المذكرات بين المكتوب والبودكاست

أحمد زيدانمنذ ساعتين
أحمد زيدان

كثيراً ما يواجه أحدنا بسؤال من الجيل الشبابي الصاعد، ماذا تنصحوننا أن نقرأ، ويتناسب التأكيد على السؤال طرداً مع تأكيدك على الجيل الحالي أن يقرأ الكتب، فهي التي تشكل الثقافة العميقة، أما الالتفات إلى الماجريات، والانغماس في مواقع التواصل الاجتماعي، فلا تُربي ثقافة عميقة، ولا تُنتج شخصية متوازنة، تفهم الأمور بسلبياتها وإيجابياتها، لتخلص إلى الرأي السديد..

عادة ما أردُّ على من يسألني هذا السؤال، بالقول: اقرأ ما تحب، وما ترغب بقراءته، ولا تقرأ ما أنت مُرغم على قراءته، وكثيراً ما يخبرني النشء الجديد بأن ما يستهويه هو قراءة الروايات، فأقول حسناً، هذا رائع لأن قراءة الروايات، هي من تقدم لك طبيعة كتابة المحتوى، لأن القصص الإنسانية وتركيبة القصص، هي الأقدر على الوصول إلى الإنسان، كما أنها الأسلس والأجمل في كتابة محتواك على مواقع التواصل الاجتماعي، وهنا أنفذ إلى نصيحة النشء الجديد بالحرص على قراءة المذكرات، أو مشاهدة أو الاستماع إلى البودكاستات، والتي تشكل اليوم المذكرات المصورة، خصوصاً، وأن خاصية تسريع المقابلات تختصر الكثير من الوقت والجهد، كما أنها توفر للمستمع أو المشاهد في أن يقوم بها بأوقات لا تناسب قراءة الكتب، مثل الاستماع خلال رياضة المشي، أو خلال قيادة السيارة، وغيرها من الأوقات التي يستطيع المرء أن يشاهد أو يستمع فيها للبودكاستات.

من خلال المذكرات مقروءة أو مصورة نتعرف على ذواتنا، ونكتشف أنفسنا، فكثيراً ما نتشاطر كبشر نفس المشاكل، وذات الأمنيات والطموحات، وحين نرى أن هذه المشاكل أو العقبات أو الأمنيات نتشاطرها مع غيرنا، نكتشف أنفسنا أولاً، وتتعزز ثقتنا بأنفسنا، فنخلص إلى أن هذه ظاهرة وليست قصة منعزلة، ولذلك حلّها والرد عليها إنما هو تسوية لظاهرة بشرية عامة.

الأجمل أن يحرص كل صاحب مهنة على مشاهدة بودكاست زميله في المهنة نفسها، فمن خلاله يتعرف على الكثير من متاعب المهنة، وكيفية مواجهتها، وقد يفوتنا الاستفادة من زملاء مهنتنا، الذين يجلسون بجانبنا، ظانين أن الحل في البعيد، وفي بطون الكتب ومراكز التفكير وصناعة الرأي، بينما الحل على مقعد قريب منا، وهو عند زميل مهنتنا، الذي ربما واجه المشكلة نفسها، فوجد حلها، أو تعرف على حل المشكلة من خلال قراءاته، أو ممارساته العملية، ولذا فعلى المرء، أن يلتفت إلى من هو بجانبه، كما يعلموننا خلال ركوب الطائرة أن نلتفت إلى ما هو حولنا لمخرج الطوارئ، فقد يكون قريباً منا، فيكون الحال كما شبهه الشاعر العربي:

كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق رؤوسها محمول في قراءة المذكرات، أو الاستماع إلى البودكاستات يتقارب أمامك الزمان والمكان، فسيرة شخصية لخمسين أو ستين عاماً يتم جلبها لك في غضون ساعات، بحيث تستمع إليها أو تقرأها، كما أنه اختصار للمكان، حيث تختزل لك المذكرات كل الأمكنة والجغرافيا التي وصل إليها صاحب المذكرات، فيأتيك بها إلى ما أنت فيه، جالس على أريكتك، أو تمشي في حديقة أو تقود سيارتك، فتستمع إلى تجارب صاحب المذكرات متنقلاً في بلاد الله الواسعة.

لا شك أن العكوف على المذكرات يُعمق التجربة الإنسانية ويعمق معها التجربة المهنية، فأعظم الجوامع المتفق عليها بين أصحاب المهن، وأتفادى العثرات والعقبات والمشاكل، وهو ما يقودنا إلى تهذيب الشخصية، فيتأسى بالإيجابيات، ويتحاشى السلبيات، لاسيما وأن صاحب المذكرات ينقلك إلى زمن لم تعشه، وعصر لم تعهده، وبالتالي يراكم بذلك من معرفتك وحكمتك، ويجعلك تعيش أكثر من عصر وأكثر من زمن.

لم تكن المذكرات وليدة العصور الحديثة، فقد كانت وليدة العصر الروماني يوم وثق أمراء الرومان مذكراتهم، ودونوها لمن خلفهم، وبالتالي وثقوا عصرهم، مما جعل ذلك الإرث الروماني العتيد يصل إلينا، بل وحين فتح محمد الفاتح القسطنطينية حرص على الإبقاء على كل ما هو مدون رومانياً، وترجمه إلى اللغة التركية، وذلك من أجل عملية التراكم الحضاري في قيادة الدول، وعمل البيروقراطية الإدارية لدوائر الدولة.

المذكرات بكل تأكيد قد تبدو في كثير من الأحيان عبارة عن مرافعة الشخص عن نفسه أمام محكمة التاريخ، وبالتالي قد يعتورها الكثير من الجوانب الشخصية، لاسيما إن كانت الشخصية جدلية، ولكن في المجمل قراءة المذكرات، خصوصاً إن تقاطعت مع مذكرات منافسيه، تساعد كثيراً على اكتمال الصورة، لاسيما وقد غدت المذكرات اليوم مصدراً مهماً للمؤرخين في قراءة وكتابة التاريخ.

ما نعانيه كعرب هو ضعف الجانب المذكراتي لدى الشخصيات السياسية التي لعبت أدوارها في تاريخ الأمة، ولذا فنلجأ إلى التعويض عن ذلك بالركون إلى مذكرات الأجانب، وهي سلبية كبيرة نواجهها في فهم ما جرى ويجري، ويواجهها المؤرخون في توثيق تلك المرحلة، لغياب الرواية العربية الحقيقية، وحتى في حال كتابة هذه المذكرات نجد ضعفاً في كتابتها كمذكرات، بخلاف الأمر في العالم الغربي، لأنهم يعتمدون على محررين لمن يكتبون مذكراتهم، بالإضافة إلى الجانب الدعائي الذي يرافق نشرها. وأخيراً نذكر أن البودكاستات اليوم، ما هي إلا مذكرات مصورة، ولذا على البعض ألا يحولها إلى بودكاست تحليلي أو تقريري أو للرأي، فلكل هويته التي تعارف عليها البشر، وهوية البودكاست مذكرات مصورة، ينبغي أن يأخذ الضيف راحته في الرواية، فهي ليست استجوابًا أو مقابلة، يناقش فيها الضيف ليحاجج أو يُحرج…


أحمد زيدان | إعلامي وكاتب سوري
اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل