
أتفهم حالات التشكيك بأي انتصار للأمة المستضعفة، فقد عاشت الأمة منذ وقت طويل حياة الانكسارات والهزائم والخيبات، حتى ظن البعض أن ذلك قدر مقدور عليها، ونهاية مكتوبة لكل تحركاتها، وحين انتصرت ثورة الشام ودخل أهلها فاتحين في يوم الثامن من ديسمبر الماضي، تعالت أصوات البعض مشككة بهذا النصر الذي تم في أحد عشر يوماً، ولم يكلّف هؤلاء أنفسهم عناء العودة إلى الوراء قليلاً، ليدركوا حجم الفاتورة التي دفعها الشعب السوري في سنواته الـ 13 الماضية، فضلاً عن مقاومته بطريقة أو بأخرى لهذا النظام على مدى أكثر من نصف قرن، ومعه أيضاً فاتورة ضخمة دفعتها المنطقة بشرياً ومادياً.
أصحاب هذه النظرية التآمرية هم أنفسهم الذين شككوا يوم حدث دخول كابول، فطفقوا للترويج لنظريتهم التآمرية، وأغمضوا أعينهم عن الفاتورة التي دفعها الشعب الأفغاني على مدى عشرين عاماً. المسألة باختصار أن البعض يحلو له أن يقرأ السطر الأخير من الرواية، أو يشاهد الحلقة الأخيرة من مسلسل المعاناة والتعب والنصب والتضحية، فلا يكلف نفسه عناء قراءة المشهد كاملاً، أو مشاهدة الحلقات كاملة، مصراً على القول لماذا حصل هذا؟ وكيف تم ذلك؟ فهو يصر على عدم فهم حجم ما قدمته الشعوب على مذبح الحرية والمساواة والعدالة، تحقيقاً لطموحاتها وأحلامها وآمالها.
أخيراً أدلى السفير الأمريكي في أنقرة والمبعوث الأمريكي إلى سوريا توماس باراك نافياً أن يكون لأمريكا أي دور في تغيير النظام السوري، ولا أدري إن كان أصحاب نفس النظرية قد اقتنعوا بكلام الوزير؟! وهم الذين تحدثوا من قبل عن دور تركي كبير في الفتح، في الوقت الذي كان مسؤولون أتراك ينفون علاقتهم بالعمليات العسكرية التي أثمرت تحرير دمشق. ومع هذه النظرية يحرص المتصيدون على تتبع كل ما هو إعلام إسرائيلي، الباحث في الحقيقة والواقع عن غيمة من السماء من أجل التغطية عن فشله وتخبطه في غزة على مدى عامين تقريباً، فالنصر السياسي اليوم في غاية الأهمية بالنسبة لتل أبيب، وهذا النصر السياسي يكمن اليوم في التسويق لسلام مع سوريا وتطبيع معها، لترتفع معه بورصة المؤامراتيين المشككين في العهد السوري الجديد.
سوريا اليوم جريحة، أو في غرفة الإنعاش كما وصفها السيد الرئيس أحمد الشرع، وهي بحاجة إلى لملمة جراحاتها الغائرة لأكثر من نصف قرن، وهذه الجراح متعددة الأوجه والاتجاهات، جراحات اجتماعية واقتصادية وسياسية، وأولاً وأخيراً جراحات حقيقية، إذ لا يزال هناك عشرات الآلاف من المفقودين، الذين فجعوا أحباءهم وأقاربهم، ولا يزالون ينتظرون معرفة مصيرهم، ناهيك عن كون البلاد منقوصة السيادة في ظل تحكم مليشيات قسد في جزء مهم من وطننا العزيز.
ويأتيك في آخر المطاف من يريدك أن تجلس على مدار الساعة أمام الإعلام، نافياً هذا التصريح وتثبيتاً لذلك التصريح، لتقنعه بما وطّن نفسه عليه، ولست بمقنعه، ولعل الأغرب من هذا أن ترى بعض النخب منساقة إلى هذه الجوقة، فتُفسد على نفسها وتُفسد على كل من فرح بهذا النصر السوري، الذي هو نصر لكل من تضرر من نظام الأسد على مدى أكثر من نصف قرن.
قوة سوريا اليوم من قوة المنطقة، وهذه القوة تستدعي حين العمل وفق اشتراطاتها وإكراهاتها، حكمة وذكاء في عملية الإبحار بمناطق مليئة بالألغام والأشراك، والأفخاخ، ومن قاد أمته إلى تحرير دمشق المحتلة لأكثر من نصف قرن، جدير بالثقة والتقدير، وخليق بأن يواصل عملية الإبحار، أما أن نُطالب بتوضيح كل موقف وكل تحليل وخبر ورأي فهذا أبعد ما يكون عن السياسة ودهاليزها وعملها.
أخيراً نصيحة من القلب أن ثقوا بأن الهزائم ليست قدرنا، وأن السجون ليست حتمية بالنسبة لنا، فهذه الأمة لديها من الإمكانيات والقدرات بإذن الله ما تستطيع أن تحقق طموحات وآمال شعوبها، إن هي أحسنت استخدام تلك الإمكانيات، ولعل الشعار الذي رفعته النخب في القرن العشرين بأن المسلمين بخير ولكن الضعف في القيادة، نسفته عمليات ردع العدوان، وأثبتت أن الشعب اليوم بخير والقيادة قوية وبخير أيضاً.