الملكية والأحزاب.. والتعاقد الجديد

د. علاء الدين بنهادي

كاينابريس – د. علاء الدين بنهادي(*)

هذا مقال ثالث من سلسلة مقالات حول الإشكالات التي نعتبرها جديرة بالطرح والتناظر حول الشأن السياسي ببلادنا والفاعلين فيه، ملكية ونخبا وباحثين، الأول، الملكية ومخاض ولادة جديدة، والثاني، الملكية وخيار الممر الثالث الآمن، وذلك أملا في الخروج من المأزق الذي توجد فيه النخبة الحاكمة ولم تنجح، حتى الآن، في تجاوزه رغم محاولات وبرامج ومبادرات ملكية وحزبية وحكومية تنسف بعضها، لتعاد الكرة كلما أوشك الوضع على الانفجار، حتى أضحت المبادرات مجرد مناورات لتصريف الأزمات لا لمعالجتها، بل أصبح افتعال أزمة سياسة أو اجتماعية من قبل الحكوميةوسيلة لتجاوز أزمة سابقة، إلا أن هذا العلاج لم يعد ينفع مثل الجسد الذي تعود على المسكنات والمضادات الحيوية حتى فقد القدرة،مع الوقت،على الاستجابة للدواء، فيدخل في غيبوبة عميقة ومستديمة لن تنتهي إلا بمعجزة استثنائية أو في غياب إرادة حقيقية، بالاستسلام والتحلل البنيوي والفشل الوظيفي المميت.

قد يكون مفهوما ومبررا في عالم السياسة والصراع حول السلطة أن تلجأ الملكية غداة الاستقلال إلى تأسيس أو الأمر بتأسيس أحزاب موالية لها في مواجهتها لحزب قوي وطموح مثل حزب الاستقلال، وقد خرج كلاهما من وضعيين مختلفين تماما، الملكية من محنة المنفى والخيانة وفقدان العرش، وحزب ورث مجد الحركة الوطنية يزخر بقادة كثر، طموحاتهم لا تقل عن الندية مع الجالس على العرش، بل، بالنسبة للبعض، أرادوا جعل الملكية ما بعد الاستقلال تتخصص في “مراقبة الهلال”، عبارة نسبت لأحد قادة حزب الاستقلال. لقد كان صراعا قاسيا وتجربة مريرة بالنسبة للملكية تركت ندوبا غائرة في ذاكرة الملوك المتعاقبين على العرش تجاه الأحزاب المستقلة عن إرادتها وسلطانها، فأنشأت أحزابا، سميت بالإدارية، لتعديل ميزان القوة مع حزب الاستقلال، حيث أسست الحركة الشعبية 1957، ثم فيما بعد، 1959، مع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، أسس “الفديك” عام 1963، ثم عقودا بعد ذلك، 1977، أسس التجمع الوطني للأحرار لمواجهة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ثم بعد ثلاثة عقود، 2008، أسس “البام” لمواجهة حزب العدالة والتنمية. لقد كانت كلها ردود فعل وليست أفعالا سياسية تحمل مشروعا مجتمعيا ورؤية نهضوية للدولة المغربية الفتية، لذلك لم تنجح في أي واحدة منها لفقدانها للقرار المستقل والحافز الوطني.

لكن اليوم، وبعد موقعة الثامن من سبتمبر 2021، وبعد أن أصبحت جميع الأحزاب بدون استثناء موالية للملكية، وربما معطلة لتطورها، وبعد إغلاق قوس الإسلاميين ممثلين في حزب العدالة والتنمية، وإن كان هو كذلك في الأصل من الأحزاب الإدارية من ناحية سياق وطريقة التأسيس، أصبحنا أمام ظاهرة غريبة تشكل قلقا حقيقيا للباحثين وصناع القرار على حد سواء، هي وجود منطقة رخوة وفارغة بين الملكية وعموم الشعب، بعد أن كان من المفروض على الأحزاب، معارضة في الأولوإدارية فيما بعد، أن تلعب دور “صمام أمان” للملكية، يحجب عنها شظايا ومخاطر الاحتجاجات الجماهيرية وغضب الشارع، خاصة في ظل حكومة “ثلاثية الأبعاد”، نقصد الحالية، عجزت عن إعادة المغاربة لبيوتهم وممارسة حياتهم وأعمالهم بشكل عادي، بكرامة ورفاهية وحرية، وجعل المال العام في مأمن من السراق والمناصب من الاستغلال، وحماية المؤسسات الدستورية من “الاختراق الطفيلي”، وهذا ما جعل جميع المشاريع والمبادرات والبرامج الاجتماعية والحقوقية الملكية تصطدم بجدار الحكومة الحالية، خاصة الأحزاب الإدارية المتمردة. فما هو دور الأحزاب الإدارية اليوم وما هي قيمتها المضافة في مغرب الغد؟

يجب الاعتراف بأن الحكومة الحالية نجحت في مهمتها، بدعم متعدد الأبعاد، وهي إغلاق قوس حزب العدالة والتنمية، على مرحلتين، 2016 و2021، ولكنها فشلت في مهمة أكبر وأخطر من قوس الإسلاميين، وهي إسعاد المغاربة والاستجابة لانتظاراتهم، وتأمين المرحلة الانتقالية الآمنة بالنسبة للملكية بدون اضطرابات تفجر الشارع كما حصل في 20 فبرايز 2011، ليس لنقص في الكفاءات والإمكانات، ولكن لأن طبيعة الأحزاب الإدارية وجيناتها وتكوينها وأطماعها لا تنسجم مع المهام الاجتماعية والقيمية والإنسانية المنوطة بحكومة مسؤولة دستوريا أمام رئيس الدولة وسياسيا أمام نواب الأمة.

لقد كان على هذه الحكومة أن تستقيل أو تقال يوم التاسع من سبتمبر 2021 من قبل من بيده “العصمة السياسية”، لأن بقاءها واستمرارها حتى اليوم لم ولن يساهم سوى في كشف المزيد من عوراتها ويزيل المساحيق من على وجهها ويفضح انتهازيتها ونرجسيتها ويكشف للناس إثرائها غير المشروع، لتتجلى حقيقتها عارية أمام المغاربة ومخجلة أمام من أوصلها لهذا المجد غير المستحق، وتنفضح أمام رئيس الدولة وأمام الرأي العام، بل أمام العالم، بتهم لا تعد ولا تحصى، تضارب مصالح ومخدرات ونصب واحتيال وتزوير وثائق رسمية وترامي على أملاك الخواص والدولة وإسقاط عضوية رجالاتها وقادتها في المجالس البرلمانية والجماعية والجهوية، بل حتى في هيئاتها السياسية المقررة. لن تنتهي ولاية هذه الحكومة إلا بأحد القرارين، ملكي أو شعبي، ولكل منهما آثار مختلفة، القرار الملكي سيصحح خطيئة وسوء تقدير الثامن من سبتمبر 2021، ويفتح المستقبل على خيارات جديدة تلعب في صناعته وبنائه ورسم خريطته نخب جديدة لمرحلة جديدة، أما القرار الشعبي، في غياب الأحزاب المؤطرة تقليديا لمشاعر ووعي الشعب، فسيكون بلا قيد أو سقف في المطالب، كما كان ذات يوم ربيعي قبل ثلاثة عشرة سنة مع فارق السياق الإقليمي والدولي المضطرب.

لا شك، لقد نجحت الأحزاب الإدارية، كإجراء تكتيكي وظيفي ومناورة ظرفية في مواجهة قوى سياسية صعبة ومسيسة لها طموحات واسعة في الوصول إلى الحكم أو تقاسمه مع الملكية، كما كان حال المغرب غداة الاستقلال وطيلة حكم الملك الراحل الحسن الثاني على وجه الخصوص، وإن كان لا يمكن الاعتماد عليها في اللحظات الحرجة مثل حكومتي اليوسفي وبنكيران، حكومة “السكتة القلبية” وحكومة الربيع العربي، 1998- 2012 على التوالي، ولكن لا يمكن لهذا الإجراء التكتيكي ولهذه المناورة الظرفية أن تحقق أهدافا استراتيجية، بل إن استعمالها لوقت طويل ولأكثر من مرة قد أفسد اللعبة السياسية مبررات وجودها وأفقد الجهة التي تستعملها المصداقية وعنصر المفاجأة، مما جعل بوصلة نقمة الناس وغضبها تتوجه نحو الملكية مباشرة كما نشاهد اليوم ومنذ فترة، احتجاجا أو استنجادا.

ولأن هذه الأحزاب الإدارية لم تخرج يوم الثامن من سبتمبر 2021 من رحم الواقع المغربي العميق، ولم تكن تعبر عن آماله وانتظاراته ولا تمثله، وحتى تستمر في تبرير وجودها الحزبي والسياسي أمام كفيلها، ولأن الشارع المغربي وكل القطاعات الحيوية ترفض بقوة سياساتها الفاشلة، راحت تستبدل التواصل مع الشارع والناخبين بمهرجانات شبابية داخل القاعات الفارهة وبفقرات الرقص والغناء، على حساب المال العام، من أجل التعمية والتضليل والتغطية على فشلها الحكومي والبرلماني والترابي، وعجزها في التواصل مع المغاربة والقوى الفاعلة البديلة، فيما احتجاجات المضربين في جميع القطاعات، وآخرها طلبة الطب، تواجه بالعنف والقمع واللامبالاة.

كلما استمرت هذه الحكومة في الوجود ضدا على كل مؤشرات رفضها عموديا وأفقيا، إلا وزاد عذاب الشعب ونقمته على من أتى بها يوم الثامن من سبتمبر الأسود، وكلما ارتفعت أصوات الناس أيضا لعل الجالس على العرش يتدخل بصفته الدستورية لإنهاء عذاب المغاربة، وحل حكومة الأمر الواقع هذه كما فعل الملك الراحل الحسن الثاني مع حكومة “الفديك” برئاسة أحمد باحنيني عام 1965، بعد أن تسببت في أزمات خطيرة، أزمة المؤسسات الدستورية انتهت بإعلان الملك وقتئذ، مضطرا، حالة الاستثناء عقب انتفاضة الدار البيضاء يوم 23 مارس 1965، والتي أغرقها الجنرال محمد أوفقير في حمام الدم، ثم أعقبها اغتيال الزعيم الاتحادي المهدي بن بركة.

نقول مضطرا، لأن الملك تحمل مصائب حكومة الحزب الإداري، “الفديك”، وقد كان لديه تحفظ على هذا المشروع الحزبي الكارثي، كما أراد تقليل الخسائر السياسية والأمنية والاجتماعية التي تسبب فيها هذا الحزب، من وجهة نظره، إلا أن هذا المشروع الحزبي الغريب على الساحة السياسية الوطنية، سيتسبب للملكية نفسها فيما بعد في توفير المناخ المناسب لمحاولتي الانقلاب، 1971 و1972، من فساد سياسي وأزمة اقتصادية واحتقان اجتماعي واضطراب أمني وأزمة الثقة بين الملكية واليسار ممثلا في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، كما ستتسبب أحزاب إداريةأخرى وغيرها، التجمع الوطني للأحرار والحركة الشعبية والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والعدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة، في العديد من الأزمات المستديمة والأعطاب البنيوية ليس فقط لمؤسسات الدولة والشعب، بل أيضا للملكية نفسها وتطورها، منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي حتى كتابة هذا المقال،حيث ضجت ساحة باب الأحد وشارع محمد الخامس يوم الأحد السادس من أكتوبر الجاري بعشرات الألوف من المغاربة الذين حجوا للعاصمة للاحتجاج ضد السياسات العمومية الفاشلة لهذه الحكومة المعاقة، على الصعيدين الداخلي والخارجي وتضامنا مع قضايا الأمة التي تغيب عنها هذه الحكومة المنفلتة والمعطوبة.

إن الدليل المادي على أن انتفاضة اجتماعية عارمة وغضب شعبي قادم لا محالة، هو أنها وقعت في الماضي أكثر من مرة وبقوة مضطردة، وإذا لم تستدرك الملكية الموقف هذه المرة، بالتشاور والتعاون مع نخبة وطنية خبيرة ونزيهة ووطنية لا تتحمل أي مسؤولية عما آلت إليه الأوضاع بالبلاد،نخبة أغلقت في وجهها هذه الأحزاب الإدارية المتعاقبة أبواب ولوج العمل السياسي الوطني النزيه، وتتخذ الملكية إجراءات وقرارات صعبة ومؤلمة وصارمة، أولها إصلاح الأخطاء التي وقعت على مدى العقود الماضية، خاصة منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، من “استفراخ” لأحزاب بدون مقومات اجتماعية وعمق واقعي ومجتمعي، وبدون مشروع فكري وسياسي وقيمي يمتحي من الثقافة والحضارة المغربية الإسلامية والوطنية، وغريبة عن نبض المواطنين، وناكرة لأصلها ومتمردة على من أسسها في سياقات تاريخية وسياسية صعبة، ولن يتم هذا الإصلاح إلا بحل أو إعادة تأهيلهذه الأحزاب المعطلة لأي تطور للنظام السياسي، والمجهضة لأي مشروع إصلاحي في البلاد، والمستنزفة للثروات والموارد الطبيعية والبشرية، كما أنها أصبحت عبء على الملكية نفسها، حاضرا ومستقبلا، وهدرا للزمن السياسي الثمين، وضياعا لفرص التغيير الحقيقي والإصلاح السياسي والدستوري الجاد، ومعادية لأي فرصة لبناء مغرب جديد يسع جميع أبنائه.

يوجد في التاريخ السياسي المغربي والعربي والإسلامي، بل والإنساني، حالات شبيهة بالأدوار الخطيرة التي تلعبها مثل هذه القوى الحزبية الأوليجارشية والانتهازية التي ولدت خارج رحم الحياة السياسية الوطنية والمجتمعية الشعبية بقرار أحادي وبعملية قيصرية، وتتدثر بأهداب السلطة الحاكمة وتتخفى وراءها عند كل فشل، بحيث تحولت مع الوقت إلى حالة تغول منفلت ومتمرد، تتحرك خارج القوالب الناظمة للعمل السياسي، متحدية النظام القضائي والقوانين والمؤسسات بالبلاد، بما فيها المؤسسة المرجعية التي تستقوي بها في خطاباتها ومهرجاناتها السياسية ومؤتمراتها الوطنية، وأصبحت تهيمن على أغلب مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية، بل أضحت شوكة في كعب الملكية والجهة التي أوجدتها من عدم، وأيضا أصبحت هذه الأحزاب تشكل طبقة رجال مال وأعمال ممتدة وطنيا ودوليا وفق تحالفات مصالح ربما تهدد مصالح الدولة من خلال قرارات وسياسات حكومية طالت بآثارها وانعكاساتها الوخيمة السلم الاجتماعي واستقرار المؤسسات والنسيج الوطني. يبدو أن هذا هو سلاحها في وجه الدولة ومؤسساتها الدستورية في حالة ما حاولت إنهاء تغولهاوتمردهاوانفلاتها من عقالها، هذه الطبقة الحزبيةالصلبة هي منيقود اليوم الحكومة برئاسة رجل الأعمال، الملياردير عزيز أخنوش.

لقد كادت أن تتعرض دول واجهت مثل هذه القوى المتمردة والنافذة داخل مؤسسات الدولة المختلفة وفي قطاع المال والأعمال، قلنا كادت أن تتعرض لتهديد وجودي في نظامها السياسي وسلمها الاجتماعي ومستقبلها، لولا أنها اتخذت إجراءات استباقية قبل فوات الأوان، واستأصلتها ليلة “عشاء أخير”، وبضربة واحدة وللأبد، على يد مختلف الأجهزة والجهات المختصة، حتى تتمكن الدولةمن الانطلاق نحو تطوير نظامها السياسي على أساس تعاقد سياسي واجتماعي جديد، وتحت ظل وسلطان القانون والمؤسسات، تكون فيها الملكية المؤسسة الجامعة لمكونات الدولة والمجتمع المغربي ونخبه الوطنية النزيهة، وتكون الحكومة المؤسسة المنتخبة الحرة والمسؤولة الوحيدة أمام نواب الأمة، وتكون السلطة القضائية مستقلة وحارسة لسلطان القانون وحقوق المواطن، كل هذا في ظل دستور جديد يتوافق على أحكامه الجميع، ويعبر عن إرادة الأمة الحرة والمستقلة ومن يمثلها من خيرة الوطن علما وفكرا ونزاهة واستقامة ووطنية ووفاء.

ومن بين هذه الدول التي كادت أن تهدد وجودها واستقرارها مثل هذه الطبقة الانتهازية المتمردة، نجد المغرب خلال عهد السلطان محمد الثالث الذي واجه خطر جيش عبيد البخاري الذي كان هو من يختار ويعزل السلاطين من قبل، وأيضا حالة الخلافة العثمانية خلال حكم السلطان محمود الثاني مع خطر جيش الإنكشارية الذي أصبح طبقة نافذة وضاربة تعزل وتقتل وتختار السلاطين، وكذلك حالة الخلافة العباسية في عهد هارون الرشيد مع طبقة البرامكة القوية والنافذة، والتي أصبح لها دور في إدارة شؤون الدولة وعزل السلاطين، وكذلك الدولة المصرية الحديثة تحت حكم محمد علي باشا، الذي شعر بأن طبقة المماليك النافذة كانت هي من تحكم حقيقة وتعزل وتدير شؤون الحكم، وتشكل دولة داخل الدولة، فيما كان هؤلاء السلاطين يواجهون غضب الناس وسخطهم بسبب ظلم هذه الطبقة النافذة وفسادها، فما كان على هؤلاء السلاطين إلى أن قاموا بإنهاء ظلم وفساد هذه الطبقة المتمردة قبل فوات الأوان، فأمروا باستئصالها عقب “عشاء أخير” نظم على شرفها.


(*) دبلوماسي سابق، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية.

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل