بين يدَي الاستشراق.. الشرق الأوسط مشروع لا مفهوم

د. سيف الدين عبد الفتاح

الحديث عن الشرق الأوسط يجب ألّا يكون في إطار التوقّف عنده “مفهوماً”، ليتخطَّى الاهتمام إلى كونه “مشروعاً” استهدف المنطقة كما حدّدها الغرب، وهو أثَّر في الاهتمام الاستشراقي، وفي المشروع النهضوي عربياً كان أو إسلامياً. في هذا المقام، يجب أن نتذكَّر ونبحث في الذاكرة التاريخية لمفهوم “الشرق الأوسط الكبير”، فعقب الحرب العالمية الثانية، وبروز صيحات الاستقلال هنا وهناك، حاولت السياسة الاستعمارية البريطانية التحايل على ذلك بأنّ قدّمت مشروعاً تشترك فيه مصر والأقطار العربية المستقلّة في ذلك الوقت، وضمّ بعض الأقطار الإسلامية المجاورة، مثل تركيا وإيران وباكستان، وكان يربطها جميعاً مع بريطانيا وأميركا في تكتّل سياسي وعسكري بحُجَّة الدفاع عن الشرق الأوسط، ضمن مشروع سمَّته في ذلك الوقت “الدفاع عن الشرق الأوسط”. واعتبره المصريون آنذاك وسيلةً لتبرير بقاء الجيوش الأجنبية والنفوذ العسكري والسياسي البريطاني في مصر، ولذلك عارضوه بشدّةٍ وبإجماعٍ لا نظير لهما، وخرجت مظاهراتٌ شعبيةٌ وطلابيةٌ حاشدةٌ تهتف ضدّه، وأدّى ذلك إلى رفضه نهائياً.

برزت المشروعات التي تحمل شعار “الشرق الأوسط” تاريخياً لتُعبَّر عن هدف السيطرة على المنطقة بأشكالٍ وأساليبَ تختلف حسب الزمان والمقام، وهي وسيلةٌ تُشكّل حلقةً متصلةً (سواءٌ أكان هذا “الشرق الأوسط” “جديداً” أم “كبيراً”)، لتحويل أنظار الشعوب (إسلامية أو عربية)، عن هدفها الاستراتيجي، الذي أجمعت عليه “الأمّة” منذ سقوط الخلافة العثمانية، والذي يهدف إلى إعادة بناء المنطقة العربية والإسلامية، وإعادة توحيدها في صورة عصرية من خلال بناء تكتّل إقليمي يضمّ دول العالم الإسلامي العربية وغير العربية، وهو أمر يُحيلنا إلى قواعد النظر السليم لمشروعات الشرق الأوسط؛ هذا النظر الذي لا يكفي فيه مُجرَّد رفض تلك المشروعات التي تحمل شعار “الشرق الأوسط”، بل لا بدّ من أن تضع القوى الفاعلة سياقات عملية لبناء تكتّل عربي إسلامي إقليمي عصري مُستقلّ عن نفوذ الإمبراطوريات الأجنبية، التي تريد استغلالها والسيطرة عليها. ومشروعات شعار الشرق الأوسط ليست إلّا تحايلاً أجنبياً يرادُ به تجاهلَ وحدة الأمّة العربية الإسلامية صاحبة هذا الإقليم، بل وتجاهل وجودها وحقوقها، وإعطاء منطقتنا اسماً جديداً يفتح الباب لسيطرة قوى أجنبية، تهدف من وراء مشروعاتها ومبادراتها إلى تحقيق مصالحها، التي ترى في الهيمنة والسيطرة عليها الطريق المؤكَّدة لتحقيق ذلك، بالنظر إلى هذه المنطقة عُقدةً استراتيجيةً. فهل يمكننا أن نتدبَّر تلك المعاني حينما يَرِدُ إلينا شعارٌ تارَّةً يوصف بشرق أوسط “جديد”، وتارَّةً بـ”الكبير”؟

“الشرق الأوسط” تعبير جغرافي أحد أهمّ مقاصده زرع إسرائيل في الكيان العربي، وقبولها ضمن مشروع “السوق الشرق الأوسطية”

“الشرق الأوسط” إقليم واسع في تصورات أصحاب المصلحة، وله قضية تُذكِّرنا بما عُرف بـ”المسألة الشرقية” في القرن الـ19. والذين عاصروا لغة السياسة والصحافة قبل الحرب العالمية الثانية يذكرون أنّ هذه التسمية لم تكن شائعة كما هي الآن، ولم تكن تعني ما تعنيه الآن، ويلاحظون أنّها بدأت تُروَّج في الخمسينيّات والستينيّات في فترة الحرب الباردة، حتّى أنّها أخذت معنى أوسع ممّا كان لها من قبل، ومن حقّهم أن يسألوا أنفسهم عن العوامل التي فرضت هذا المصطلح على لغة الصحافة والإعلام والسياسة، ومن حقّهم كذلك أن يبحثوا عن الأسباب التي دفعت بعض القوى لترويجه، والأهداف التي ترمي إليها من وراء ذلك.

كان “الشرق الأوسط” قبل الحرب العالمية الأولى منطقةً تفصل بين “الشرق الأدنى” و”الشرق الأقصى”، ولكنّه اليوم في لغة الصحافة والسياسة الغربية قد اتّسع نطاقه ليشمل في نظرهم ما كان يُسمَّى من قبل بـ”الشرق الأدنى” إلى جانب ما كان يُسمى بالشرق الأوسط قبل ذلك؛ “Great Middle East”. كان إقليم “الشرق الأوسط” في قاموس “الجغرافية الإقليمية”، قبل الحرب العالمية الثانية، يختلف عن “الشرق الأدنى”؛ إذ كان يُقصد به الإقليم الذي يتوسّط بين الشرقَين الأدنى والأقصى ويفصل بينهما، كان “الشرق الأدنى” يشمل تركيا والبلاد العربية الخاضعة لها، ولا يمكن فهم هذا التوسّع في مفهوم “الشرق الأوسط” إلّا بدراسة العوامل الفكرية والسياسية التي تُؤثّر في رسم خريطة العالم وتحديد مناطقه، وهذه العوامل لا تقتصر على الاعتبارات الإقليمية والجغرافية.

إذا كان “الشرق الأوسط” تعبيراً جغرافياً فإنّ أحدَ أهمّ مقاصده الزائدة على مُجرَّد الوصف تمثّل في “زرع إسرائيل في الكيان العربي”، بل وإيجاد قاعدة شرعية وحجية، ليس لاستزراعها فقط، بل وقبولها ضمن مشروع سمِّيَ “السوق الشرق الأوسطية”، وضمن حركة تطبيع وتطويع كُبرى، وصار “الشرق الأوسط” مزروعةً فيه إسرائيل شعاراً دالًّا ومُؤشّراً إلى استراتيجية بعيدة المدى. ولا يكتفي دعاة “مشروعات الشرق الأوسط” بفرض التعاون مع إسرائيل اقتصادياً، بل يريدون أن تكون لها الأولوية على علاقات التعاون بين الدول العربية والإسلامية، بل وسيلة لمنع هذا التعاون… شاهدُنا في ذلك اتفاقاتٌ مفروضةٌ ومشروطةٌ، يتوارى فيها استخدام مفاهيم “العالم العربي” و”العالم الإسلامي”، فضلاً عن المفاهيم التي تتمحور حول “الأمّة”، لمصلحة كلّ تعبير يحمل مدلول “الشرق الأوسط”.

إنّ شعار “الشرق الأوسط” في المدى الطويل سوف يتناقض مع وجود الجامعة العربية، ومنظّمة المُؤتمَر الإسلامي، أو أيّ تكوين جماعي يشير إلى معنى التوحّد والجامعية. لقد بدا هذا المفهوم ضمن عمليات إحلال، في الوجهة والهدف والمقصد. وحينما يبرز مفهوم “الشرق الأوسط الكبير”، وما يحمله من تضمينات، فإنّنا أمام منطقة أكثر اتّساعاً؛ على مقاس المصالح الأميركية، التي اتّسع مجالها الحيوي بحدوده كلّها للتعامل مع عالم المسلمين والعالم الإسلامي، فصار “الشرق الأوسط الكبير” ليس إلّا العالم الإسلامي أو يكاد؛ سيكون هذا المفهوم الجديد هو البديل لمفهوم الأمّة.

وفي ضوء الأوصاف التي تبدّلت من “جديد” إلى “كبير” إلى “موسّع”، ذلك كلّه إشارة إلى المقاس الكوني لهذا المفهوم في تصورات الغرب واستراتيجياته تجاه المنطقة. وهكذا، فإنّ مصطلح “الشرق الأوسط” يُعتبَر من المصطلحات الغامضة، التي لا تشير إلى جغرافية ذات حدود ثابتة، على الرغم من وجود العديد من العناصر المشتركة التي تميّز قطاعاتٍ في هذه المنطقة عن غيرها، مثل اللغة، والدين، والثقافة، والتاريخ، والأصل العرقي. ويرجع هذا الغموض إلى العوامل السياسية التي صاغت المصطلح كي تعطيه شكلاً مَرناً يمكن إعادة تشكيله طبقاً لاستراتيجيات الدول الغربية، ونطاقات نفوذها، وبرنامج مصالحها. وخلال الثمانية عقود الماضية أُعيد بالفعل رسم المنطقة مرّات عدّة من خلال المعاهدات أو الأحلاف أو المبادرات، التي سعت إلى تكريس هيمنة الإمبراطوريات الغربية.

مبادرات “الشرق الأوسط” تضمر أهدافهاً خلف شعارات جذّابة مثل “المهمّة الحضارية” أو “الحرّية” أو “الديمقراطية” أو “التنمية”

وفى معظم الأحوال جرّت محاولات تمرير تلك المبادرات تحت غطاء من الشعارات والأهداف النبيلة، مثل دفع الخطر عن شعوب المنطقة، ومساعدتها بدعوى تحديثها وتنميتها، والوقوف إلى جانبها لتقرير مصيرها وإقامة حياة ديمقراطية.

ومبادرةُ “الشرق الأوسط الكبير” هي استمرارٌ لتلك السلسلةِ من المبادرات التي تتم جميعها تحت مزاعم إنسانية لا تختلف كثيراً عن سابقاتها من حيث السياق والأهداف والأسلوب. قد تكون هناك بعض الاختلافات في التفاصيل، بطبيعة الحال (نظراً إلى تغيّر الأحداث) إلّا أنّه تظلّ هناك العديد من القواسم المشتركة:

الأول، أنّ مثل هذه المبادرات تصاحب في العادة أحداثاً وتحوّلاتٍ كبرى في المنطقة مثل الحروب المباشرة أو غير المباشرة، أو السعي لاحتواء خطر يهدّد مصالح الدول العظمى، أو إعداد هجمة استباقية لتكريس النفوذ الاستعماري والهيمنة على دول المنطقة.

الثاني، أنّ الأهداف المُعلَنة لتلك المبادرات لا تعكس في أغلب الأحيان الأهداف المضمرة من ورائها. فأغلبها يتمّ خلف شعارات جذّابة مثل “المهمة الحضارية” أو “الحرّية” أو “الديمقراطية” أو “التنمية” و”التجارة الحرة” و”الارتقاء بكرامة الإنسان”.

الثالث، أنّ هذه المبادرات لا تتمّ من دون المساعدة من قوى إقليمية داخلية؛ إمّا من طريق التواطؤ المباشر (باب عالٍ أو شريف من ورائه لورانس، أو ملك، أو رئيس، أو قوى “تحالف ديمقراطية”)، أو بسبب عجزٍ واضحٍ ليس له مسوّغ إلا غياب الإرادة وعدم الرغبة في التصدّي لإفشال تلك المبادرات بالوسائل كافّة.
إنها قصّة “الشرق الأوسط” و”مشروع النهوض” و”الظاهرة الاستشراقية”.


د. سيف الدين عبد الفتاح | أستاذ العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة
اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Comments Rules :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل