تشويه المقاومة الفلسطينية.. المنطلقات والأطوار المتبدلة

د. سعيد الحاج

كاينابريس – د. سعيد الحاج(*)

تشكل حرب الرواية والسردية والصورة إحدى جبهات الحرب الحالية في غزة، بعدِّها مساحة مهمة لتحديد من المحق ومن المعتدي، وبالتالي من يستحق الدعم والتضامن، ومن يستحق النقد والعداء. ولذلك لم تفتُر جهود الاحتلال منذ بدء معركة “طوفان الأقصى” في تشويه المقاومة الفلسطينية، وتوجيه التهم لها، كما لم تتراجع مساعي بعض الأطراف الفلسطينية والعربية –مع الأسف– في تشويهها، ووضع معركتها في سياقات أخرى غير حقيقية.

معركة الرواية

منذ بدء الاحتلال في فلسطين وإعلان ما يسمى بدولة “إسرائيل” في 1948، بل من قبل ذلك بعقود، وحرب الرواية جزء لا يتجزأ من نضال الشعب الفلسطيني وقضيته، جنبًا إلى جنب مع المقاومة المباشرة للاحتلال شعبيًا وسياسيًا وعسكريًا.

مع انطلاق معركة “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، لم يحد الاحتلال عن نهجه، فأطلق عددًا من الفِريات الكبيرة المتعلقة بالمعركة؛ لتشويه المقاومة وإدانة فعلها من قبيل قطع رؤوس الأطفال، وحرق جثث القتلى، واغتصاب النساء

وقد فطنت الحركة الصهيونية منذ البدايات لأهمية هذه المعركة، لا سيما في سنوات التأسيس الأولى التي عرفت بقلّة وسائل الإعلام، وإمكان السيطرة على الكثير منها، وبالتالي إمكانية توجيه الجمهور والرأي العام العالمي. ولذلك فقد سعت الحركة الصهيونية إلى سردية بديلة تسعى من خلالها للحيلولة دون أي تعاطف أو تضامن –فضلًا عن الدعم– مع الشعب الفلسطيني، واحتكار ذلك لدولتها الوليدة.

وهكذا، قضت السرديّة المستحدثة والمزيفة بطبيعة الحال بأن “اليهود خاضوا حرب استقلال” ضد “الاحتلال البريطاني” على أرض فلسطين، وأنهم شعب مظلوم عانى كثيرًا قبل أن يعود “لأرض آبائه وأجداده” أو “أرض الميعاد”. وتلك الأرض بدورها كانت –ويا للمصادفة– بلا سكان أصليين ولا شعب يقطنها، فالمعادلة، إذن في نهاية المطاف، “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”.

لاحقًا، مع تطور أشكال النضال الفلسطيني، وتنوع المشهد الإعلامي الذي كسر حالة الاحتكار، وحين اضطرت دولة الاحتلال للاعتراف بشعب فلسطين، وضعته مرة أخرى في سياقات وسرديات زائفة؛ من قبيل بيع الأراضي و”المغادرة الطوعية”، وصولًا لتهمة الإرهاب التي بات لها قدرة أفضل في التسويق في العقود التالية على تأسيس “إسرائيل”، لأسباب معروفة.

ومع انطلاق معركة “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، لم يحد الاحتلال عن نهجه، فأطلق عددًا من الفِريات الكبيرة المتعلقة بالمعركة؛ لتشويه المقاومة وإدانة فعلها من قبيل قطع رؤوس الأطفال، وحرق جثث القتلى، واغتصاب النساء، واستهداف الحفل الغنائي، وما إلى ذلك. وهي سرديات هدفت لصرف الأنظار عن المشكلة الأساسية المتمثلة في الاحتلال، ولإدانة المقاومة ووصمها بالإرهاب وحرمانها من أي تضامن أو تعاطف والضغط عليها، ولشرعنة وتبرير جرائم الحرب التي كانت آلة الاحتلال العسكرية تخطط لها.

فشلت هذه المساعي لاحقًا بظهور كذب هذه البروباغندا من جهة، وسفور الوجه القبيح للاحتلال وجرائمه من جهة ثانية، ليقول الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش من على منبر الأخيرة: إن “السابع من أكتوبر/تشرين الأول لم يأتِ من فراغ”، معيدًا المشكلة لسببها الرئيس؛ أي الاحتلال وليس لردة الفعل عليه؛ أي مقاومته.

اتهامات متتالية

على التوازي مع الاحتلال، كان ثمة سعي مشابه من أطراف أخرى سعت لتشويه المقاومة كذلك، وتحديدًا حركة حماس. وإذا كانت أهداف الاحتلال واضحة ومفهومة –وإن لم تكن متفهمة– فإن أهداف “الآخر” كانت في سياقات متباينة ولأهداف مختلفة، ولكنها في النهاية كانت تتوسل سرديات متشابهة وأحيانًا متطابقة مع الاحتلال.

كان ثمة سرديات تتعلق بأصل المشروع وشرعيته، من قبيل ادعاء أن الموساد “الإسرائيلي” هو من أسّس حركة حماس؛ ليضرب بها منظمة التحرير. ورغم ما يعتري هذا الادعاء من سطحية ووضوح الافتراء، ورغم أن الحركة الفلسطينية خاضت مع الاحتلال أربعَ حروب وعددًا كبيرًا من موجات التصعيد، فضلًا عن الحرب الشاملة الحالية، إلا أنه ما زال حاضرًا لدى بعض الدوائر ويُستعاد بين الحين والآخر.

وهناك أيضًا سرديات انتشرت في فترات سابقة في سعي للتناغم مع حملات إعلامية تدور في فلك بعض الأنظمة؛ من قبيل ادعاء امتثال حماس لأوامر إيران، حيث انتشر حينها هتاف “شيعة شيعة” في بعض المظاهرات المصطنعة والمنسوجة مخابراتيًّا.

أما السردية الأكثر انتشارًا والتي سادت في مرحلة ما قبل معركة “طوفان الأقصى”، فهي أن الحركة دُجِّنت وتركت المقاومة؛ لأجل المال واستدامة الحكم وإدارة شؤون القطاع، وهي سردية كانت قد تكررت في سنوات سابقة بعد كل مواجهة مع الاحتلال، ثم لاقت رواجًا في المواجهات التي حصلت مؤخرًا بين الاحتلال وحركة الجهاد الإسلامي في غزة، وكانت مشاركة حماس فيها قليلة أو رمزية.

مع عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول، اتّضح سبب سلوك حماس هذا، فسقطت هذه السرديةُ، سرديةُ التدجين والتخلي عن المقاومة، لتحلّ مكانها سردية “التهور” والقتال دون حساب العواقب وردة فعل الاحتلال، وعدم الاكتراث بمصير عموم الشعب، وبالتالي تحميل المقاومة، وتحديدًا حركة حماس، وليس الاحتلال، مسؤولية الدماء والدمار. وهي سردية تتجاهل المسؤولية المباشرة للاحتلال بعدِّه المنفذ المباشر للمجازر وتفترض –دون وجه حق– أن عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول تستحقّ ردة فعل بمقياس الإبادة القائمة، وتتجاهل أن الاحتلال قائم في تاريخه وحاضره على مجازر وجرائم بذرائع وبدونها.

الآن، مجددًا، يعود للواجهة ادعاء أن المقاومة خاضت الحرب الحالية خدمة لـ “أجندات خارجية” والمقصود بها إيران، رغم أن كلًا من الأخيرة وحزب الله والولايات المتحدة ودولة الاحتلال، فضلًا عن المقاومة الفلسطينية، أكدوا مرارًا وبشواهد معروفة أنها عملية “فلسطينية خالصة” من حيث التخطيط والتنفيذ، بل إن مصادر في الحزب وطهران أوردوا في بعض التسريبات ما يمكن عدُّه عتبًا على عدم إحاطتهم بالمعركة مسبقًا.

كما أنها سردية تتجاهل فكرة أن حزب الله قد فتح ما أسماه “جبهة إسناد”، ويتجنب حتى اللحظة الدخول في حرب موسعة مع الاحتلال، وكذلك إيران التي اضطرت لتصعيد محسوب مع الاحتلال على غير رغبة منها، بعد أن سعى الاحتلال لتغيير قواعد الاشتباك بالتغول على مصالحها وشخصياتها القيادية.

وأخيرًا، هناك سردية أن حماس تخوض مفاوضات وقف إطلاق النار؛ بهدف المحافظة على مصالحها في القطاع والاستمرار في إدارته؛ أي أنها تهدف لمكاسب ومناصب متجاهلة الأوضاع الكارثية التي يعاني سكانه منها. هذه السردية المقصودة لذاتها تتجاهل عن عمد أن حماس كانت قد تخلت عن الحكومة في اتفاق سابق، ودعمت مسار الوفاق الداخلي والانتخابات التي ألغاها أبو مازن، ودعت أكثر من مرة لإدارة مشتركة للقطاع، ونادت منذ بداية الحرب بالشيء ذاته.

مَن المستفيد؟

تتجاهل كل هذه السرديات مسألة أساسية وجوهرية، وهي أن المقاومة الفلسطينية هي صاحبة القضية و”أم الولد” كما يقال، ولذلك فإن أي دعم حقيقي تحصل عليه من أي طرف يخدم القضية لا العكس. لكن الموقف من البعضِ الأطرافِ –والقصد هنا إيران و”محور المقاومة”، لأسباب محقة أو غير محقة– يجعل التقييم معكوسًا، والتقدير غير متزنٍ ومتجنٍّ إلى حد كبير. لدرجة أن البعض اتهم سابقًا حركة الجهاد الإسلامي بافتعال معارك مع الاحتلال لأهداف إيرانية، رغم أن الاحتلال هو من بدأها باغتيال بعض قياداتها.

لا خلاف على أن النقد لفصائل المقاومة، السياسية منها والعسكرية، مفيد ومطلوب حين يأتي في سياقه وتوقيته والأسلوب الأمثل، وحين يصدر من أرضية المقاومة ودعمها، ولكن النقد شيء، والهجوم والاتهام والتحريض شيء آخر تمامًا.

في الحالة الفلسطينية وفي العالم العربي هناك من يسعى بكل جهده ولا سيما في وسائل الإعلام؛ لتشويه وجه المقاومة، وخصوصًا حركة حماس؛ بسبب خصومةٍ سياسية أو خلاف أيديولوجي أو موقفٍ مسبق أو لتخليص حسابات سياسية، والبعض لمصالح ضيقة ومنافع مادية مباشرة. لكن ينبغي على الجميع أن يدرك مآل ذلك وتبعاته، وهل يصبّ ذلك في خدمة الشعب الفلسطيني كما يُظن ويُدّعى، أم يخدم الاحتلال ويساهم في شرعنة ثم استدامة عدوانه؟

تجري الإبادة على الجميع في غزة، وليس فقط عناصر المقاومة، ويشمل الدمار والقتل والحصار والتجويع الكل الفلسطيني. ولذلك فإن التماهي مع دعاية الاحتلال وتبنّي سردياته المشوّهة للمقاومة عن قصد أو بدون وعي يسهمان في سفك دماء الفلسطينيين وليس في حقنها، على عكس ما يُزعم، ما يدفع لضرورة التحذير والدعوة لإعادة النظر في التقييم والموقف من أصحاب النوايا السليمة والمقاصد النبيلة على أقل تقدير.


(*) طبيب وباحث فلسطيني

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل