ترامب المتحوّر وترامب الجائحة

وائل قنديل26 يناير 2025
وائل قنديل

قبل جائحة كورونا (كوفيد 19) عاش العالم نحو ثلاثة أعوام من جائحة دونالد ترامب الأولى، عقب انتخابه في عام 2017، وهي الجائحة التي تربّح منها المستبدون والقتلة في جميع أنحاء العالم، ووجدوا فيها ملاذاً آمناً من عديد الجرائم بحقِّ حرية الإنسان وكرامته.

عاش الكوكب العامين الأخيرين من رئاسة ترامب (2020 -2021) بين فكي الترامبية، بوصفها وباءً سياسيّاً ضرب الولايات المتحدة والعالم، من جانب، وجائحة كوفيد من الجانب الآخر، ولم يكن غريباً وقتها أنه فيما كان العالم يحتشد ضدّ كورونا، كان دونالد ترامب ضدّ هذا الاحتشاد، معلناً الحرب على منظمة الصحة العالمية، رافضًا الاعتراف ببروتوكول مواجهة الجائحة، إذ أنكر، في البداية، وجود الوباء من الأصل، حتى أصابه هو شخصيّاً وقتل أكثر من 215 ألف مواطن أميركي. وعلى الرغم من ذلك، ظلّ رافضاً الإغلاق الكامل للاقتصاد، وتعطيل المدارس للحيلولة من دون انتشار الوباء.

كان ترامب يقود أميركا في فترة رئاسته الأولى بعقلية “الجاهل المتعافي”، وكأنه يقود طائرة من دون أدنى خبرة بقواعد الطيران ومهاراته، ومن دون اعترافٍ بالخرائط المناخية، إلى الحدّ الذي استشعر معه الأميركيون أن إمبراطوريتهم ذات الحلم الذي يخلب ألباب العالم قد انخدشت صورتها وتشوّهت، وبدأت تسلك وكأنها “إمبراطورية موز”، فكان أن سقط ترامب في انتخابات 2021 وتنفّس العالم الصعداء، بعد أن ظنّ كثيرون أن كابوساً ثقيلاً قد انزاح، وأن العالم بصدد استعادة بعض قيمه الإنسانية المُهْدرة بوصول الديمقراطيين إلى البيت الأبيض.

كانت سنوات ترامب الأولى ابتزازاً للعالم بجبروت القوّة المطلقة، فراح يمارس حلباً عنيفاً لكلّ مراكز الثروة، وخصوصاً في الشرق الأوسط، عقب زيارته الأشهر للسعودية، التي انطلق منها، مباشرة، إلى الكيان الصهيوني، وبعد ذلك بقليل، كان اعترافه بتهويد القدس، ثم طرح خطته للشرق الأوسط التي عُرفت باسم “صفقة القرن”، التي وجد فيها كلّ المستبدين والطغاة فرصة لغسل جرائمهم بحقّ حقوق الإنسان.

لم ينجح الديمقراطيون في الاحتفاظ بالرئاسة فترة ثانية، إذ تحالفوا مع جائحة العدوان الصهيوني على غزّة، وظهروا ترامبيين أكثر من ترامب في إهدار القيم الإنسانية والديمقراطية انحيازاً، بل تحالفاً ومشاركةً كاملةً مع العدوان الإسرائيلي، فكان سقوطهم المروّع أمام ترامب، العائد هذه المرّة مشحوناً بحقد وغلّ انتقامي ضدّ خصوم الترامبية في كلّ مكان.

هذا العائد قبل أيّام قلائل ليس ترامب القديم، بل هو”متحوّر ترامب” أو سلالة جديدة من “الجائحة الترامبية” أشدّ فتكاً وخطورة ممّا عاشه العالم في رئاسته الأولى، إذ يعود هذه المرّة على رأس إدارة ذات طابع صهيوني من رأسها إلى أطرافها، في السياسة والاقتصاد والإعلام، حتى الميديا الجماهيرية، إذ يضم معسكره رؤساء أركان المنصات الاجتماعية الأكثر هيمنة على العالم، والأكثر صهينة أيضاً، فعلى يمينه مالك “فيسبوك”، الصهيوني العتيد، وعلى يساره مالك “إكس” (تويتر سابقاً). ويا للدهشة، هو الشخص نفسه الذي كان قد أوقف حساب ترامب عام 2021 بحجّة تحريضه على العنف، لكنه الآن صار جزءاً من مشروع ترامب للسيطرة على الكوكب.

ساعاتٍ بعد أداء ترامب القسم أمام الكونغرس، وانطلقت مدفعية تصريحاته في كلّ اتجاه متوّعّداً كلّ من كانوا سبباً في إزالته من الحكم، ومعلناً ما يدور في رأسه، داخليًا “عشت أربع سنوات من الجحيم بسبب إدارة بايدن وأنفقت ملايين الدولارات على الرسوم القانونية” يقول ترامب، وخارجيّاً يعلن أنّ المملكة العربية السعودية قد تكون وجهته الأولى في زيارة خارجية إذا وافقت الرياض على ضخ أكثر من 500 مليار دولار في الاقتصاد الأميركي، أي أكثر مما حصل عليه في الزيارة الأولى، ثم يعود ويرفع المبلغ المطلوب إلى تريليون (ألف مليار) دولار، بعد إعلان ولي العهد السعودي الموافقة على 600 مليار دولار، ثم يطلب ترامب فوق ذلك من السعودية خفض سعر النفط.

خطّة متحوّر ترامب الجديدة لاستئناف سلطته على الشرق الأوسط تتحرّك على محورين: الأوّل، إبرام اتفاق التطبيع السعودي الإسرائيلي. والثاني فرض واقع جيوسياسي جديد للأراضي الفلسطينية، وهو ما بدأ بالفعل في الضفة الغربية بالعملية العسكرية الشاملة ضدّ محافظة جنين، وفي غزّة، حيث يجري إحياء السيناريوهات الصهيونية المؤجلة بشأنها.

الشاهد أننا بصدد تحوّل درامي هائل في المقاربة الأميركية من قضية التطبيع العربي الصهيوني منذ ظهور ترامب، وهي مقاربة تختلف كلية مع كلّ ما سبق، حين كانت واشنطن تدعو العرب بحزمة من المغريات، الاقتصادية والسياسية، كما جرى مع أنور السادات ومن جاءوا بعده، في مصر والأردن والأراضي المحتلة، وهو ما تغيّر جذريّاً مع وصول ترامب، إذ صار مطلوباً من العرب أن يطبّعوا علاقاتهم مع الاحتلال، ولا يحصلون على أيّة أثمان، اقتصادية أو سياسية، بل صار مفروضاً عليهم أن يطبّعوا ويدفعوا أيضاً، وهذا ما تحقّق بعد توقيع كامب ديفيد الثانية برعاية ترامب، والتي أخضعت الإمارات والبحرين لقوانين التطبيع الجديدة، وهو نفسه ما يريده ترامب من تطبيع السعودية.

صحيحٌ هذا المتحوّر أخطر من جائحته الأولى، غير أنّ بالإمكان التصدّي له ومواجهته والتعافي منه بمصل اسمه “الكرامة”، لا يحتاج إلى معامل وأبحاث لتخليقه، بل هو في متناول اليد، يتطلّب فقط إدراك أهميته لمن يريد البقاء على قيد الاحترام.


وائل قنديل | صحافي وكاتب مصري
اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل