كاينابريس – د. علاء الدين بنهادي(*)
ليس أمام الملكية اليوم للعبور نحو ولادة جديدة آمنة سوى القطع مع سياسات وعادات دأبت عليها تحت إكراهات الصراع وإغراءات السلطة وسياقات تاريخية عصيبة مرت بها منذ الاستقلال، وأيضا وضع الثقة في نخبة وطنية، القوة الثالثة، لا تتحمل أي مسؤولية أخلاقية أو سياسية أو حزبية فيما آلت إليه الحالة الحزبية والمشهد السياسي والاقتصادي العام ببلادنا، وهذا هو الممر الآمن الوحيد لمغرب الغد، مجتمعا وملكية ودولة. أما القوتان الأخريان اللتان جربتهما الملكية بلا فائدة، الأولى هي الأحزاب التي صنعت في “الحاضنات الاصطناعية” لمواجهة القوة الثانية، منذ الاستقلال، وهي الأحزاب التي خرجت من رحم حزب الاستقلال ثم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بعد الانشقاق عام 1959. ويمثل القوة الثالثة نخبة فكرية وأكاديمية وإعلامية وحقوقية وفقهية تتحرك خارج الصندوق، متحررة، عموما، من أي التزام حركي أو حزبي، وترتبط بقضايا الوطن وهموم المجتمع ومصلحة الدولة كإطار سياسي ومؤسسي جامع.
سننطلق في هذه المقالة من أرضية تصلح للبناء عليها والتوافق بشأنها بين جميع الأطراف الجادة والمسؤولة في هذا النقاش السياسي الوطني، أول أركانها القطع نهائيا مع كل الأسباب التي أوصلت البلاد إلى حالة المراوحة والانسداد الحزبي والسياسي والاقتصادي والحقوقي والاجتماعي والقيمي، وثانيها، أنه ليس هناك تراتبية وإنما شراكة بين أطراف تدبير هذه المرحلة للمرور نحو المستقبل الآمن إلا ما يفرضه الاعتبار الأخلاقي والبروتوكول الدستوري والمكانة التاريخية للملكية كضامنة لوحدة الدولة المغربية وسيادتها وسلمها الاجتماعي ولحقوق مواطنيها، وثالثها، تحديد الثوابت المؤطرة لهذه المبادرة الوطنية، وهي الإسلام، ودولة المؤسسات والقانون، والملكية كنظام سياسي برلماني ومرجعي جامع، والسلم الاجتماعي ورفاهية المواطنين وكرامتهم، والمصلحة العليا للدولة العادلة والقوية في محيطها الإقليمي والدولي واستقلالها وسيادتها، وحماية الثروات الوطنية واستعمالها لرفاهية المجتمع وقوة الدولة، ودستور جديد يعكس كل هذه الثوابت والطموحات والرؤى المستقبلية.
إن إشراك الملكية في وضع وتوجيه السياسات العمومية وتدبير الشأن العام عبر مجلس الوزراء وغيره، في إطار ملكية تنفيذية، سيجعلها دائما في عين الأزمات لغياب المساءلة وازدواجية الصلاحيات، وهذا يختلف عن هذه المبادرة الوطنية للانتقال الحقيقي نحو ملكية برلمانية تبتعد عن الصراعات السياسية، وتلعب دورا تحكيميا جامعا ومرجعيا بموجب الدستور، وتمثل الدولة المغربية في العلاقات الدولية، ولابد أن يكون هذا التطور نابعا من قناعة الملكية وبقرار منها مباشرة، لأن المرحلة القادمة والتحولات العميقة في العالم والمنطقة العربية والإسلامية، تحتم هذا الانتقال نحو حكومة منبثقة عن الإرادة الشعبية، ومسؤولة دستوريا أمام الناخبين ونوابهم في المؤسسة التشريعية وقانونيا أمام القضاء بكل مؤسساته، حكومة تحكم حقيقة تشكلها القوى السياسية الوطنية الجديدة.
وأمام هذه الحالة الحزبية المزرية، وأمام حكومة الأمر الواقع التي أبدعت في جعل المغاربة في حالة إضراب دائم وسخط عام منذ الشهر الأول من تعيينها سبتمبر 2021، وأمام استقالة جل النخب المثقفة من مسؤولياتها العلمية والسياسية والأخلاقية، وتحول معظمها إلى معلقين على الأحداث في مختلف المنابر الإعلامية الوطنية والعربية بمهنة “خبير”، وأمام فشل جميع الأحزاب التي ولدت في “الحاضنات الاصطناعية”، الحركة الشعبية، 1957، و”الفديك”، 1963، والأحرار، 1977، والعدالة والتنمية، 1998، و”البام”، 2008، فشل في النهوض بالمغرب سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ودينيا وديمقراطيا، وعصيانها لكل التوجيهات والنوايا التي كانت وراء تأسيسها، وأمام حالة الاحتقان الاجتماعي والانسداد السياسي والأزمات الاقتصادية المستديمة والمؤشرات الأمنية المقلقة والتغيرات الإقليمية والدولية الخطيرة، أمام كل هذا، تواجه الملكية اليوم صعوبة في إيجاد فرصة لضمان عبور آمن نحو المستقبل، لذا عليها إغلاق قوس هذه الأحزاب المصطنعة الفاشلة في تجاربها الحكومية والمعطلة للمهام البرلمانية والجماعية وللسياسات العمومية، والمطعون جل قادتها في ذمتهم الأخلاقية والمالية أمام القضاء وجهات التحقيق والمؤسسات الدستورية الرقابية، 1957- 2021. كذلك، على الملكية أن تمد يدها للنخب الوطنية الجديدة المتواجدة خارج اللعبة السياسية المحكمة بقواعد الصندوق المغلق الأركان والزوايا، وهي ما أصطلح عليها بـ“القوى غير المهيكلة”، إلا أن هذه القوى الوطنية تحتاج هي الأخرى، كما هي الملكية، إلى مراجعة شاملة لأسلوب عملها ولنظرتها للآخر وسلم أولوياتها وأهدافها.
إن سبب فشل جميع المبادرات السابقة، من وجهة نظري ومما يشهد به الواقع، التي أطلقت هنا وهناك على مدى ربع قرن، من قبل جهات يسارية وإسلامية، هو وقوعها في أخطاء منهجية واستراتيجية وسياسية لابد من تصحيحها لإنجاح هذه المبادرة الجديدة، التي طرحت معالمها الكبرى في مقالة سابقة للكاتب، “الملكية ومخاض ولادة جديدة”، أولها، كون الاصطفاف اليساري الإسلامي قد تم على اعتبار أن الملكية خصمهما المشترك، وهذا دفع بالسلطة إلى التوجس من هذا التقارب بين الطرفين، والعمل على إفشاله ونسفه عبر وسائل مختلفة، إعلامية وقضائية وأمنية، وثانيها، وهو ما ساهم في إفشال هذه المبادرات أيضا، هو أن كل طرف كان ينطلق من انتمائه الإيديولوجي في حواره وتقاربه مع الآخر، بل والعمل على الحصول على تنازلات من الآخر بشأن قضايا جوهرية تتصل بمنظومة القيم والأحكام الشرعية التوقيفية والمرجعية الفكرية والموقف السياسي من الملكية، وثالث أسباب الفشل تجلت في عدم إشراك كل الأطراف الوطنية المعنية بالتغيير والإصلاح في البلد بسبب هذه المقاربة الضيقة والنرجسية لدى طرفي التقارب، خاصة تجربة اليسار، أو بعض الشخصيات اليسارية، وجماعة العدل والإحسان، والتي تراوح مكانها، حتى لا نقول بأنها وصلت إلى الباب المسدود للأسباب السالفة الذكر.
وفي سياق ما طرح في مقالة كاتب هذا السطور، وتعميقا للتصور العام لهذه المبادرة “الإنقاذية” الجديدة، فإن الملكية مدعوة في هذا المرحلة، هي كذلك، إلى الاستفادة من روح مبادرة الملك الراحل الحسن الثاني مع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، رغم أنها كانت عبارة عن “تعاقد غير متكافئ” مع الاتحادي الراحل عبد الرحمن اليوسفي لقيادة مرحلة انتقال السلطة عام 1999 وإنقاذ الملكية من “السكتة القلبية”، لكن على الملكية اليوم تجاوز نواقص هذا “التعاقد المشروط”، نظرا لأن السياق العام اليوم ووضع جميع الأطراف مختلف، ملكية وأحزابا ودولة ومجتمعا، بل ومضطرب ومقلق، مما يجعل تعاقدا متساوي الأركان، لا غالب فيه ولا مغلوب، يفرض نفسه، لتحقيق العبور الآمن نحو مستقبل أفضل ووضع أسلم للجميع، كما أنها مدعوة أيضا، كما فعل الملك الراحل الحسن الثاني مع الاتحاديين والمعارضين عموما، إلى إزالة العقبات وتجاوز الظنون والمخاوف، واتخاذ مسافة واحدة أمام جميع القوى السياسية والحزبية، بل عليها، قبل ذلك، فك الارتباط بأي مكون حزبي ارتبط تاريخيا برجالاتها، خاصة وقد أصبحت هذه المكونات الحزبية تشكل عبئا على الملكية نفسها، وحرجا وقلقا أمام الرأي العام والعالم، وأن قيادات محلية ووطنية من داخل هذه الأحزاب تتابع اليوم أمام القضاء وجهات التحقيق بتهم خطيرة، من مخدرات ونصب واحتيال وتزوير وثائق رسمية وتحرش وممارسات غير أخلاقية، بل لازلنا، وهذا من العبث السياسي، نشاهد انتخابات جزئية بعد قرابة أربع سنوات من ولاية الحكومة الحالية الفاشلة، بسبب هذه المتابعات القضائية في حق بعض قادتها.
تطرح هذه المبادرة فكرة ترك الملكية بعيدة عن الصراعات السياسية والمناكفات الحزبية لكونها مؤسسة غير حزبية تقع على رأس هرم الدولة من الناحية الدستورية، ولا يجوز أن يكون لها علاقة بأي حزب أو جهة أو طبقة لهذه الأسباب الاعتبارية، لأن مكانة السيادة التي لها تقتضي، بل وتحتم على ألا تكون محسوبة على هذه القوة أو تلك ولا تقحم في شؤون الأحزاب وصراعاتها السياسية في المعارضة أو الموالاة، وذلك من أجل مصلحة المجتمع والدولة. إن التعاقد المتكافئ الجديد المطلوب للمرور الآمن لمكونات الدولة المغربية، ملكية ومجتمعا ومؤسسات، نحو مستقبل أفضل كشرط للاستقرار الدائم وتهيئة للبيئة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للملك القادم الحسن الثالث حسب مقتضيات وأحكام الدستور، لابد وأن يتضمن القطيعة مع جميع الممارسات الماضية منذ الاستقلال، ولابد كذلك ألا يسمح لجميع الأحزاب أن تتخذ من الملكية شماعة للهروب من فشلها وتقصيرها وخطاياها في الحكومة والبرلمان والإدارات الترابية، أو تتمترس وراءها عند مواجهة الاحتجاجات الاجتماعية خارج القانون والخروقات الحقوقية السافرة والمظالم القطاعية والأحكام القضائية القاسية والمسيسة، كما يجري منذ سنوات في شوارع المدن المغربية.
وهذا الأمر ينسحب كذلك على كافة المرافق والمؤسسات العمومية في مختلف القطاعات التي تتخذ قراراتها باسم المصلحة العليا والأمن العام، مما يضع الملك شخصيا، وفي كثير من الحالات، خاصة حالة المحاكمات المسيسة والأحكام القاسية، ويضطر للتدخل لإصدار عفوه طبقا لمقتضيات الدستور أو الإقرار بحدوث تجاوزات في بعض الاعتقالات والمحاكمات كما حصل، على سبيل المثال، مع ملفات أحداث 16 ماي 2003. إن هذه المرافق والمؤسسات العمومية هي جزء من هيئات إنفاذ القانون وحماية السلم الاجتماعي وكرامة المواطن وحقوقه، وتنفيذ السياسات العمومية حسب القطاع، تحت سلطة رئيس الحكومة وصلاحياته الدستورية.
هذا التصور الدستوري وهذا البناء المؤسسي لابد منه لإنجاح هذا التعاقد الجديد بدون مناورات سياسية أو التفاف على المبادرة كما حصل في العديد من التجارب السياسية والسياقات التاريخية منذ الاستقلال، لأن الإصلاح والتعاقد السياسي والاجتماعي والدستوري لا يمكن أن يكون إلا بين أطراف وطنية مستقلة الإرادة تتمتع بالشرعية والمشروعية، قد تختلف وجهات نظرها حول تدبير شؤون الدولة المغربية وخدمة مصالح الشعب المغربي للعبور نحو مستقبل مشترك وآمن يتحمل من أجله الجميع نفس المسؤوليات والأعباء والتضحيات، ملكية وأحزابا ونخبا ومجتمعا، كما أن هذا التصور وهذا البناء من أجل تعاقد جديد لا يمكن ضمان نجاحه للعبور بشكل آمن نحو مستقبل سياسي أفضل إلا إذا قبلت جميع الأطراف بما يمكن تسميته بتحقيق “كلمة السواء” بينها في تدبير هذه المرحلة الانتقالية وتحمل المسؤولية، أي أننا لسنا أمام تعاقد إذعان كما كان الحال منذ الاستقلال حتى الثامن من سبتمبر 2021، وإنما أمام تعاقد متساوي الإرادة والمسؤولية كما يفرضه الممر الآمن للجميع نحو المستقبل المشترك.
(*) دبلوماسي سابق، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية.