حلت يوم الاثنين 18 نونبر 2024، الذكرى 69 لحصولنا على الاستقلال.
وبصرف النظر عن النقاش المشروع الذي يطرحه اعتماد هذا التاريخ تحديدا ليكون عيدا للاستقلال، بما أن “الفسخ” الرسمي لمعاهدة الحماية تم يوم 2 مارس 1956، وحتى الإعلان المشترك الذي عبّرت فيه فرنسا عن قبولها مبدأ الاستقلال جرى في تاريخ ثالث (6 نونبر 1955)؛ فإن السؤال الذي يستحق الطرح والنقاش هو ”ما حصيلة هذا الاستقلال؟”.
ماذا أنجزنا وماذا حققنا بعد مرور قرابة سبعين عاما على استعادتنا لسيادتنا بشكل أشبه بالمعجزة، بتعبير المفكر عبد الله العروي، والذي أشار حين استعمل هذه الكلمة إلى كون المغرب من أقل بلدان المنطقة خضوعا للاستعمار، حيث كان آخر المستعمَرين وأوّل المستقلّين.
يستدعي الجواب عن سؤال حصيلة الاستقلال بالضرورة طموحات وأهداف ما قبل الاستقلال. أي ماذا كان أسلافنا يريدون من وراء المطالبة بخروج الاستعمار الأجنبي واسترجاع السيادة الكاملة؟
والجواب سهل للغاية، لكونه موثّق ومرسّم ومرتبط بشكل وثيق بما يعرف بوثيقة المطالبة بالاستقلال، التي قدّمها الوطنيون، إلى سلطات الحماية الفرنسية يوم 11 ينار 1944.
فالنص الذي حمل توقيع 67 شخصا من بينهم امرأة واحدة (مليكة الفاسي)، لم يكن موجّها للسلطات الفرنسية وحدها، بل إن وفد الوطنيين قدم نسخة من الوثيقة إلى السلطان محمد بن يوسف، وضمنها دعوة إلى إقرار نظام “شوري”، أي ديمقراطي.
ويقول نص الوثيقة إن “حزب الاستقلال يلتمس من جلالته أن يشمل برعايته حركة الإصلاح التي توقف عليها المغرب في داخله، ويكلُ لنظره السديد إحداث نظام سياسي شوري، شبيه بنظام الحكم في البلاد العربية الإسلامية بالشرق، تحفظ فيه حقوق سائر عناصر الشعب وسائر طبقاته، وتحدد فيه واجبات الجميع”.
الراحل محمد بن عبد الكريم الخطابي، خلّف وثائق عديدة تعبّر عن تقييمه لسنوات الاستقلال الأولى، والتي اعتبر فيها أن هذا الاستقلال كان ناقصا وشكليا، ولم يكن تحريرا حقيقيا من النفوذ الاستعماري
أي أن الاستقلال لم يكن هدفا معزولا أو مبتورا، بل كان مقرونا بغاية أخرى هي تحقيق الديمقراطية في التدبير وحماية الحقوق والحريات لجميع المغاربة، على قدم المساواة، وإخضاع الجميع لمنطق المساءلة والحساب.
فهل تحقّق شيء من ذلك؟
دعونا “نسأل” شخصيات عاشت لحظة المخاض من أجل الاستقلال، لنعرف مدى رضاها عن الحصيلة التي تحققت بعد النهاية المعلنة لمعاهدة الحماية.
أحد الشاهدين على العصر وأوائل المشاركين في معركة التحرير، الراحل محمد بن عبد الكريم الخطابي، خلّف وثائق عديدة تعبّر عن تقييمه لسنوات الاستقلال الأولى، والتي اعتبر فيها أن هذا الاستقلال كان ناقصا وشكليا، ولم يكن تحريرا حقيقيا من النفوذ الاستعماري.
قائد معركة أنوال الخالدة مات وهو يعبّر عن قلقه من استمرار الهيمنة الفرنسية على مؤسسات الدولة والاقتصاد الوطني، رغم إعلان الاستقلال، معتبرا أن النظام السياسي الذي أُقيم بعد الاستقلال لم يعكس تطلعات الشعب المغربي للحرية الحقيقية والديمقراطية.
من جانبه الزعيم الوطني علال الفاسي، اعتبر أن الاستقلال الذي تحقق عام 1956 مجرد خطوة أولى في مسار طويل نحو تحرير شامل ومتكامل للمغرب.
وربط الفاسي استكمال التحرير هذا بشكل خاص بالبعد الترابي، وكان شديد الانشغال بمصير الصحراء وسبتة ومليلية والجزر المحتلة…
كما انتقد بشدة استمرار الاعتماد على البنية الإدارية والثقافية التي خلفها الاستعمار الفرنسي، وكان يرى أن النخب التي تولت السلطة بعد الاستقلال لم تكن دائما في مستوى التطلعات الشعبية، ومات وهو يطالب بإصلاحات جذرية لتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية وإعادة توزيع الثروات…
كان أحد أبرز شباب الحركة الوطنية، الراحل عبد الرحيم بوعبيد، يقول إن الاستقلال السياسي لن يكتمل إلا بالاستقلال الاقتصادي. وانتقد استمرار هيمنة الشركات والمؤسسات الفرنسية على الاقتصاد المغربي
البعد الترابي الناقص للاستقلال حضر في الخطب والوثائق التي خلّفها زعيم وطني آخر هو المهدي بنبركة، والذي كان يشدّد على ضرورة استكمال الوحدة المغربية ثم تحقيق الوحدة المغاربية، إلى جانب ” بناء اقتصاد متين وتوسيع نطاق هذا الاقتصاد في الفلاحة والتصنيع وبناء ديموقراطية حقيقية”. ومات بنبركة (اختفى في حقيقة الأمر)، وهو يناضل من أجل هذه الأهداف المؤجلة بعد استقلال المغرب.
غير بعيد عن بنبركة، كان أحد أبرز شباب الحركة الوطنية، الراحل عبد الرحيم بوعبيد، يقول إن الاستقلال السياسي لن يكتمل إلا بالاستقلال الاقتصادي. وانتقد استمرار هيمنة الشركات والمؤسسات الفرنسية على الاقتصاد المغربي، وطالب بسياسات اقتصادية جذرية تقوم على تأميم الثروات الوطنية وتنمية القطاعات المحلية لتحقيق الاكتفاء الذاتي.
وحتى آخر أيامه في بداية التسعينيات، كان بوعبيد يردد أن الاستقلال فقد معناه الحقيقي في غياب الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وظل ينتقد تركيز السلطة في يد النخبة الحاكمة، ويدعو إلى إشراك الشعب في اتخاذ القرار السياسي عبر بناء مؤسسات ديمقراطية حقيقية…
وإذا تركنا السياسيين جانبا، سنجد أنفسنا بسهولة أمام صدى صوت الراحل محمد عابد الجابري، وهو يردّد على مسامعنا كيف أعيد تشكيل “القوة الثالثة” التي فرضتها فرنسا كشرط لتسليم السلطة، وذلك مباشرة بعد الاستقلال باسم “جبهة الدفاع عن الحريات الديموقراطية”، وكيف كانت قوة مصطنعة يراد منها تكسير تلك الوحدة التي جمعت العرش والحركة الوطنية في صف واحد للكفاح من أجل الاستقلال.
فيما أجاب المؤرخ عبد الله العروي في كتابه “استبانة” (2016) عن سؤال هل حققت الوطنية المغربية أهدافها؟ بالقول: “بما أن لفظ استقلال لفظ مشترك يحمل معاني شتى يمكن القول إن الحركة الوطنية المغربية حققت هدفها الأساس بفسخ عقد الحماية (الفرنسية)، وفي الوقت ذاته لم تحققه، بمجرد الإعلان عن هذا الاستقلال، إذ أن الفرد المغربي لا يزال يعاني من آلام الفقر والجهل والمرض”.
وحتى عندما مرت أربعة عقود كاملة وبات الجابري يبارك مشروع التناوب الثاني مع عبد الرحمان اليوسفي (الأول كان مع حكومة عبد الله إبراهيم)، لم يجد هذا المفكّر الاتحادي بدا من القول إن ما تحقق في مجال التعليم خلال أربعين سنة، ما زال بعيدا عن المطلوب، وأن الرتبة المخجلة التي حصل عليها المغرب في تقرير برنامج الأمم المتحدة لعام 1998 تعكس هذا الواقع.
وإذا استحضرنا خلاصات تقرير الخمسينية الذي صدر بعد عقد كامل من تقييم الجابري هذا، وما عادت الخطب الملكية بعد عقد آخر لتعلنه من فشل جديد جسّده سؤال “أين الثروة” الشهير، وما نعيشه اليوم في نهاية العقد السابع من الاستقلال من مظاهر الفشل المتراكم في مشروع تخليص المغربي من ثلاثية “الفقر والجهل والمرض” التي تحدث عنها العروي… فإننا نصبح دون أدنى مبالغة أمام ذكرى يمتزج فيها الفرح بالأسى.
فرح باسترجاع الحرية والسيادة، وأسى بانهيار أحلام الوطنية المغربية التي أرادته مغربا حرا وديمقراطيا ومتقدّما.
بأي حال عدت يا عيد..؟