كاينابريس – رضوان نافع
إن ما يجري في غزة العزة يتألم له كل مؤمن لا زال في قلبه جذوة الإيمان ولا زال الولاء للمؤمنين من عقيدته، بل يتألم له كل إنسان لا زالت فطرته سليمة، لكن يسلينا أننا نعلم أن شهداءنا الذين قضوا بغزة والحمد لله قد خرجوا من هذه الدنيا -ولو على إثر هذه الشدة وهذا البلاء واللأواء- إلى رحمة الله الواسعة العظيمة وإلى الجزاء الجزيل للشهداء فهم أحياء عند ربهم يرزقون قد أبدلهم الله دارا خيرا من دارهم. وأهلا خيرا من أهلهم وأزواجا خيرا من أزواجهم. والله سبحانه وتعالى أكرمهم.
فللشهداء خصوصيات كما جاء في السنة الشريفة على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم منها: أنه يغفر له عند أول قطرة تسيل من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويزوج اثنين وسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه. كما روى ذلك الترمذي .
ومنها: أنهم {أحياء عند ربهم يرزقون} كما في القرآن العزيز، وأن أرواحهم في جوف طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل تحت العرش. كما رواه مسلم.
ووعد ربنا سبحانه حق لا يخلف وعده.
فشهداؤنا فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
ولو رجعوا للدنيا لطلبوا الشهادة في سبيل الله لما رأووا من كرامة الله للشهداء وجزيل ثوابه لهم .
هذا حال شهدائنا والحمد لله وعندنا اليقين في هذا الامر. قد عوضهم الله بعد خوفهم أمنا. وعوضهم بعد آلامهم راحة لا نصب فيها وعوضهم الله سبحانه وتعالى بعد جوعهم جنة لهم فيها ما تشتهي أنفسهم ولهم فيها ما يدعون، عوضهم الله بكل البلاء والضيق الذي أصابهم جنة عرضها السماوات والأرض ونعيما مقيما لا يمسهم فيه نصب ولا لغوب.
نعم شهداؤنا لهم عند ربهم كرامة لو رأى منها الاحياء بعضا لطلبوا الشهادة جميعا بصدق.
إن في أقدار الله الخير العظيم الذي قد يخفى وإننا نحسب أن الله جمع لإخواننا في غزة حظا عظيما من الفضل والخير والكرامة فهم اليوم في جهاد ومن لم يكتب له الشهادة منهم فإن الله يعظم أ جره على كل حال
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن في الجنةِ مائةَ درجة أعدَّها الله للمُجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتُم اللهَ فاسأَلوه الفردوسَ فإنه أوسطُ الجنة، وأعلى الجنة، وفوقَه عرشُ الرحمن، ومنه تفجَّرُ أنهارُ الجنة»؛ [حديثٌ صحيحٌ على شرط الشيخين]
وهم في رباط على الدوام، وثباتهم في ديارهم تحت وطأة الحرب و الحصار لن يضيع اجره عند الله، فعن سهل بن سعدٍ -رضي الله عنهما-، أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «رِباطُ يومٍ في سبيل الله خيرٌ من الدنيا وما عليها، وموضِعُ سوط أحدِكم من الجنة خيرٌ من الدنيا وما عليها، والرَّوحةُ يروحُها العبدُ في سبيل الله أو الغَدوة خيرٌ من الدنيا وما عليها» (رواه البخاري ومسلم).
وعن سلمان -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «رِباطُ يومٍ وليلةٍ خيرٌ من صيامِ شهرٍ وقِيامه، وإن ماتَ فيه جرَى عليه عملُه الذي كان يعمل، وأُجرِيَ عليه رِزقُه، وأمِنَ من الفتَّان» (رواه مسلم).
وعن فضالَة بن عُبَيدٍ -رضي الله عنه-، أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «كلُّ ميتٍ يُختَمُ على عمله، إلا المُرابِط في سبيل الله، فإنه ينمِي له عملُه إلى يوم القيامة، ويُؤمَّنُ من فتنة القبر» (رواه أبو داود والترمذي بإسنادٍ صحيح).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من ماتَ مُرابِطًا في سبيل الله أُجرِيَ عليه الصالِحُ الذي كان يعمل، وأُجرِيَ عليه رِزقُه، وأمِنَ من الفتَّان، وبعثَه الله يوم القيامة آمِنًا من الفزع الأكبر» (رواه ابن ماجه بإسنادٍ صحيح).
وأهل غزة يعيشون محنة عظيمة وخوفا وضيقا وشدة لكن تحتها منحا فإن الله لن يضيع أجورهم فأهل البلاء الصابرون أعظم أجورا يوم القيامة .
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [العنكبوت: 58- 59].
وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10].
وقال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 155- 157].
نحسب أهل غزة أهل إيمان ودين متين يبتليهم الله على قدر إيمانهم لتكفير سيئاتهم ورفع درجاتهم؛ روى ابن ماجة (4023) عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟، قَالَ: «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ البَلَاءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ».
وفي الصحيح عن صُهيب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابتْه سراء شَكَر فكان خيرًا له، وإن أصابتْه ضراء صبر فكان خيرًا له”.
وفي الصَّحيحَين عن أبي سعيدٍ: أنَّ رسولَ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: “ما يُصيب المؤمنَ من وصبٍ ولا نصبٍ، ولا همٍّ ولا حزنٍ، ولا غمٍّ ولا أذًى، حتَّى الشَّوكة يُشاكُها – إلاَّ كفَّر الله بها من خطاياه”.
وأهل غزة ما منهم إلا فقيد شهيد أو محتسب لديه صفي فقيد، وقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاءٌ إذا قَبضَتُ صَفيَّهُ من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة”.
فكم من الخير أراده الله بأهل غزة فكم أصاب من دمائهم وأموالهم وأنفسهم وقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من يُرد الله به خيرًا يُصب منه”.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط”.
ونشهد أننا رأينا أهل غزة صابرين راضين ثابتين زادهم الله ثباتا وصبرا ورضا وعجل لهم بالنصر والفرج القريب.
ومع كل ما يسلينا من فضل الله على إخواننا في هذه المحنة لكننا نرجوا من الله عز وجل أن يشفي صدورنا باندحار أعداء الله وانتقامه منهم و علو كلمته و ظهور أوليائه وأن تقوم للاسلام قائمة، نرجوا من ربنا سبحانه أن يشفي صدورنا برجوع أرض المسلمين إليهم بتحرر الاقصى وأكنافه فلا يبقى شبر من أرض المسلمين تحت سلطة أعداء الله.
إن الذي يؤلم المسلم أكثر من موت واضطهاد إخواننا في غزة خذلان إخوانهم لهم. نعم لقد آلمنا أكثر هذا الخور والضعف أمام عدو حقير -أبان رجال المقاومة المجاهدون مع قلة عددهم وعتادهم عن ضعفه وحقارته وخسته وجبنه- فرأينا أمة المليار ونصف مسلم تتخاذل عن مواجهته و نصرة المستضعفين المرابطين من أبنائها ، لقد جبنت وتخاذلت أن تقف في وجه هذا العدو الغاشم حتى بلغ بها الحال أن عجزت عن مواقف وقفها أناس من الكفار المنصفين الذين تحركت إنسانيتهم للمشاهد الفظيعة التي رأوها ، هذا هو الذي يؤلمنا حق الإيلام ويؤلم المجاهدين الصامدين وأهل غزة المستضعفين.
يؤلمنا ما وصلت إليه أمة الإسلام من هوان حتى أن عدوها لا يلقي لهم بالا و هم دول تحيط بالعدو من كل جانب بعددهم وعتادهم ، يؤلمنا تغير الحقائق وانتكاس الأفهام وصيرورة الحق باطلا والباطل حقا حتى أصبح الجبن والخور والتخاذل دينا يتعبد الله به، يؤلمنا تخوين المؤمنين المجاهدين الذين يقاومون المحتل ويقفون في وجهه كما أمر الله عز وجل وجعل ذلك علما وحكمة وسياسة.
يؤلمنا أن ينظر المسلمون إلى إخوانهم يقتلون وقد فقدوا كل مقومات الحياة من طعام وماء ودواء وكهرباء، ولهم مع غزة حدود واسعة فيواطئون أعداء الله على حصارهم وخنقهم، ويتنكرون لكل ما يأمر به الشرع من وجوب النصرة و الولاء وإغاثة الملهوف، ويتمسكون بمصالحهم و يناورون ببرودة مقيتة من خلال الأعراف والمواثيق الدولية زعموا ، هذه المواثيق التي داسها الصهاينة بأقدامهم و ارتكبوا المجازر تلو المجازر في حق إخواننا المحاصرين.
يؤلمنا أن يطلب المسلمون من جلادهم أو أعوانه أن ينصفوهم من أنفسهم في خنوع تأباه حتى البهائم البكماء والدواب العجماء.
يؤلمنا جدا سكوت العلماء و خفوت صوتهم ومواطأتهم للحكام المتخاذلين وترك ما أوجب الله عليهم من البيان والصدع بالحق ، بل وتقدم الناس في نصرة المظلوم ورد صائلة العدو عن المسلمين، ورحم الله الشيخ تقي الدين الهلالي إذ يصف حالهم قائلا: “ففتش تجد أن أكثر هؤلاء العلماء يسمعون ويرون ما يجري في فلسطين وطرابلس وتونس والجزائر والمغرب وحضرموت ولا يحركون ساكنا، وكأن ذلك ليس من الإسلام فى شيء ولا يعنيهم ولا هو من شأنهم.
ولو قيل لهم إنكم مخالفون للنبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه وسالكون في ضد طريقهم، وأن الحجاج بن يوسف أفضل إسلاما منكم ألف مرة، لأن غزوة واحدة من غزواته إذا وضعت في الميزان، ميزان العلم والدين ترجح بجميع أعمالكم، لو كان لكم عمل صالح، ورمت أنوفهم من ذلك.
فليمحوا آيات الجهاد من القرآن والكتب المروية عن النبى ﷺ إذا أرادوا أن يكون دينهم الذي هم عليه صحيحا، وليمحوا سيرة النبى ﷺ وخلفائه وأمراء الإسلام الصحيح من جميع كتب الدنيا، وإلا فليعلموا أنهم ليسوا على صراط مستقيم فليتوبوا إلى الله وليرجعوا إلى دينهم، ويحكموا كتاب ربهم وسنة نبيهم كلها قولا وعملا. والله يقول الحق وهو يهدى السبيل”.
[مقال بمجلة الهدي النبوي العدد 21 السنة الثانية – ذو الحجة 1357هـ].
يؤلمنا كثيرا أن ينظر بعض هؤلاء العلماء لتخاذل الحكام ويسوغ لهم ذلك والشرع بل والطبع يشهدان ببطلانه، حتى سوغوا لهم ما يمكن أن يدخل في مظاهرة الكفار على المسلمين، وهو من نواقض الإسلام، وتجنوا في سبيل ذلك على أهل الخير من المجاهدين والمرابطين فوصفوهم بما هم منه براء من الإرهاب والخروج…
يقول الشيخ تقي الدين الهلالي: “وبسبب كتمان هؤلاء للحق.. انهدم ما بقي من الإسلام ولا يزال ينهدم. فصار عامة المسلمين وجهلتهم حين رأوا علماءهم أماتوا الجهاد، يتطوعون في صفوف أعداء قومهم وملتهم ويحاربون إخوانهم المسلمين، وربما أفتاهم.. العلماء بأنهم على حق في عملهم، وأفتوا بأن المجاهدين القائمين بهذا الفرض المُضيع خوارج على الدولة وقطاع طريق ومفسدون فتانون. فهم فى هذا شر العدوين.. والفريقين، مع ما في مسلكهم من النذالة والخيانة التي يتنزه عنها أشراف الكافرين”.
[من مقال “الجهاد روح الدين وقوام الدنيا” مجلة الهدي النبوي العدد 21 السنة الثانية – ذو الحجة 1357هـ].
وختاما فليبشر كل مسلم غيور موال لإخوانه فملامح النصر تظهر بإذن الله لكل ذي بصيرة، وثمار هذه المعركة الحاسمة مع العدو لعلنا نخصص لها مقالا خاصا إن شاء الله.