
دعا رئيس الحكومة السابق، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية عبد الإله بنكيران مؤخرا، إلى عدم استبعاد سيناريو الانتخابات المبكرة، مستدلا في ذلك بالاحتجاجات الاجتماعية التي جرت في عهد الحكومة الحالية. لكن السؤال الذي ينبغي أن يجيب عليه بنكيران، هو: هل يكفي أن تفشل حكومة ليعود الحزب الذي سبقها إلى الحكم تلقائيا؟
الفشل ليس مبررا كافيا، ولا يعني بالضرورة أن المغاربة سيرفعون شعار “عودوا إلينا فقد أخطأنا بإبعادكم”. فالمغرب لا يحتاج اليوم إلى انتخابات مبكرة، بل إلى شيء أكثر جوهرية من إعادة توزيع المقاعد داخل برلمان منزوع الفعالية السياسية.
إن ما ينقص المشهد المغربي اليوم هو معارضة حقيقية، قادرة على مساءلة السلطة وتأطير الغضب الشعبي وتقديم مشروع سياسي بديل، بدل الاكتفاء بترتيب المقاعد داخل قاعة بلا جمهور.
فمع كامل التقدير لما يقوم به حزب العدالة والتنمية حاليا في المشهد السياسي، وما يلعبه من أدوار تحسب له في الحفاظ على شعلة الفعل السياسي الجاد، إلا أنه لا يمكننا أن نتجاهل غياب المعارضة الحقيقية، أي تلك التي تغذي الأمل وتطرح البديل وتعبئ الناس من حولها.
إن ما جرى في 2021 لم يكن سهلا ولا بسيطا ولا يمكن توقّع إمكانية تجاوزه حتى لو توفّرت الإرادة الصادقة لدى الدولة. لقد كسرنا الجرّة فوق الرؤوس، وما كان يعتقده البعض استهدافا لحزب العدالة والتنمية كان في الحقيقة ضربا لمصداقية المؤسسات ولثقة المغربي في المشاركة والمساهمة بصوته في اتخاذ القرار.
فالمغرب لم يكن يوما كما هو الحال اليوم، أي بدون معارضة واضحة المعالم، سواء أكانت قوة متفاوضة كما كان الحال مع الاتحاد الاشتراكي في التسعينيات، أو قوة موضوعة في الثلاجة لاستعمالها عند الحاجة، كما حدث مع التيار الإسلامي خلال الربيع العربي.
ورغم المبادرة التي قامت بها جماعة العدل والإحسان بتقديم وثيقتها السياسية، فإن الأمر لم يحوّلها إلى بديل ممكن، فيما يواصل اليسار بتياراته المختلفة رحلة التيه التي لا يبدو أن النموذج الفرنسي الأخير في تكتّله داخل جبهة واحدة، قد ألهمه الكثير.
يبدو المشهد السياسي اليوم إذن بلا قوة مضادة ذات امتداد مجتمعي أو مشروع سياسي منظم. ولا يوجد كيان قادر على التعبير عن الاحتقان الاجتماعي أو توجيهه نحو مسارات مؤسساتية، ولا حزب قادر على مساءلة الحكومة بشكل مؤثر أو إزعاج السلطة بمبادرات جادة.
هذا الفراغ ليس وليد الصدفة، بل هو نتاج عملية ممنهجة لتفكيك كل مصادر المعارضة الفعلية، سواء عبر الهندسة الانتخابية التي أضعفت الأحزاب، أو الحصار الذي طوّق الجمعيات والنقابات، أو تجريف المجال الإعلامي، أو تعطيل القنوات السياسية الطبيعية لتصريف الغضب الشعبي.
في الأنظمة السياسية التي تحترم الحد الأدنى من التعددية، تلعب المعارضة دورا جوهريا في ضبط الأداء الحكومي، وإثراء النقاش العمومي، وطرح خيارات بديلة تمنح المواطنين الحق في الاختيار بين مشاريع مختلفة.
لكن في المغرب، تحولت الانتخابات إلى مجرد أداة لإعادة تدوير نفس الفاعلين داخل فضاء مغلق، حيث يتم توزيع الأدوار بين لاعبين فقدوا أي قدرة على التأثير في مسار الدولة. والنتيجة أننا أمام ديمقراطية شكلية تتيح للناس التصويت، لكنها لا تتيح لهم التغيير الفعلي، حيث يتم التحكم في النتائج عبر هندسة انتخابية باتت تضمن ألا تتجاوز الخارطة السياسية حدود ما هو مسموح به.
عندما يدعو ابن كيران إلى انتخابات جديدة، فإنه يفترض ضمنا أن الأزمة الحالية يمكن حلها عبر تغيير موازين القوى داخل البرلمان، وكأن المشكل يكمن في هوية الحزب الحاكم، وليس في بنية سياسية لم تعد تسمح بولادة أي بديل حقيقي.
الواقع أبعد من ذلك بكثير، فحتى لو تم تنظيم انتخابات غدا، فإنها لن تفرز أكثر من نسخة معدلة من نفس المشهد الحالي، لأن القواعد لم تتغير، والمجال السياسي لا يسمح بتطور طبيعي للقوى المعارضة. بل على العكس، كلما نشأت محاولة لإنتاج بديل، يتم إفشالها في مهدها، إما عبر تفكيك التنظيمات الناشئة، أو محاصرة وسائل الإعلام، أو توظيف الأدوات السلطوية لضبط المجال العام.
غياب المعارضة اليوم لا يعني أن المغاربة فقدوا اهتمامهم بالسياسة، بل يعني أن السياسة فقدت معناها بالنسبة للمواطن العادي. ففي الماضي، كان النظام المغربي يجيد إدارة التوازنات، بحيث يترك دائما بديلا جاهزا ومعروضا على المجتمع، كصمام أمان لتصريف الغضب. لكن هذه الدينامية اختلت، وأصبح النظام يواجه المجتمع بشكل مباشر، دون وسطاء أو قنوات تفاوضية، مما يجعله أكثر عرضة لانفجارات اجتماعية غير متوقعة.
في ظل هذه المعادلة، تصبح المعارضة ضرورة حيوية، ليس فقط لتحقيق التوازن السياسي، بل لضمان الاستقرار نفسه، لأن الأنظمة التي تُخضع كل شيء للرقابة الصارمة تصبح أكثر هشاشة وأقل قدرة على امتصاص الأزمات.
المفارقة أن المغرب لا يفتقد إلى المرشحين للعب دور المعارضة، بل يفتقد إلى شروط سياسية تسمح بنشوء معارضة طبيعية غير مصطنعة. فإذا كانت المعارضة السابقة قد جاءت إما من رحم الحركة الوطنية، أو من رحم الإسلام السياسي، فإن المعارضة المقبلة لا يمكن أن تُصنع بنفس الأدوات القديمة، بل يجب أن تكون امتدادا لحركات اجتماعية ومدنية حقيقية، قادرة على التأثير في المجال العام بطرق جديدة.
لكن هذا لن يحدث ما دام الحقل السياسي مغلقا، وما دامت الدولة تعتبر كل تنظيم مستقل تهديدا، وكل احتجاج محاولة لضرب الاستقرار، وكل تعبير منتقد أو غاضب خروجا من بيت الطاعة.
في النهاية، المغرب لا يحتاج إلى انتخابات مبكرة، بل إلى تغيير في القواعد التي تحكم اللعبة السياسية. فلمشكلة ليست في من يقود الحكومة، بل في غياب من يعارض فعلا وبشكل جدي ومُنتج، وفي فقدان المؤسسات السياسية لروحها، وفي اختزال الديمقراطية في صناديق اقتراع تُدار داخل فضاء محكم لا يتيح سوى نتائج محسوبة مسبقا.
بدون معارضة حقيقية، ستبقى الانتخابات مجرد إجراء شكلي، وسيظل النظام السياسي محكوما بمنطق ضبط المجال، بدل منطق بناء شرعية جديدة قادرة على الاستمرار. والسؤال الذي يجب أن يطرحه الجميع اليوم ليس “من سيفوز في الانتخابات المقبلة؟”، بل كيف يمكن إعادة السياسة إلى المجال العام، وكيف يمكن إعادة بناء توازن حقيقي بين السلطة والمجتمع.