المعنى في الصورة مع الحياة في القلب

د. معاذ الخلطي16 فبراير 2025
د. معاذ الخلطي

«الأدب» فنّ وعلمٌ ينظر إلى الحياة والأشياء بإحساس يختلف عن الإدراك العام الذي يشترك فيه الناس. 

الذي فهمت منه هذا هو مصطفى صادق الرافعي، الأديب المصري، شرح ذلك كثيرا في مناسبات عديدة وفي سياقات أدبية عديدة.

هو يرى حسب إدراكه أن الأديب لما ينظر يرى إدراكا يحمل رسائل ومعاني هي حقيقة، لكن لا يدركها من ليس لديه حاسة الذوق الأدبي.

ما هو الذوق الأدبي؟! الذوق الأدبي هو حالة إدراكية شعورية صامتة يتفاعل بها الإنسان مع محيطه وما حوله.

أرجو قراءة كتاب «وحي القلم» للرافعي، لفهم حقيقة الأدب.

للتوضيح: حينما تنظر إلى مشهد طبيعة كونية أو آلة صناعية بشرية، فإن رأيت الصورة في حجمها وسُمكها ولونها فقط فالذوق الأدبي إما أنك لا تملكه، أو أنه يحتاج إلى تفعيل من الـParamètres.

وأما الصورة في نظر الأديب فهو يقرأ فيها نفسية المصور البشري! ويقرأ فيها أسرار غاية الخالق الإلهي. 

أشكال السيارات مثلا تدل على القوة السبُعية أو القوة الغضبية أو الحالة الهزلية. 

أشكال البنايات توحي بالحياة الصلبة أو القسوة أو الرقة أو اللطافة أو التميُّه. 

وعند النظر إلى الطبيعة الكونية فأسرار الغاية الإلهية تتقاسمها أجزاء ذلك المشهد البديع. 

تهتز النفوس؛ أي تنفض عنها غبار الجفاف، الجفاف من المعنى والجفاف من الحياة. 

فلكل صورة للّه سرٌّ يبعث معنى الحياة في النفس ويجعلها تتعلم الدروس والمعارف من مشهد.

الجفاف النفسي في النظر إلى المشاهد هو لألئك الذين لا يتعلمون إلا بالضجيج، أي الأصوات البشرية في قاعات المدارس والمعاهد والطاولات وصرير الأقلام؛ وأما من سلموا من الجفاف النفسي فمعارفُهم متجددة متراكمة.. من كل نظرة يمرقون بها أي مشهد وقعت أبصارهم عليه. 

تركبت أسرار الخلق الإلهي في مشاهده، تحملها العين إلى القلب، فتستقر فيه أنواع المعارف التي تدعو إلى الإيمان وتثبت حقيقته في القلب. 

الآن أسمع صوت المطر، وهو يمر من السماء، ثم له صوت عند بلوغه الأرض؛ إنه عبد لطيف، تخبرك رشّاتُه أن اُذِن له بعد انتظار إذن الرحمة أن يؤدي دوره بالوصول، وهو يتراقص من فرح العفو، العفو على هؤلاء البشر الهياكل اللحمية كثيرةِ الكلام والادّعاء، قليلةِ الحياء. 

كان العلم في نظرة، ينمو ويتعاظم ما دام السمع والبصر يعمل، والقلب يجمع. 

لأهل الجفاف النفسي والنظر الميت العاري من المعرفة يُقال للمشهد الكوني الإلهي.

(وتريٰهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون).

إن اختلاف صور البشر أنفسِهم هو نفسُه اختلاف المعاني؛ تناسق الصورة تكاثفُ أجزاء من المعنى، لذلك قرِئ فوق العشر من سورة طه: (يوم يُنفَخ في الصُوَر ونحشر المجرمين يومئذ زُرقاً يتخٰفتون).

-انظر المحتسب، لابن جني-.

لا جرم أن زُرقتهم في وجوههم تكشف عن معاني موقفهم، 

ولأن المعنى في الصوَر لم يبق لها فائدة بعد طلوع يوم القيامة، فقد اختار القراء قراءة الصُّور أي البوق عوض الصُّوَر؛

ولأن اللحظة الآن لحظة قرع الاَسماع بالصوت الشديد لإحياء اصحاب النفوس الميتة والصور الجافة. 

