بيادق في رقعة شطرنج

حسن أوريد5 أبريل 2024
حسن أوريد

كاينابريس – حسن أوريد(*)

تعدَّدت التعبيرات التي تجسّد واقع الاحتقان الذي يطبع العالم العربي، الداء العربي كما وصفه “منصف المرزوقي”، والمأساة العربية بتعبير “سمير قصير”، والوعكة العربية “برهان غليون”، والمعضلة العربية “فؤاد عجمي” و الاحتباس “هاشم صالح”… إلخ.

يضيف الصحفي البريطاني جريمي بوين Jeremy Bowen مصطلح “التعفّن” في كتاب له يتضمن تجربته الطويلة في الشرق الأوسط، منذ عاصفة الصحراء حتى الحرب الروسية الأوكرانية، والتداعيات السلبية لهذه الحقبة على العالم العربي، من خلال تجربة شخصية. يحمل الكتاب عنوان: “صنع الشرق الأوسط الحديث”، صدر سنة 2022، ولم يكن ليعرض بطبيعة الحال لما تحبل به فلسطين.

بيدَ أنه لم يُزح القضية الفلسطينية من اهتماماته، ليس لأن النزاع الفلسطيني الإسرائيلي لم يكن يتصدر واجهة الإعلام، حينها، بل إنه طُمر نهائيًا، كما قال الكاتب في ثنايا الكتاب. لم يكذب تطورُ الأحداث نبوءة بوين، إذ تعود القضية الفلسطينية إلى الواجهة، مُخضّبة بالدماء. أما الاستنتاج الثاني، القوي الدلالة، هو أن لهيب الشارع الذي اشتعل شتاء 2011، وانطفأ عقبها، يمكن أن يلتهب ثانية، إذ الظروف الموضوعية التي دعت الشباب للخروج من أجل أوضاع أفضل، لا تزال قائمة، حسب الصحفي العارف.

العالم العربي، أو الشرق الأوسط، يقف إذن على صفيح ساخن. تسود الشرق الأوسط حالة من اللا استقرار، وهذه الحالة هي بمثابة تعفّن، وكل تعفن فهو مُعدٍ، لأن الأشياء الكبرى في الشرق الأوسط متداخلة، منها التوزُّع ما بين السُّنة والشيعة، والجمود السياسي، والوضع القبلي، والاحتقان الاجتماعي. فهل تَصدُق نبوءة بوين الثانية بعد أن صدقت نبوءته الأولى؟

استعاد العالم العربي بعضًا من عافيته، في شتاء 2011 حين رفعت شريحته من شبيبته تطلعات مشروعة وطرحت أسئلة سديدة في قوالب كونية تروم الحرية والعدالة والكرامة، وتنتفض ضد احتكار السلطة والثروة، مما حمله شعار “لا للاستبداد، لا للفساد

يظل الكتاب في تقييمي المتواضع من أهم الكتب التي أكبّت على جسد العالم العربي، ووقفت على دائه أو أدوائه، بسمّاعة الطبيب لا مزاعم الدجال، أو تخرّصات قارئ الفنجان؛ لأنه خبَرَ شؤون العالم العربي لأكثر من ثلاثين سنة، وغطّى بؤره الكبرى، من حرب عاصفة الصحراء، وأفغانستان، ولبنان صيف 2006، فسوريا منذ انفجار الثورة فيها، إلى “الدولة الإسلامية”، حتى اليمن. وهو إلى ذلك يتحلى بنظرة موضوعية، بل يمكن أن نستشفّ في ثنايا الكتاب تعاطفه المضمر مع هذا العالم الذي خبر شؤونه وعرف قضاياه وتعرف على الحاكمين فيه والمؤثرين منه، ووقف من ثمة على أدوائه.

لا يمكن التستر عن حالة الاعتلال التي يعانيها العالم العربي، أو للدقة الشرق الأوسط. من أعراض الداء أن كثيرًا من الأشياء التي يمكنها أن تجري بطريقة سوية تجري بطريقة معطوبة، والعَرَض الثاني، وهو الأمر الذي ينبغي أن يدفع إلى تفكيرٍ، هو أن الشرق الأوسط لم يجد بعدُ مكانًا مريحًا في العالم الحديث، حسب تعبيره، أو بتعبير آخر، هو ضيف ثقيل على العالم العصري… يتوفر على كل شيء كي يكون فاعلًا ومؤثّرًا، من موقع جغرافي، ورصيد تاريخي، وغنى، وتعدد موارده، لكنه غير مؤثِّر؛ لأنه يشكو وضع التبعية، أو ما نقله بوين عن الصحفي سمير قصير، عناصره هي بمثابة بيادق في رقعة شطرنج.

تُلازم العالمَ العربي إذ يصحو بعد فترة سُبات عميق، لعنةُ كابوس مُروّع. بدا العالم العربي واعدًا في نهاية تسعينيات القرن الماضي، مع أمل خلافة أوتوقراطيين كانوا يستندون إلى شرعية تاريخية، ويوظفون عقدًا اجتماعيًا ضمنيًا، قوامه الدعم الاجتماعي والإمساك عن الخوض في الشؤون العامة من خلال الاستئثار بالفعل السياسي، لكن هذا المد الذي بدا قويًا في الجزائر والأردن واليمن والمغرب، انتفش بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول. تغيّر العالم، وتغيّرت أولويات الغرب، وانعكس ذلك سلبًا على العالم العربي.

استعاد العالم العربي بعضًا من عافيته، في شتاء 2011 حين رفعت شريحته من شبيبته تطلعات مشروعة وطرحت أسئلة سديدة في قوالب كونية تروم الحرية والعدالة والكرامة، وتنتفض ضد احتكار السلطة والثروة، مما حمله شعار “لا للاستبداد، لا للفساد”، لكن قيام “الدولة الإسلامية” أوقف المد، ووقعت المنطقة من جديد في أَسْر سلطوية أشد وطأة من السلطوية التي انتفض شباب 2011 ضدها.

لا يمكن أن نقف عند مجرد رصد هذا التلازم بين بسط وقبض، أو صحو يعقبه كابوس. ينبغي أن نذهب إلى العِلّة، أو الفرملة التي تُحوِّل النهوض إلى كابوس.

لماذا تنتفض الراديكالية لتوقف الحفلة بعد كل فترة صحو، وتبدد حبات العقد بعد كل سعي لنظمه؟ هل الراديكالية سبب أم نتيجة؟ وفق نظرة بوين، الراديكالية هي نتيجة وليست سببًا، إذ هي رد فعل أرعن، على واقع موبوء، والمطلوب هو رد فعل ذكي، على وضع معتل، إذ كما يقول بوين: “الأجانب، أو تدخل الغرب، يَحمل مسؤولية ثقيلة في كل ما جرى في الشرق الأوسط لسنين عديدة، من خلال تدخلات غير مرغوبة، من تسلط، وبيع الأسلحة، وتشجيع ديكتاتوريين يجارونهم.

كان يتم التغاضي عن كل الخطايا بالنظر إلى وضع العالم العربي كدرع حامية ضد السوفيات. نفس الشيء بالنسبة للعلاقة المتميزة ما بين الولايات المتحدة وإسرائيل. بناء علاقات وطيدة (مع الغرب) من دون طرح أي سؤال، سمح لأنظمة سلطوية أن تزدهر وتَحُول دون قيام معارضة حقيقية. “.. لئن قمع حكام فاسدون شعوبهم، ونهبوا ثرواتهم، وسرقوا حريتهم، فيمكن للمتشددين أن يستقطبوا (دومًا) أتباعًا لهم”. وبتعبير آخر، انتفاء الحرية، والاستئثار بالثروات، هو التربة الخصبة للراديكالية. لا ينبغي الوقوف عند العَرَض وهو الراديكالية، ويلزم الذهاب إلى السبب أو العِلّة، وهو مصادرة حرية الشعوب ونهب خيراتها وسرقة أحلامها. ولا أظن أن قارئًا حصيفًا، ومهتمًا وموضوعيًا، لا يشاطر ما انتهى إليه بوين.

ينصح بوين في خاتمة كتابه القوى الكبرى أن تكُفَّ عن الإيذاء أول الأمر، وثانيًا، أن تعمل في جعل الأشياء أفضل. الزعم بالقيام بأشياء أفضل قبل التوقف عن إتيان أشياء مُضرّة، غير مُجدٍ. وقياسًا على معادلة بوين، ليس من المجدي أن “تُقدم” الولايات المتحدة “مساعداتها الإنسانية” في غزة، قبل أن تكفّ عن تسليح إسرائيل.

هل يستطيع مفكرو العالم العربي وقادته، أن يكتبوا الفصل الأخير من الكتاب لا تكون فيه عناصر العالم العربي مجرد بيادق في رقعة شطرنج؟ هذا هو الرّهان في هذا الفصل الجديد الذي بدأ مع “طوفان الأقصى”. الأبواب مشرعة لاستمرارية التبعية، ووضع البيادق على رقعة الشطرنج، لكن إمكانية التحرر قائمة كذلك، إذا أُخِذ بعين الاعتبار أن الراديكالية هي نتيجة وليست سببًا، وأن على القوى الكبرى أن تتوقف عن الإتيان بأشياء سلبية، وهي في حلٍّ من السعي (أو الزعم) في أن تجعل الأشياء أفضل.


(*) روائي مغربي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط.

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل