هل غادر الكُتّاب في شأن غزة وقادتها الشهداء من متردم؟!
ما أصعب أن يجد المرء قولاً في شأنٍ كلُّ الناس يكتب فيه ويعتصر مشاهده اعتصاراً!
فكيف إن كان المشهد الذي يُراد القول فيه هو مشهد انتصار ترنو إليه أمة مستضعفة مهزومة؟ أو هو مشهد عودة ورجوع تتشوق إليه أمة مُهَجَّرة نازحة؟!
كيف إن كان المشهدُ مشهدَ قادةٍ لطالما افتقدت الأمة أمثالهم وإنجازهم وبطولاتهم؟! ألم تر إلى الأمة المهزومة المستضعفة يموت قادة جيوشها على فراشهم الوثير، كما يموت البعير، وقد تركوا أرضهم محتلة لم يطلقوا نحوها رصاصة ولم يحرروا منها شبراً؟!
ماذا يقول المرءُ للظمآن الذي بدأ يرتشف الماء؟ إن الظمآن الذي لقي الماء عن الكلام كله في شغل شاغل!
ماذا يُقال للشاب إذا تزوج من محبوبته، فارتوت نفسه الملتاعة من الحب، وارتوى جسده المترع بقوة الغريزة؟
كل كلام في هذا الموطن فراغ وخواء وهواء.. لا الكلام يستطيع الوصف، ولا صاحب الشأن في حالٍ يحتاج فيه إلى كلامٍ من أحد!
نعم.. تتصاغر الكلمات أمام بطولة الشهداء العِظام، ما في طاقة الألفاظ أن تحيط بالمعاني والمشاعر.. يكفي أنهم بلغوا الذروة العليا من الشرف.. ذروة الشهادة في سبيل الله!!
لعله كان يسعنا السكوت واحترام اللحظة الهائلة لولا أن في الناس ناسٌ أنزل الله عليهم غضبه وسخطه، فكانوا شياطين الإنس، ينطقون عن لسان الشياطين، ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ [الأنعام: 121]، وقد أخبرنا الله أن ﴿شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ [الأنعام: 112].
ولقد وقف هؤلاء الشياطين يريدون اغتيال لحظة النصر والإنجاز والعودة المظفرة في قطاع غزة، وتدفق القائلون على محطات الشياطين الفضائية ليتلمظوا من هذا المشهد العزيز، وليثيروا الغبار عليه، فكان واجباً علينا أن نجاهد هؤلاء بالقلم واللسان، وقد بيَّن لنا إمامنا الكبير ابن القيم في مراتب الجهاد أن جهاد المنافقين يكون بالحجة واللسان والبيان، وأنه جهاد ورثة الرسل.
وهذا الجهاد باللسان يكون بقول الكلام ذي الثمن، كما يقول ابن القيم: “أفضل الجهاد قول الحق مع شدة المُعَارِض، مثل أن تتكلم به عند من تخاف سطوته وأذاه”، وذلك مأخوذ من قول النبي ﷺ: “أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر”، وقوله ﷺ: “سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله”.
وأمرٌ فوق ذلك، ومع ذلك، ودون ذلك أيضاً.. ونعم! نحن نكتب لأنفسنا قبل أن نكتب في نصرة أهل غزة.. نروي صدورنا من المعاني العظيمة التي حُرِمنا منها.. ونتمتع بالنظر في وجوه الشهداء الكبار الذين يتألقون في الليل البهيم.. نتقوى ونتصلب بما نكتب، ننصر بواعث الخير فينا قبل أن تطمسها أثقال الحياة التافهة وركامها السخيف!
(1) ما كان لأبي خالد الضيف أن يموت إلا شهيداً..
كذا، ما كان لصحبه الكرام أن يموتوا إلا هذه الميتة..
لعمرك هذا ممات الرجال .. ومن رام موتاً شريفاً فذا
إذا كنا من أمة الإسلام التي ترى العار فيها أن يموت الرجل حتف أنفه! فلا يليق بالسادة الكبار في هذه الأمة أن يموتوا إلا شهداء، مقبلين غير مدبرين.. كذا كان الصحب الأُوَل! وكذا كان الموكب الجليل.. موكب الأنبياء والصديقين والشهداء.. ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: 146].
نعم.. تطلب النفس كمال الحياة ونعيمها، وما في الدنيا كمال ولا نعيم!!
ومهما قال العقل: لا مناص من أن تكون نهاية العظماء عظيمة، ولا يليق بسادة المجاهدين إلا الشهادة الكريمة.. تجادل النفس عن نفسها وتقول: لعل وعسى ولربما وليت ما..
ومع أن بقاء أمثال الضيف ورجاله أحياء لا تطالهم يد إسرائيل الطويلة الممدودة بحبل الناس، في هذه الظروف الصعبة الرهيبة ثلاثين سنة، لهو واحدة من الأساطير، ومن أعاجيب الانتصارات، إلا أن النفس تتمنى لو شهدوا بأنفسهم فتح بيت المقدس!!
ولقد رأى رسول الله في حياته استشهاد قادته وأحبابه: حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وزيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وغيرهم وغيرهم.. ثم رأى صحابتُه من بعده: وفاتَه هو ﷺ وكفى بها مصيبة.. ثم ساحت دماء المسلمين في أركان المعمورة كلها، ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا﴾. وبلغت خيل المسلمين ما بين فرنسا إلى الصين.. في أعجب مشاهد الفتوح في تاريخ البشر كله!
نعم.. هذه آية نراها الآن رأي عيْن لا رأي عقل وخيال وضمير.. ها نحن أمام حركة قد جاءت الشهادة فأخذت قادتها السياسيين والعسكريين، فما شعر أحدٌ بأنهم وهنوا ولا ضعفوا ولا استكانوا، بل ظلوا حتى اليوم الأخير يقاتلون العدو قتال الأبطال في مناطق الشمال التي طُحِنت حتى سُوِّيت بالأرض!!
وقد ظلوا في ساحة التفاوض ثابتين فما استطاع أحدٌ أن ينتزع منهم شيئاً سوى ما قبلوا به قبل استشهاد هؤلاء القادة: السياسيين والعسكريين.. كأن القادة أنفسهم في مكانهم لم يبرحوه! بلى، بل كان الجند في مكانهم ما وهنوا ولا ضعفوا ولا استكانوا!
ثم جاءت مشاهد تسليم الأسرى التي غيظ لها العدو وفقد لها أعصابه وطار فيها صوابه، فكأنما هؤلاء قومٌ لم يحاربوا ولم يذهب قادتهم.. ما وهنوا ولا ضعفوا ولا استكانوا!
طارت قلوب العدا من خوفهم فرَقا .. فما تفرق بين البَهْمِ والبُهُم
وكفى بهذا المشهد دليلاً على أصالة هذه الحركة وعظمتها وثباتها..
إن موتهم وإن كانت مصيبة لنا، وطعنة في صميم قلوبنا، إلا أنها جائزة لهم بل هي أسمهم أمانيهم، وتلك هي الميتة اللائقة بهم!! ولو أنصفنا، لكان الذي هو أحبُّ إليهم أحبَّ إلينا.. ولكن: كيف تدرك نفوس القاعدين المتثاقلين همم الأرواح العلية التي تطوف حول منازل الشهداء؟!
(2) “غبة من السبع، ولا النذل كله”
كتبت الروائية نردين أبو بنعة روايتها “قد شغفها حباً”، عن الشهيدة زوج الشهيد؛ عن وداد عصفور زوجة القائد محمد الضيف!
كان أبو خالد الضيف قد حُرِم الأبناء من زوجته الأولى، ومع ما بُذِل من تدخلات طبية لم ينتهِ الأمر إلى شيء. فكان يطلب زوجة أخرى.. ولما تردد الكلام في جلسة نسائية، قالت امرأة: لو كان عندي ابنة لزوَّجته إياها!
ما كان عند تلك المرأة من بنات يصلحن للزواج، إلا ابنة حديثة العهد باستشهاد زوجها، فقد صارت أرملته!
فتأمل –أيها القارئ- في أسطورة جديدة من أساطير ذلك الشعب الصلب.. شعب فلسطين! هذه امرأة ترشح ابنتها لواحد من أخطر الرجال في العالم.. رجل ينتظره الموت في كل لحظة، حرفياً، بلا مبالغة!!
وقد اختصرت المرأةُ العظيمةُ الحكيمةُ فلسفتَها في الحياة والزواج والحب بهذه الكلمة المختزلة المختصرة المعتصرة: “غَبَّة من السبع ولا النذل كله”! ومعناها: رشفة من الرجل الأسد، خير من الظفر بكل الرجل النذل!!.. أو بمعنى أوضح: لحظات مع رجل أسد، خير من حياة مع النذل!!
وهكذا أعطت المرأة ابنتها للرجل الأسد: محمد الضيف!!
وصدق الله تعالى: ﴿وَٱلطَّیِّبَـٰتُ لِلطَّیِّبِینَ وَٱلطَّیِّبُونَ لِلطَّیِّبَـٰتِۚ﴾ [النور: 25].. لقد كان الأسد لائقاً بهذه المرأة وابنتها.. وكانت المرأة وابنتها لائقتيْن بالأسد!!
وأما في حياة الشعوب المدجنة المضطهدة المذبوحة التي حُرِمت نعمة الكفاح والنضال.. فاسرح بعينيك وتأمل كيف خربت البيوت وكيف تخرب، لكثرة الأنذال والحمقاوات.. بيوت تخرب من أجل “اهتمام لا يُطلب” أو “رفاهية لا تتوفر” أو “فُسْحَة تتأجل”.. أو غيرها من اهتمامات الفارغين في البيوت الخاوية!!
ها قد ذهب السبع.. فيا لسعادة من رشف منه رشفة!!
(3) ذلك الرجل السبع.. كيف لا تتآمر عليه الضباع؟!
نعم، كيف لا تتآمر الأنظمة العميلة وجيوشها على حركات المقاومة؟!! كيف ووجودها يحرجهم ويفضحهم ويجلِّلهم بالعار والشنار؟!!
كيف ولن تجد قائدَ جيشٍ عربيٍ انتصر ولو نصرًا واحدًا وحيدًا في حياته.. وإنما حياته كلها كلها هزائم في هزائم.. بل كم منهم من مُزِّق جيشه ومُرِّغ أنفه أمام حركات مسلحة لم تبلغ أن تكون جيشا؟!!
كيف والقائد في تلك الجيوش يعيش في الحياة رغداً، يسمن من المال الحرام المنهوب من الشعوب، ثم يموت على فراشه الوثير، حتف أنفه كما يموت البعير.. قلب في صفحات التاريخ ومنصات الإنترنت وابحث في قادة جيوش هذه الأنظمة العربية منذ وقعت النكبة حتى الآن.. هل ترى واحدًا منهم مات في المعركة؟! فهل ترى واحدًا منهم حرَّر شيئاً من أرضه؟!
هذا مع أنه لا تكاد تجد نظاماً من هذه الأنظمة إلا وله أرض محتلة يطالب بها، بمن في ذلك من يزعم أنه حرر كل أرضه.. لا تصدق هؤلاء، فإنما لهم أرض محتلة ولكنهم قرروا أن يتنازلوا عنها فنسوها!
كيف لا يتآمر الضباع على السبع الذي تجرأ على إسرائيل.. إسرائيل التي التهمت جيوش العرب في ساعات وأيام، مع ما كانت مدججة به من السلاح والدبابات والمدرعات والطيران.. فإذا بهذا السبع الرابض في القطاع المحاصر يفاجئها بالصفعة المدوية الأعظم في تاريخها، ويشن عليها حرباً لا يمكن أن يفهمها ولا أن يستوعبها عقلُ واحدٍ منهم!!
كيف لا يتآمرون عليهم كما تتآمر العاهرات على المرأة العفيفة التي لم تفرط في نفسها؟!!
من يشتري منا جيوشنا وقادتها ورؤساء أركانها، ومعهم أكوام نياشينهم وأوسمتهم، ويعطينا بديلاً عنها: حركة من تلك الحركات العظيمة التي تركع أمامها إسرائيل المدججة والممدودة بحبل حلفائها؟!!
يا رب الطف بقلوبنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا!
(4) ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 154]
يا عجباً للسادة الشهداء.. حياتهم قدوة، وموتهم حياة.. واسمع هذا الكلام النفيس البديع للشهيد سيد قطب في تفسير هذه الآية: “هنالك قتلى سيخرون شهداء في معركة الحق. شهداء في سبيل الله. قتلى أعزاء أحباء. قتلى كراماً أزكياء -فالذين يخرجون في سبيل الله، والذين يضحون بأرواحهم في معركة الحق، هم عادة أكرم القلوب وأزكى الأرواح وأطهر النفوس- هؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله ليسوا أمواتاً. إنهم أحياء. فلا يجوز أن يقال عنهم: أموات. لا يجوز أن يعتبروا أمواتاً في الحس والشعور، ولا أن يقال عنهم أموات بالشفة واللسان. إنهم أحياء بشهادة الله سبحانه. فهم لا بد أحياء.
إنهم قُتِلوا في ظاهر الأمر، وحسبما ترى العين. ولكن حقيقة الموت وحقيقة الحياة لا تقررهما هذه النظرة السطحية الظاهرة.. إن سمة الحياة الأولى هي الفاعلية والنمو والامتداد. وسمة الموت الأولى هي السلبية والخمود والانقطاع.. وهؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله فاعليتهم في نصرة الحق الذي قتلوا من أجله فاعلية مؤثرة، والفكرة التي من أجلها قتلوا ترتوي بدمائهم وتمتد، وتأثر الباقين وراءهم باستشهادهم يقوى ويمتد. فهم ما يزالون عنصراً فعالاً دافعاً مؤثراً في تكييف الحياة وتوجيهها، وهذه هي صفة الحياة الأولى. فهم أحياء أولاً بهذا الاعتبار الواقعي في دنيا الناس.
ثم هم أحياء عند ربهم، إما بهذا الاعتبار، وإما باعتبار آخر لا ندري نحن كنهه. وحسبنا إخبار الله تعالى به: ﴿أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ لأن كنه هذه الحياة فوق إدراكنا البشري القاصر المحدود. ولكنهم أحياء.
أحياء. ومن ثم لا يُغسلون كما يُغسل الموتى، ويكفنون في ثيابهم التي استشهدوا فيها. فالغسلُ تطهير للجسد الميت وهم أطهار بما فيهم من حياة. وثيابهم في الأرض ثيابهم في القبر لأنهم بعد أحياء.
أحياء. فلا يشق قتلهم على الأهل والأحباء والأصدقاء. أحياء يشاركون في حياة الأهل والأحباء والأصدقاء. أحياء فلا يصعب فراقهم على القلوب الباقية خلفهم، ولا يتعاظمها الأمر، ولا يهولنها عظم الفداء”.
وها نحن بعد السنين الطويلة نتذكر بالفخر والاعتزاز، وتحيا القلوب بذكرى الشهداء، ومن في الناس لا يتذكر أمثال ياسين والرنتيسي وصلاح شحادة، ومن قبلهم حسن البنا وسيد قطب، ومن قبلهم عز الدين القسام، ومن قبلهم عمر المختار، ومن قبلهم طابور طويل مديد وموكب جليل فريد يمتد حتى يصل إلى النبيين والصديقين..
ولقد عرف العرب في جاهليتهم أن خلود المرء لا يكون بطول الحياة بل بخوض المعارك والقتل فيها، فالمرء مهما عاش مات، ولكنه إذا قُتِل في سبيل المجد خلد ذكره! ولذا قال قائلهم:
تأخرتُ أستبقي الحياة فلم أجد .. لنفسي حياة مثل أن أتقدما
وتتابع الشعراء على مثل هذا القول، وهذا أبو فراس الحمداني ينشد قائلاً:
يقولون لي: بعتَ السلامة بالردى .. فقلتُ: أما والله ما نالني خُسْرُ
وهل يتجافى عني الموتُ ساعةً .. إذا ما تجافى عني الأسر والضُرُّ؟
هو الموتُ فاختر ما علا لك ذكرُه .. فلم يمت الإنسان ما حيي الذِّكْرُ
وإن متُّ فالإنسان لا بد ميتٌ .. وإن طالت الأيام وانفسح العمرُ
سيذكرني قومي إذا جدَّ جدُّهم .. وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدرُ
وإن قصيدة أبي فراس هذه ما أجدر بها أن تكون وصفاً لحالة أبي خالد الضيف رحمه الله.. ولقد وصف فيها نفسه وهو يُصَبِّح القرية الحصينة المنيعة التي أَمِنَت أن تقتحم، فما أشبه ذلك بصباح السابع من أكتوبر المجيد! ووصف نفسه كيف يملك الأسرى من المقاتلين فما أشبهه بإسقاط فرقة غزة في ذلك اليوم! ووصف نفسه ببذل النفس في طلب المعالي، فما أشبه ذلك باستشهاد أبي خالد. فاسمع وتأمل:
فيا رُبَّ دارٍ -لم تَخَفْنِي- منيعةٍ .. طلعتُ عليها بالردى أنا والفجرُ
وحيٍّ رددتُ الخيل حتى ملكته .. هزيما وردَّتني البراقعُ والخُمْرُ
ونحن أناس لا توسط عندنا .. لنا الصدر دون العالمين أو القبرُ
تهون علينا في المعالي نفوسنا .. ومن خطب الحسناء لم يُغلها المهرُ
أعزُّ بني الدنيا وأعلى ذوي العلا .. وأكرم من فوق التراب ولا فخرُ
(5) لقد بقيت كلمة لا بد من قولها في مشهد العودة إلى شمال غزة، وهي بإذن الله البشرى بالعودة الكبرى..
لقد أغاظ هذا المشهد أعداء الله من الصهاينة، كما أغاظ أولياءهم وحلفاءهم في القنوات والصحف والمنصات التابعة للأنظمة العربية.. وإن غيظ الصهاينة مفهوم.. وإن غيظ أوليائهم مفهوم أيضا، فذلك أمر مستقيم لا عوج فيه ولا استغراب منه!
إن أصل مشكلة فلسطين منذ كانت هي مشكلة الأنظمة العربية، وما كان أهل فلسطين ليخرجوا من أرضهم، ولا كانت إسرائيل لتنشأ وتستقر حتى تجاوز السبعين سنة لولا مجهود الأنظمة العربية في حمايتها وتثبيت وجودها!
هذه الحقيقة التي تبدو غريبة، هي أبسط الحقائق وأسطعها إذا قرأنا تاريخ قضية فلسطين. وما من أحد قرأ هذا التاريخ إلا وتمنى لو لم تكن ثمة أنظمة عربية ولا أنها تدخلت في القضية، إذن لكان الحال غير الحال!
وذلك مشهد ومسلسل مستمر، وها أنت ترى وتسمع كيف أن ترمب يُصَرِّح علنا بما يكتمه السياسيون عادةً من التفكير في توسيع خريطة إسرائيل، ويتصل بالأنظمة لتستعد لاستقبال المهجَّرين الفلسطينيين!
هل ترى الرئيس الأمريكي يمكن أن يتكلم بهذا علناً لو كان يعرف حقاً أن تهجير الفلسطينيين خطٌ أحمر لدى الأنظمة العربية؟ إنه يعرف، كما يعرف الجميع، أن هذا أمرٌ متاح وممكن، ولئن كان ثمة خلاف حوله، فهو خلاف حول التوقيت والثمن والإجراءات والتدابير!
ألم ير الأمريكان والصهاينة وسائر هذا العالم كيف وقفت هذه الأنظمة مع الصهاينة، وكان أشد ما يريدون منهم أن ينتهوا من حرب غزة بسرعة؟! لقد وفرت هذه الأنظمة لإسرائيل سائر ما أمكن أن تقوم به في سبيل تسريع إبادة المقاومة وإنهاء الحرب في غزة: طرق أصلية وطرق بديلة لتوصيل البضائع، وموانئ لاستقبال الأسلحة الذاهبة إلى الصهاينة بل وتوقيع اتفاقيات أمنية وعسكرية مع الدولة الصهيونية في خضم الحرب نفسها، وحصار وإغلاق للمعابر، واستصفاء أموال الفارين من الجحيم بمن في ذلك المرضى والجرحى (ثلث الشهداء في غزة ماتوا جراء الحصار ونقص الأغذية والأدوية والمنع من العبور للعلاج خارج غزة)، وضغط على المقاومة في المفاوضات. وهذا كله فضلاً عن المجهود السابق في هدم الأنفاق وتفجيرها وزيادة السور العازل حول غزة ومضاعفة طوله وعرضه وعمقه وإغراق خندقه بالماء!!
هل هذا فعل قومٍ يرفضون التهجير حقاً، ويصرون على بقاء القضية الفلسطينية حية؟!
ألم يقل أحدهم علناً: إذا شاءت إسرائيل أن تهجّر أهل غزة فلتهجرهم إلى صحراء النقب ثم تعيدهم مرة أخرى بعد القضاء على المنظمات الإرهابية؟!
أهذا لسان حاكمٍ حريصٍ على فلسطين وقضيتها؟!
أين هذا من سيِّدٍ مثل أبي خالد الضيف وأصحابه؟!!
تالله ما يستريب في هذا المشهد إلا من طمس الله على قلبه، واختار أن يكون مع أعداء الله!
﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [يونس: 7، 8].