كاينابريس – يونس مسكين(*)
عضو في أعلى هيئة تقريرية في الحزب الذي يقود الحكومة والمشهد السياسي المغربي بالكامل، معتقل لدى الشرطة الألمانية بناء على مذكرة بحث دولية، في قضايا مرتبطة بجرائم مالية وتدبيرية.
محمد بودريقة الذي ينتظر استكمال إجراءات تسليمه رسميا للسلطات المغربية وفقا للاتفاقات القائمة بين البلدين، غادر المغرب منذ أكثر من عام، وترك خلفه مسؤولية في البرلمان ورئاسة جماعة ترابية وواحد من أكبر الفرق الرياضية… ولا يريدنا البعض أن نلعن هذا الواقع السياسي الذي أفرزته هندسة صنعت الخريطة الانتخابية ونسيت أن تصنع نخبة.
بودريقة ليس الوحيد. ولا يمكن أن يصدر مثل هذا الشعور العام بوقوع الشأن العام المغربي بين أيدي كائنات لا تعرف من التدبير سوى الاغتناء والربح السريع.
وحتى لا يغضب منا جمهور الرجاء البيضاوي فإن بودريقة وجه ثان لعملة سبق أن شغل رئيس نادي الوداد البيضاوي، سعيد الناصري، وجهها الأول. وكي لا يقال إننا نختزل المشاكل كلها في مدينة الدار البيضاء، فإن المصيبة عامة ولم تسلم منها شقيقتها الرباط التي تستعد لانتخابات تعويض نائب برلماني آخر أدين بحكم نهائي بتهمة إصدار شيكات بدون رصيد، وللصدفة فهو ينتمي أيضا لحزب التجمع الوطني للأحرار.
وعلى غرار الناصري الذي يحاكم حاليا بتهم جناية، وكان قياديا بارزا في حزب الأصالة والمعاصرة، بل واحدا ممن صنعوا الخريطة الانتخابية للعاصمة الاقتصادية، فإن قياديا آخر في الحزب نفسه، لا يقلّ أهمية عنه اعتقل بدوره بعدما تسيّد المشهد السياسي في أقصى شرق البلاد، وهو امبراطور صفقات الطرق والقناطر عبد النبي بعيوي.
وبين أقصى الغرب وأقصى الشرق ها هي فاس تحصي ما تبقى من منتخبيها البرلمانيين والجماعيين، بعدما اكتظت السجون بمن يفترض فيهم تمثيل الساكنة وتجسيد إرادتها…
ألا يكفي كل هذا كي يراجع الماسكون بقلم رسم الخرائط السياسية والانتخابية حساباتهم؟ هل يجوز لنا أن نغضب مجددا من ألمانيا أو غيرها من الدول الأجنبية، حين سنكتشف أحد تقاريرها الاستخباراتية حول الأوضاع السياسية في المغرب (كما حدث سابقا)، ونقف على قبح صورتنا وقلة احترامنا وانعدام الثقة فيها وفي مؤسساتنا من طرف أصحاب القرار ومالكي رؤوس الأموال والمستثمرين؟
إلى متى سنواصل دسّ رؤوسنا في الرمال وتجاهل هذا الرقم الذي تجاوز الثلاثين من أعضاء البرلمان المعتقلبن أو المتابعين بتهم مخجلة؟ إلي متى سنعيش حالة الإنكار والهروب الجماعيين من الواقع، وادعاء وجود حياة سياسية ومؤسساتية طبيعية “تتخللها بعض العيوب والمشاكل”؟
حالة محمد بودريقة وحدها كافية كي نجلس أرضا ونراجع أنفسنا ونبحث عن الأسباب التي جعلتنا نراكم كل تلك الشبهات في حالة واحدة، الله وحدها حجم الغابة التي تخفيها. هذا رجل واحد لا نعرف له كفاءة ولا كاريزما ولا أفكار تبرّر كيف أصبح عضوا قياديا في حزب يتربّع على عرش المؤسسات الحيوية للبلاد، ويدبّر جماعة مهمة في الدار البيضاء، ويتولى مسؤوليات في الجامعة الملكية لكرة القدم سمحت له بتوزيع تذاكر دخول مباريات كأس العالم في قطر، مع ما رافق ذلك من “شوهة” عالمية.
ورغم كل هذا، عشنا أكثر من سنة نتفرّج على رجل بكل هذه المسؤوليات، يطلّ علينا من الخارج، ويترك مقاعده السياسية والتدبيرية شاغرة، بينما نكتفي نحن ويكتفي معنا رئيس الحكومة ورئيس البرلمان، وهما “زميلان” لبودريقة في الحزب، بالفرجة كما لو أن شيئا لم يقع.
لقد بصقنا في الحساء يا سادة، وأفسدنا اللعبة، وأتينا بكائنات مدفوعة برغبة جامحة في الربح ومراكمة الثروات، وفتحنا أمامها مسارا للثقة في إمكانية التفنن في ممارسة الفساد بكل أشكاله الاقتصادية والسياسية، وأطلقنا أيديهم في سوق الانتخابات فاشتروها “حبّ وتبن”، وأحرقنا الخيمة وها نحن اليوم “نكحّل برمادها” كما يقول شاعر الراي الكلاسيكي.
حاورت خلال اليومين الماضيين سياسيين، رجل وامرأة، قاسمهما المشرك هو المسار النضالي الطويل في هيئتين مختلفتين، ولهما وضع متباين اليوم بين من اختار الاعتزال والانزواء ومن اختار الاستمرار وخوض المعركة.
وبينما اختلف الضيفان في أمور كثيرة، إلا أن أجوبتهما بخصوص الوضع السياسي والانتخابي الحالي كادت تتطابق. هناك إجماع على أن الحقل السياسي تعرّض للإفساد والإضعاف الممنهجان منذ التراجع عن المنهجية الديمقراطية سنة 2002 على الأقل. لكن الضربة القاصمة التي كسرت ظهر السياسة في المغرب جرت في انتخابات 2021 التي تكاد تكون أكثر سوءا حتى من انتخابات التزوير واختطاف الصناديق التي كان المغرب يعرفها في سنوات الرصاص.
لقد أسعفتنا السلطات الأمنية في ألمانيا في توقيف سياسي هارب من العدالة، لكن إرادة سياسية صريحة وصادقة، وانخراطا شعبيا شاملا، وحدهما يمكنهما مساعدتنا في استعادة الثقة في السياسة وتخليصها من نخبة المطاريد.
(*) صحفي وباحث مغربي