة الجماعية أو تهدأ.
في القاعة، أو بالقاع، استولى المتكلّمون على شعاراتِ المتظاهرين الذين يتعرّضون للقمع والتنكيل، وصنعوا منها خطبًا في مهرجان الفصاحة، الذي لم يخل من مضحكاتٍ مُبكيات، كأن يتحدّث واحدهم عن حتمية مقاطعة العدو، فيصفّق له آخر يمارس أعمال التجارة والسمسرة مع العدو في الغاز الطبيعي المُستخرج من أراضي الشقيق الواقع تحت الاحتلال، ويبتسم ثالث يتبادل مع العدو صفقات الخضر والفاكهة والمياه، من دون أن يستشعر أيّ منهم تناقضًا بين الكلام المشتعل بالحياة والفعل البارد حدَّ الموت، وهنا تفرض كلمة بشّار الأسد نفسها نموذجًا يستحق أن يُدرَس في كيف تقول ما لا تفعل، وتفعل ما لا تقول.
لو كان الكلام معيار الحكم على الأشخاص والمواقف، فإنّ بشار الأسد جديرٌ بلقب المجاهد العربي الأوّل، والمناضل العربي الأبرز، والخطيب العربي الأفصح، وصاحب الموقف العربي المبدئي الأوضح في مقاومة الأعداء، غير أنّ ذلك كلّه يصطدم بمعطياتِ واقعٍ يقول إنّ بشّار هو أول من يخون خطاب بشّار ويخذل شعاراته، إذ يقول أمام القمة ما يلي: “أما عن قمتنا فمنذ عام مضى التقينا وعبرنا، أدنّا واستنكرنا، ومنذ عام والجريمة مستمرة، فهل نلتقي اليوم لكي نستنسخ الماضي الراحل وأحداثه، أم لنبدل في مسار المستقبل القادم وآفاقه، ففي العام الماضي أكدنا على وقف العدوان وحماية الفلسطينيين، وكانت محصلة السنة عشرات الآلاف من الشهداء وملايين المهجرين في فلسطين وفي لبنان، وفي العام 2002 طرح العرب مبادرة للسلام فكان الرد مزيد من المجازر بحقّ الفلسطينيين”.
هنا ينتحل بشّار الأسد شخصية شاب ثائر على العجز العربي بمواجهة جرائم الاحتلال، ويسطو على هتافِ جمهورٍ غاضب من الخذلان الرسمي العربي لفلسطين ولبنان: “فأداتنا هي اللغة وأداتهم هي القتل، نحن نقول وهم يفعلون” ثم يقرّر: “أما الأدوات فباعتقادي أننا نمتلكها مجتمعين شعبياً ورسمياً عرباً ومسلمين دولاً وشعوباً، وما نحتاجه هو القرار باستخدامها في حال رفض الكيان التجاوب مع ما ورد في البيان واتُفق عليه وهو المتوقع، وتحديد خياراتنا حينها، هل نغضب مرة أخرى؟ هل ندين؟ هل نناشد المجتمع الدولي أم نقاطع؟ وهو أضعف الإيمان أم ماذا؟ ما هي خطتنا التنفيذية؟”.
هكذا يلخص بشّار الثوري رأيه في بشار الحاكم المستبد الجعجاع الذي يصفعه العدو مرّة واثنتين وعشرة في قلب العاصمة دمشق، بل ويتوعده هو شخصيًا بالقتل، ثم يرتكب مجازر في عمق الأراضي السورية، فلا يجرؤ بشّار الأسد على الردِّ ولو بإلقاء حجر واحد على طائرةٍ للعدو تعربد في أجوائه، بينما يستخدم ترسانته العسكرية كاملة لسحق الشعب السوري الثائر على طغيانه وإجرامه.
وما ينطبق على بشّار يمكن قوله على آخرين ممّن يتحدّثون بتدفقٍ عاطفي مذهل عمّا ينبغي عمله وما يستوجب تنفيذه فورًا، غير أنّهم يتجاهلون أمرًا شديد الأهمية، هو أنهم هم السلطة التنفيذية، جهة الفعل والتنفيذ، ومن ثم يصبح التزامهم حدود الهتاف والمناشدة والمطالبة والاستنكار نوعًا من الكوميديا الساخرة!
حسنًا، سنحاول توصيل أصواتكم إلى السادة المسؤولين.