لحظة!

لِنَعُدْ إلى الدنيا، لا زالت لدينا فرصة. 

إن المشاهد والصور يختلف مستواها بين النظر والبصر، لذلك قلنا وتريهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون. 

ولذلك قد نقف في موقف واحد، وتشهد انظارنا مشهدا واحدا، ومنا المُبصِر في صمت، ومنا الناظر في صوت او في صمت الموات. 

لهذا لما أصبح فؤاد أم موسى فـٰرغاً تقصّته أخته..

(فبصُرت به عن جنب وهم لا يشعرون).

وقد خلا قلبها من المعنى، واصبح فارغا، إذ النظر إلى نبي يستمر امتلاء القلب من انوار النبوة منه وهم في مهدهم؛ أي الانبياء، لِما عليهم من مُسحة إلهية.

وصار قلبها مستقرا للفزع، ومن عجيب ذلك قراءة (وأصبح فؤاد ام موسى فَزِعاً) من الفزع، قراءة فوق العشر.

 وليس الفزع فزع خوف على رضيع لأنها اطمأنت بالوحي،  

(وأوحينا إلى أم موسى.. فألقيه في اليمّ ولا تخافي ولا تحزني إنا رآدّوه إليك وجاعلوه من المرسلين). 

اترى أن هذا الوحي يترك مجالا للشك؟! وهي تلقيه بيديها في اليوم وتُسلِمه إلى القدرة الإلهية التي ترعاه .. ؟ 

وبغضّ النظر عن تقسيمات المدارس للوحي بين نوع الإلهام وأنواع اُخَر فإن هذه التفاصيل (رادوه.. جاعلوه من المرسلين) 

يرقى عن مجرّد الإلهام!

وهذه لأصحاب الأفهام!

أذان الفجر يرتفع الآن، ويُوذِن بتجدد الأنفاس بالتوحيد لبارئ الكون.. ننسحب الآن إلى الصلاة لعلنا نفهم من مشاهدها عظمة هذا الاجتماع.

 ————–

عـُدنـــا..

نحن بصدد بيان تنبيه الأديب القرءاني مصطفى صادق الرافعي المصري، أن الحياة الأدبية حياة ذات معنى، في الرسوم والأشكال والمواقف وحتى حركة التصرفات.

ويقرأ منها من يُبصر ما لا يقرأ فيها من ينظر، ينظر فقط. 

وقد كان الناس قديما يستدلون على معاني النفس البشرية بملامح الوجه ودِقة الأعضاء وغِلَظها وتقاسيم الوجه.

وليس في ذلك قانون عام يمكن أن تدرسه الآن ثم تبدأ بالتطبيقات على غرار القواعد المدرسية، لا لا؛ هو بيان في النفس يلتقط الصور والأصوات في تناسقها الخاص المتوحّد ويستطيع من خلالها فهم ما وراء الصورة من معنى وأثَر. 

أضف إلى ذلك أنه يتراكب من حركة المنظور إليه وخفته أو سرعته أو ردّة فعله “معنًى” يؤكد ما ابصرته العين أو ينفيه.

وذلك تكميل وتأكيد، أو نفي وتهديد. ودل ذلك إما على تعقد خفاء معاني من تنظر إليه، أو لضعف في النفس المُدرِكة لم تبلغ مداها في الصورة.

وغالبا تتلاءم الحركات والمعاني في الصورة. وقديما كانوا يستدلون بهذا على ملاءمة الصحبة أو الزواج، أو اي علاقة تجارية أو قرائبية أو زواج. 

(قرائبية) نسبة إلى كلمة قرائب، وهم الاقارب، لانها جمع قريب، او قريبة، وأما أقارب فليس فصيحا لأنه جمع أقرب، إلا إذا قـُصد به أن هذا اقرب لك من هذا. 

المهم؛ أن صور الكائنات تحمل معاني إلهية يحصل الخشوع القرءاني في نظرة تجاه الجبال والأشجار والنبات والحيويات والتراب. 

وأما أهل الجفاف البصري فإذا خشعوا فقط عند سماع القرءان فينبغي أن يخضعوا للاختبار التأكيدي، لاحتمال أن بكاءهم وخشوهم له صلة بالأنغام البشرية الملاءمة لأنظمة الحزن في النفس؛ لأن أصوات العزف الكونية ماهي إلا معاني صوتية تترجم المعاني النفسية. لها حقيقة في النفس ولها صورة في الهمس. 

يبكون في الكتاب المسطور ولا يبكون في الكتاب المنظور وهما حقيقة واحدة ذات وجهين. 

كل وجه منهما لا نقول يكمّل الآخر وإنما يدل على الآخر، والتكامل إنما يحصل في سمع البشر وابصارهم، ومستقَرُّه بعد ذلك في قلوبهم.

أمامن ختم على قلوبهم؛-وعلى سمعهم وعلى أبصرٰهم غشاوة- فلهم عذاب عظيم يتعذبون لأنهم لا يفهمون ولا يبصرون ولا يسمعون مع أنهم يتحركون بين الأصوات والصور. 

(للمتخصصين:فيه وجهُ وقفٍ على القلوب، وتستانف «وعلى سمعهم وعلى ابصارهم غشاوة»لتكون الغشاوة مبتدأ ًمؤخرا لسمعهم الذي هو خبر مقدم.دليله(فإن يشأ الله يختم على قلبك). فقط. 

ولما لم تكتمل له إبراهيم صورة المعنى في دلالة الكائنات على الخضوع لله أراد أن يضيف بعض النوافل ليكتمل له معنى الإيمان. 

ووظيفة النوافل تكملة الإيمان وبيانُه، فطلب من ربه أن يعيد وضع الصورة بيديه ليعيد الدرس ويتأمل، فلما أرشده الى صورة رباعية الأبعاد (اربعة من الطير)،

وجزّأ الصورة ليعيد تركيبها وهي تقنية يزعمون أنها حديثة، -تفكيك المركّب وإعادة تركيبه من جديد؛ تأكدت له صورة الإيمان فابصر خضوع المكوّنات لربها. 

ولذلك كان سؤاله دقيقا (رب أرني كيف تحي الموتى)؟! هل السؤال كان عن المنظور إليه كيف يحْيَا ؟؟! أم عن الناظر كيف يحيا قلبه بمعاني الألوهية؟! وهو ينظر؟!. 

هل ابراهيم يبحث عن تكوين حياة المخلوق المنظور وهو عمل تصنعه اليد الإلهية أم يسال عن حياة القلوب الموتى؟! 

(بلى ولكن ليطمئن قلبي). 

ولما لم يتأمل الذي مرّ على قرية وهي خاوية لأنه مرّ؛مرّ فقط ولم يتوقف للنظر قالت له نفسه لأنها لم تاخذ لحظة كافية لالتقاط صورة تذكارية بمناسبة المرور. 

قالت( أنّى يُحيي هذه الله بعد موتها) فمنحته القدرة الإلهية وقفة طويلة خلال قَرن كامل ليتأمل، وهو مع مروره وعجلته في سفره اختصر الزمن فجعله بعضَ يوم وأضرب عن يوم؛ فأمره بتكرار النظر والوقوف المتأمل دون المرور السريع الأول (فانظر إلى طعامك .. وانظر إلى حمارك..وانظر إلى العظـٰم) وبعد أن نظر (تبيّن له المعنى) فقال ..؛ هل كانت القصة في إحياء عروش القرية والحمار والشراب والطعام وإكساء العظام باللحم؟!

أم في إحياء القلب ليبصر المعاني ويمنح نفسه وقتا كافيا لفهم الصورة؟! إن نظر المرور هو نفسه العبور. 

وكأن الموقف يدعوك إلى أن تحبس نفسك طويلا حتى يتبين لك؟! وكل ما هو أقلّ من مئة عام فليس كثيرا. لذلك أعمار الناس بين المئة، حتى يتبين لهم

لقوله (أولم نعمّركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير) أي الشيب. الشيب هو النذير. 

وهو حال الإنسان؛ الذي يعيش في زمن السرعة وصدقوا إذ سموه زمن السرعة الذي هو(او بعضَ يوم) لأن بعض يوم لا يكون زمنا كافيا للبصر والتامل والإيمان.

قلوب اصحاب زمن السرعة لمثلها يُقال: أنى يُحيي هذه الله بعد موتها

كانت تلك السورة اي سورة البقرة تقرر إحياء القلوب كإحياء البقرة التي ضربوه ببعضها كذلك يحي الله الموتى. فكان الأمر منصبّا على القلوب،.. منصبّا على القلوب، لا على الصور والكائنات. ألم يرجع الميت إلى ميتته؟! بعدما ثبتت الآية؟! لكن قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة. 

والإشكال في القلوب لأنه اَلْحَقَ القلوب بالحجارة في الصلابة والقساوة، ونزّه الحجارة فقال (وإن منها لما يشقق)(وإن منها لنا يهبط) أي الانهار من حجر. 

قلنا لكم في البداية إن حياة القلب ونظر المعاني في الصور هو الذي عليه المدار.

(ذلك الكتبٰ لا ريب فيه).

(أولئك على هدى من ربهم).

والآخرون ختم الله على قلوبهم.

وانقسم الناس فريقين، فريق بمجرد إحساسه أنه يملك، يملك قراره ويملك الأشياء يظن أنه يحيي ويميت، والثاني يقول ربي الذي يحيي ويميت.

فيدّعي مطلق التصرف في الأشياء والأحوال (أن ءاتيه الله الملك) وهو كل إنسان يتملك فيدّعي أن كل شيء بيده. ويستمر الأحياءُ القلوبِ يقولون ربي الذي يحيي ويميت. والآخر يستمر أنا اُحيي واُميت.

انقلبت الموازين بينهم وتحولت المفاهيم. 

فلا جرم أن يتعاظم به قلب الحقائق حتى يتوهم أن يقلب الشرق غربا؛ فحينها بُهت الذي كفر. 

ويستمر الأحياء متظاهرين بالحقيقة وهم صامتون إن الله ياتي بالشمس من المشرق، والشمس لا تاتي إلا من المشرق. 

لا تحتاج إلى جدال ومحاجة، لكن المُعدَمي الحياة يحآجّون في ذلك إلى الذي حآجّ إبراهيم في ربه. 

وتعود آيات النمرود في آخر البقرة عودا على بدايتها (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الارض قالوا إنما نحن مصلحون). 

فإذا كان الصلاح مَشرِقا أي بروزا، والفساد مغربا أي أُفولا وضعفا، فهل انقلب عليهم المشرق والمغرب؟!

لا جرم أن يتهكم به إنسان عاقل حيّ يحمل نفس إبراهيم فيبني على طريقته في التفكير التي سار عليها من قلب الحقائق. 

فيقول له إيت بها من المغرب.

هل المشرقية جهة نسبية؟! 

والمغرب جهة نسبية؟! 

وماذا نعمل فيمن يقف في الضفة الجغرافية الاخرى فالمشرق عنده مغرب؟!

وما الحل في من يقرأ القرءان ويمر (وأصحب اليمين)، (وأصحٰب الشمال ما أصحب الشمال) فيفهم أن الجنة والنار مبنى او عمارة، ولها مدخل عن اليمين، ومدخل.

عن الشمال؟! هل هي جهة أم اليمين يُمْنٌ، وهل الملائكة الواقفون بالباب مقابلين للداخلين، بالنسبة لهم فهم في الشمال لأجل اصحاب اليمين، وهم في اليمين لأجل أصحاب الشمال..

قد تبين الرشد من الغي، والله ولي الذين ءامنوا يخرجهم من الظلمت إلى النور.

إني أتخوّف أن نكون من الفصيلة البشرية التي تحمل اسم: (وهُو عليهم عمًى).

 أوْلئك يُنادَون من مكان بعيد.


د. معاذ الخلطي | أستاذ باحث في العلوم الشرعية واللغوية
اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل