تغول التكنوقراط ومأزق الدولة

د. علاء الدين بنهادي

كاينابريس – د. علاء الدين بنهادي(*)

“تكمن استراتيجية هذه الطبقة من المجهولين الذين يديرون الدولة في إغراق البلاد في إجراءات بيروقراطية ونصوص قانونية ومشاريع بدون منفعة للمجتمع، وذلك من أجل هدف واحد، هو ضمان أمرين مهمين، الأول استدامة السلطة في أيديهم، والثاني، منع القوى السياسية والاجتماعية من تدبير الشأن العام وخدمة مصلحة الأمة”، كتاب “هل ضروري سيدي الوزير؟”، جان بيير جويي.

المخزن والتكنوقراط

دفع المخزن، منذ فجر الاستقلال التبعي، النخبة التكنوقراطية القادمة من الطبقة البورجوازية الحضرية، والحاصلة على التدريب الإداري على يد الإقامة العامة الفرنسية، لتتصدر المشهد الحكومي مع حكومات البكاي بن مبارك الهبيل وأحمد بلافريج، 1958-1956، وشكلت ظاهرة سياسية واجتماعية جديدة مثلت الطبقة الحديثة لمخزن المغرب المستقل، لتكلف بقيادة الإدارة العمومية العليا من جهة، ومناكفة حزب الاستقلال ثم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية من جهة أخرى، بعد انشقاق 1959 وإعلان خطه المذهبي والإيديولوجي المعارض لسياسات الملكية ابتداء من أزمة إسقاط حكومة عبد الله إبراهيم عام 1960 من طرف ولي العهد حينئذ، الملك الحسن الثاني، ثم بعد إعلان الملك حالة الاستثناء، 1970-1965، وتعطيل عمل المؤسسات وشل الحياة السياسية، والدخول بالبلاد في نفق مظلم لخمس سنوات، عرف خلالها المغرب أسود مرحلة سياسية وأمنية وحقوقية في تاريخه المعاصر، وارتكبت خلالها أبشع الجرائم والاغتيالات السياسية والاعتقالات التعسفية والمحاكمات العرفية، خاصة مجزرة الدار البيضاء واغتيال القيادي الاتحادي المهدي بن بركة عام 1965، لتنتهي بمحاولتين انقلابيتين عسكريتين عامي 1971 و1972، كادتا أن تدخل الدولة والمجتمع في حرب أهلية وانهيار مؤسسي مظلم.

ثم سيبرز دور هذه النخبة المخزنية بقوة عام1977 عندما تقدم أشخاص ادعوا “عدم الانتماء” للمشاركة في الانتخابات التشريعية، ليحصدوا أغلبية المقاعد بمجلس النواب، كما هو شأن حكومة أخنوش اليوم، ويتحولون بقيادة أحمد عصمان، الوزير الأول الأسبق وصهر الملك الراحل الحسن الثاني، إلى حزب سياسي في أكتوبر 1978، لمنافسة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية واستكمال ما بدأه مستشار الملك، أحمد رضا أكديرة، عام 1963، حينما أسس جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية، “الفديك”، لمواجهة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في الانتخابات التشريعية عام1963، وتشكيل حكومة امحمد باحنيني، حكومة لم تصمد أمام التحالف المعارض، الاتحاد الوطني وحزب الاستقلال، كما سبقها تأسيس الحركة الشعبية في أروقة دار المخزن عام 1957 على أساس عرقي وقبلي لسحب ساكنة البادية المغربية ذات الأغلبية من الاستقطاب اليساري والاستقلالي.

وستستمر ظاهرة التكنوقراط هذه في التنامي بشكل مضطرد وترهن مستقبل وتطور الحياة السياسية بالمغرب، الذين سيتحولون إلى “زعماء”، أمثال أحمد عصمان وعزيز أخنوش وعبد اللطيف وهبي ونزار بركة وإلياس العماري وحكيم بنشماس ومصطفى الباكوري وفاطمة الزهراء المنصوري، على رأس أحزاب أسست على نفس طريقة “الحركة الشعبية” و”الفديك” و”الأحرار”، لتكون آخر نسخة معدلة لهذه الظاهرة، حزب الأصالة والمعاصرة، “البام”، بمبادرة من مستشار الملك، فؤاد علي الهمة عام 2008، حزب لم يكتف، كما وقع منذ تأسيس الحركة الشعبية، بمواجهة حزب العدالة والتنمية كما أعلن ذلك، ولكن قام بإفراغ العمل الحزبي والمشهد السياسي من أي معنى أو قيمة، وأنهى دور الأحزاب في المجتمع والحياة السياسية، وبسط هيمنته المطلقة على تدبير مؤسسات الدولة دون معارضة حقيقية أو محاسبة تشريعية، وهو ما تحقق لهذا الحزب مع حلفائه في “الشجرة السلالية”، التجمع الوطني للأحرار وحزب الاستقلال في الثامن من سبتمبر 2021، والدفع بـ “التكنوقراط”، وهم قاعدة ومادة الأحزاب الإدارية كما سيلاحظ في تركيبة الحكومة الحالية والبرلمان والدواوين الوزارية والمؤسسات العمومية وشبه العمومية، وأيضا في المشاريع والمبادرات التي سبقت أو لحقت بتشكيل الحكومة مثل اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي والمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، وقبلها المبادرة الوطنية للتنمية البشرية والمجلس الوطني لحقوق الإنسان.

لقد تحول التكنوقراط في انتخابات 2021، أحفاد “المستقلين” في انتخابات 1977 ومن قبلهم أجدادهم في “الفديك” في انتخابات 1963، ومن قبلهم المنبت السلالي، الحركة الشعبية عام 1957، إلى متحزبين ليشغلوا مناصب وزارية ويستولوا على مقاليد المؤسسات المهمة في الدولة، سياسية واقتصادية وثقافية ودبلوماسية وأمنية، والقاسم المشترك بينهم هو الولاء الأعمى والمطلق للسطلة، ظالمة أو مظلومة، وإعاقة المسار الديمقراطي والإصلاحي، والتبعية للغرب ولمؤسساته المالية الدولية وثقافته الليبرالية المتوحشة والعلمانية الاستئصالية، والجهل بالتاريخ والحضارة والإسلام في المغرب وفي الأمة العربية والإسلامية والرفض لهوية المغاربة الدينية، ومناهضة قضايا الأمة المركزية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية كما شاهدنا وتابعنا ذلك خلال معركة طوفان الأقصى.

إننا نقصد بالكوادر المجهولة هؤلاء الأشخاص الذين لا انتماء أو التزام سياسي وطني لهم، بالرغم من لجوء السلطة، خلال السنوات الأخيرة، إلى “تحليتهم” عبر أحزاب إدارية وغيرها، ومنهم من يتم نقلهم من حزب لآخر حسب الضرورة السياسية والسياق التاريخي، كوادر تدبر وتقرر السياسات العمومية ومصير شعب ودولة داخل مكاتب مغلقة بعيدة عن الرقابة الشعبية المباشرة وغير المباشرة وعن نبض الشارع، وتتلقى توجيهات وتعليمات من الجهات التي أتت بها لتنفيذ هذه المهام بعيدا عن أي محاسبة قضائية أو مراقبة تشريعية ولا تتمتع بمشروعية انتخابية، ولا ترتبط عاطفيا بقضايا الوطن والأمة عند الأزمات، كما هو الشأن اليوم مع قضية الأساتذة “والنظام الأساسي” المشؤوم ومعركة طوفان الأقصى.

إن دراسة تاريخية وتحليلية لهذه الظاهرة الاجتماعية والسياسية تخلص إلى أن هؤلاء المجهولون مروا بثلاث مراحل تطور وتحول، بدؤوا مع ولادة الحركة الشعبية القيصرية عام 1957لمواجهة حزب الاستقلال والتضييق عليه في القرى ذات الأغلبية السكانية، ثم تصدروا انتخابات 1963 بقيادة “الفديك” لمناكفة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والتضييق على أنشطته السياسية والنقابية والاجتماعية، ثم شاركوا في انتخابات1977، بصفتهم “مستقلين”، ليتحولوا بعد اكتساح البرلمان بقيادة أحمد عصمان تحت اسم “التجمع الوطني للأحرار”، ثم خلال تجربة التناوب الحكومي عام 1998 سيستلمون الإدارة العمومية ككتاب عامون ومدراء مركزيون وعلى رأس المؤسسات العمومية وشبه العمومية بصفتهم “تكنوقراط” في وجه حكومة اليسار على وجه الخصوص، كما فعل ولي العهد الحسن الثاني مع حكومة عبد الله إبراهيم، 1960-1958، انتهت بإسقاطها بعد أن نفذ وزراء المخزن مشروع إجهاض هذه التجربة الوطنية من داخلها، ليصبح هؤلاء المجهولون التكنوقراط والمتحزبون فيما بعد، إضافة للشتات اليساري ومجموعة من الانتهازيين، القاعدة الأساسية لحزب الأصالة والمعاصرة عام 2008، النسخة الأخيرة للكوادر المتحولة، لمواجهة مرحلة الإسلاميين غداة اندلاع الربيع العربي عام2011، خاصة مع رئاسة حزب العدالة والتنمية لحكومتين، 2021-2012، ثم عادوا بقوة غداة انتخابات 8 سبتمبر 2021 بتحالف مع أحفاد “الفديك” و”الأحرار” والحليف التقليدي للمخزن، حزب الاستقلال، ليشكلوا “حكومة الأمر الواقع”، بتعبير الفقيه موريس دوفرجيه، ويبسطوا هيمنتهم على مقاليد الحكم ومؤسسات الدولة، وطنيا وجهويا ومحليا.

السلطة التكنوقراطية

يشهد التاريخ السياسي المغربي المعاصر بأن هؤلاء التكنوقراط لا إحساس لهم بهموم ومطالب الشعب، كما هو الحال اليوم بشأن أزمتهم مع رجال التعليم، وهم اليوم في صدارة المشهد العمومي، يتحكمون في جميع القطاعات الحيوية، وينفذون سياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وأطماع الأوليجارشية، وينخرطون في أجندات خارجية عبر القرارات والمشاريع الحكومية على حساب مصالح الشعب واستقرار البلاد ونهضته وازدهاره، ويتبوؤون مناصب حكومية وتشريعية ويديرون مؤسسات حيوية، كما هو شأن حكومة الأمر الواقع اليوم، ويساندون بعضهم البعض ضد مصالح قطاعات حيوية عديدة كما حصل مع مباراة المحامين ويحصل اليوم مع الأساتذة المتعاقدين بشأن ما يسمى بـ “النظام الأساسي”، وقبل ذلك مع الأطباء والعدول، واليوم مع مدونة الأسرة وقضايا المثلية والفساد المالي والانحلال الأخلاقي في المهرجانات وتبذير المال العام في غياب المحاسبة والمساءلة رغم صدور تقارير عن مؤسسات دستورية تدين الفاسدين.

إننا سنذكر في هذا المقال، من باب المثال لا التشهير أو التجريح، بعض الشخصيات التكنوقراطية المنتمية لعائلات وجيهة ونافذة، والتي أدارت وتدير مؤسسات ووزارات حساسة ومرافق عمومية وتدبر السياسات العمومية لقطاعات استراتيجية مثل التعليم والصحة والشغل والنقل والفلاحة والخارجية والداخلية والعدل والمالية والتجارة الخارجية، كما تم تعيينها على رأس ولايات وجهات ومؤسسات عمومية وشبه عمومية، وهذه الشخصيات والعائلات هي مجرد الجزء الظاهر من جبل الجليد، لأن وراءها، ومنذ عقود، “جيش” من الكوادر التكنوقراطية المرتبطة بدار المخزن وبقوى أجنبية خلال حقبة الاستعمار الفرنسي، ثم ما بعد “الاحتقلال”، بتعبير المجاهد الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، بطل معركة أنوال، 1921-1926، ومن بين هذه الشخصيات، على سبيل المثال لا الحصر، إدريس جطو وشكيب بن موسى ويونس سكوري وعزيز أخنوش وإدريس الضحاك ومحمد حجوي وعبد الوفي لفتيت وناصر بوريطة وأمينة بنخضراء وزينب العدوي وأحمد توفيق وخالد آيت الطالب وفوزي لقجع ومصطفى الباكوري وإدريس بنهيمة ومحمد حصار وسعيد أمزازي والحبيب المالكي وأحمد الحليمي وفتح الله أولعلو وعبد الواحد الراضي وإدريس لشكر وأحمد رضا الشامي (هؤلاء شخصيات اليسار المخزني) وحفيظ العلمي وعمر عزيمان ومحمد المعتصم وإدريس البصري وحسن أبو أيوب والطيب الفاسي الفهري ومحمد بن عيسى وعبد اللطيف الفيلالي وكريم العمراني وعبد اللطيف المنوني وعبد السلام أحيزون وعبد اللطيف زغنون ومحمد بن شعبون وعبد الحميد عدو ويوسف العمراني ومصطفى التراب وعبد الحفيظ الحافظي ومحمد ربيع الخليع وفيصل العرايشي وكريم بوزيدة وعبد اللطيف الجواهري، كما أن هناك جيشا من الكوادر التكنوقراطية بدواوين وزراء حكومة أخنوش ومؤسسات حكومية وجامعية أخرى وبالقطاع الخاص.

لقد جيء، في البداية، بهؤلاء التكنوقراط من قبل السلطة لاعتقادها بأن السياسيين، وبسبب صراعاتهم وحساباتهم الشخصية والإيديولوجية والحزبية الضيقة، وتغليب مصالحهم الشخصية على المصلحة الوطنية، أصيبوا خلال عملهم الحكومي والتشريعي وتدبيرهم للسياسات وللإدارة العمومية، بالعجز والشلل والكسل، فجيء بالتكنوقراط لتسيير الإدارة والمرافق العمومية ووضع سياسات لتدبير القطاعات الحيوية بناء على كفاءات ومهارات عالية راكموها في القطاع الخاص وجلبوها معهم من المعاهد والمدارس العليا التي تخرجوا منها في المغرب أو في الخارج، إلا أن هؤلاء التكنوقراط تحولوا فيما بعد، بفعل النفوذ والمال، إلى طبقة نافذة في دواليب الدولة ومفاصلها، وبدأ هامش فعل الأحزاب في الحياة السياسية يضيق شيئا فشيئا، خاصة بعدما عملت السلطة على “تبييض” هذه الطبقة و”تحليتها” عبر أحزاب إدارية ووطنية، وذلك حتى لا تطالهم انتقادات الشعب والنخب السياسية والحزبية وتنظر إليههم بأنهم دخلاء على الشأن العام والتدبير السياسي لمؤسسات الدولة على حساب الأحزاب.

التكنوقراط بين التوظيف السياسي والتغول السلطوي

إن عدم نشأة هذه الطبقة الإدارية في الحاضنة الحزبية الطبيعية وعملها بعيدا عن انتظارات الشعب وعن نبض الشارع وحملها لثقافة ليبرالية قائمة على الريع والانتهازية التجارية لدرجة التوحش، جعلها لا تتأثر ولا تتفاعل مع هموم الشعب وتطلعاته كأنها آلات بلا مشاعر ولا إحساس، وتتعامل مع مطالب مختلف فئات القطاعات الاجتماعية الحيوية بثقافة وسلوكيات متعالية لأنه ليس عليها تقديم الحساب لنواب الأمة أمام واقع حزبي منهار ومتواطئ في عمومه، بل واقع حزبي قبل حتى في حكومة التناوب اليسارية وحكومة ما بعد الربيع العربي الإسلامية أن يتعايش مع هذه الطبقة الهجينة وشكل معها تحالفات حكومية وبرلمانية وداخل المجالس المحلية والجهوية، بل قبل بـ “حكومة الأمر الواقع” بقيادة كبير التكنوقراطيين، رجل الأعمال عزيز أخنوش، حكومة التكنوقراط المتحولين، ولم يقم بأي مبادرة سياسية جدية لإسقاطها عبر الشارع وقد أتيحت له فرص اجتماعية ولازالت لصالح إسقاطها.

إن غياب الوعي السياسي وضعف الحس الوطني لدى النخبة التكنوقراطية وفقدان المشروعية، بالرغم من أن الدولة قامت بـ “تبييضها” حزبيا، وجاءت بها بناء على كفاءاتها وقدرتها على عقلنة السياسات العمومية وتدبير المرافق العمومية بشكل أفضل، وأمام تخلي الأحزاب عن مسؤولياتها الدستورية والتزاماتها الأخلاقية ومشروعها الفكري والإيديولوجي والتحول للوبيات مصالح وجماعات الضغط، جعل هذه النخبة المتعالية اليوم أمام تحد بنيوي ومأزق سياسي وأخلاقي وفشل مركب في التدبير والعقلنة، بل لم تنجح في أن تصبح بديلا عن الأحزاب، وهذا مأزق قاتل وقعت فيه الدولة، خاصة مع حكومة الأمر الواقع برئاسة رجل الأعمال عزيز أخنوش ومشاركة حزب إداري بلا رصيد نضالي ولا شرعية تاريخية ولا تجانس فكري أو هوية إيديولوجية، الأصالة والمعاصرة، وحزب الاستقلال الذي يتموقع تاريخيا على يمين المخزن منذ حكومة بلافريج.

لقد كان هدف السلطة مع بداية الاستقلال هو استقطاب نخبة “مستقلة” لوضعها في وجه قادة وكوادر حزب الاستقلال، ثم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بعد الانشقاق عن الحزب الأم عام 1959، والدفع بها لتدبير الإدارة العمومية العليا وضمان ولائها للمخزن من جهة، كما كان هدف السلطة، من جهة أخرى، إحداث طبقة وسطى منافسة للطبقة الوسطى التي كانت قريبة من المعارضة اليسارية خاصة في الإدارة العمومية والجامعات والإعلام وفيما بعد أيضا في الحقل الثقافي والحقوقي، والعمل على أن تكون، مع مر السنين، بديلا عن الطبقة الوسطى اليسارية والليبرالية الإصلاحية التي سيلتحق بها كوادر الحركات والتيارات الإسلامية، بل سيشكل الإسلاميون في تسعينيات وبداية الألفية الحالية العمود الفقري لهذه الطبقة، الأمر الذي أضحى يشكل خطرا وجوديا على استقرار النظام السياسي.

وإذا كانت السلطة قد نجحت في إحداث تطور ملحوظ في بعض القطاعات على يد التكنوقراط المستقلين أو المتحولين حزبيا، مثل التحديث الإداري وعقلنته والتوازنات الماكرواقتصادية والمالية الريعية والمشاريع القطاعية والبرامج التنموية والعمل الدبلوماسي والقطاعات الأمنية واختراق المجال الإعلامي والحقوقي والنقابي والحزبي والأكاديمي باستعمال كوادر محسوبة عليها، والتأثير على القرار التنفيذي والتشريعي والأمني والقضائي، وإذا كانت السلطة قد نجحت في جعل هذه الطبقة النخبوية عبارة عن حزام أمان لحماية النظام من أي مخاطر اجتماعية وسياسية وأمنية، كما وقع منذ أحداث الدار البيضاء عام 1965، مرورا بأحداث الثمانينيات والتسعينيات وبأحداث الربيع العربي عام 2011، وبالعقد الثاني من الألفية الجارية، فإن الدولة قد أصبحت ضحية هذا الاختيار السياسي والتكتيكي، بحيث أضحت هذه الطبقة تتمتع بسلطات واسعة وتحولت لطبقة صلبة في هرم الدولة والنظام، وتحولت إلى شوكة في كعبها ليس من السهل التخلص منها، كما أن هذه النخبة التكنوقراطية لم تنجح في إيجاد حلول لمشاكل المغاربة الحقيقية لبعدها عنهم، من تعليم وصحة وتوظيف وكرامة ومواطنة حقة وحقوق سياسية ومدنية وتوزيع عادل للثروات وحماية الدولة من الأطماع الأجنبية، خاصة الصهيونية والاستعمارية الجديدة، ولم تنجح في بناء الدولة الاجتماعية والنظام القضائي العادل، بل لم تنجح في وقاية نظام الحكم، الملكية، من أي مخاطر اجتماعية، محلية أو تهديدات أجنبية للأسباب التي ذكرناها آنفا وللتطورات الإقليمية والدولية التي تعصف بالدول. إن هذه الطبقة التكنوقراطية غير مؤهلة لتحمل مهام سياسية لا تقوم بها في الأصل سوى قوى سياسية صاحبة مشروع مجتمعي وبرنامج سياسي ورؤية لإدارة الدولة وتدبير السياسات العمومية بمسؤولية ومشروعية أمام نواب الأمة.

إن مسؤولية تدبير شؤون الدولة ومصالح المجتمع تحتاج لقوى سياسية مسؤولة أمام الأمة عبر نوابها وملتزمة أخلاقيا ببرنامجها المجتمعي وبمرجعيتها القيمية والإيديولوجية وبشرعيتها التاريخية ومشروعيتها وتعاقدها مع الناخبين، وقد تكون هناك حاجة للكوادر التكنوقراطية لتدبير فترة في الزمن السياسي المتأزم بالنسبة للسلطة، وتسيير بعض القطاعات التقنية والفنية داخل الإدارة العليا، والمشاركة في صياغة بعض السياسيات العمومية المتخصصة، ولكن ليس إدارة وزارات ورئاسة حكومات والتسلل إلى المؤسسة التشريعية وبعض المؤسسات الاستراتيجية في الدولة، لأن في ذلك خطرا على الحياة السياسية في البلاد من جهة، وتدفع بالأزمات التي تشهدها قطاعات عديدة في البلاد، التعليم نموذجا اليوم، نحو المزيد من الاحتقان والتوتر، وربما التوجه نحو الانفجار من جهة أخرى، بسبب ثقافة التعنت وسلوك التعالي التي تظهر في طريقة تدبير هذه الأزمات من قبل النخبة التكنوقراطية الوزارية، شكيب بن موسى وعزيز أخنوش وعبد اللطيف وهبي نموذجا، ثقافة خالية من أي التزام سياسي وأخلاقي وطني أمام نواب الأمة والمجتمع.

محاكمات التكنوقراط.. نهاية مرحلة

تتقن النخبة التكنوقراطية، منذ عقود، سياسة تأجيل انفجار الأزمات وحل الملفات الحارقة والتمترس وراء القضاء والنيابة العامة والأمن لحل الاحتجاجات الاجتماعية والقطاعية والحقوقية، ولكنها لا تقدر على معالجتها بما يعود بالنفع على المواطن ومصداقية مؤسسات الدولة، فحينما واجه الحكم معارضة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، جاء بالتكنوقراط بديلا تكتيكيا عن الاتحاد لإدارة فترة الأزمة السياسية منذ إسقاط حكومة عبد الله إبراهيم عام 1960، ولكن على المدى الاستراتيجي كان الحكم هو الخاسر الأكبر دائما، خاصة بعد حل حكومة أحمد باحنيني التكنوقراطية عام 1965 وإعلان حالة الاستثناء واندلاع الأحداث الدامية في الدار البيضاء في نفس السنة، وشلل حركة مؤسسات الدولة وتصفية عمل الأحزاب وتنفيذ اغتيالات سياسية كان أبرزها المهدي بن بركة سبعة أشهر بعد إعلان حالة الاستثناء.

يشبه مصير وسياق تأسيس وحل “الفديك” وتشكيل حكومة أحمد باحنيني في السابع من يونيو 1965 إلى حد كبير مصير وسياق تأسيس “البام” و”الأحرار” وتشكيل حكومة عزيز أخنوش بتحالف مع “البام” و”الاستقلال” في الثامن من سبتمبر 2021، وقد قام الملك الراحل الحسن الثاني بنفسه حل مشروع “الفديك” وحكومة وبرلمان انتخابات 1963 التشريعية بعد عودته من الولايات المتحدة الأمريكية، لهندسة مرحلة سياسية جديدة هي الأشد عنفا في التاريخ السياسي المغربي المعاصر، وحسم الصراع بينه وبين معارضيه خارج صناديق الاقتراع، على أرض الواقع، بدأ بمجزرة الدار البيضاء 1965 واغتيال بن بركة واعتقال ومحاكمة بعض قادة وأعضاء الاتحاد ولم ينتهي أبدا، فهل ما يجري اليوم من اعتقالات ومحاكمات وأحكام دستورية وقضائية في صفوف “البام” و”الأحرار” و”الاستقلال” بتهم الفساد والاتجار في المخدرات والبشر وتزوير وثائق رسمية واستغلال النفوذ هو اعتراف غير مباشر بفشل سيناريو انتخابات الثامن من سبتمبر وما أنتجته من حكومة أدخلت المجتمع والدولة في أزمات واضطرابات وفساد لم يسبقها إليه حكومة أخرى منذ الاستقلال التبعي، مما يشكل خطرا على السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي والأمني على المدى المتوسط في سياق وضع جيوسياسي مغاربي وعربي وعالمي مضطرب وأزمات يتخبط فيها الاقتصاد المغربي واحتقان اجتماعي وفراغ سياسي، اقتراحي ومؤسسي، أوشك على الاصطدام بجدار سياسات الإنكار والكبر والتعنت الحكومي؟

تواجه الدولة اليوم مأزقا بلا أفق واضح وفراغا ومراوحة في كل شيء، وأصبحت تدور حول ذاتها في قعر سحيق، بحيث لم تعد تجد أمامها معارضة سياسية حقيقية ونزيهة وقوية تقوم سياسات الدولة وتتنافس في خدمة البلاد، بل لم تتركها تكون كذلك، ولا إسلاميين مستقلين يواجهون الفساد والظلم بجدية ومبدئية، ولا أحزاب إدارية تكنوقراطية منضبطة ونزيهة، صنعها لمواجهة خصومه التاريخيين، لكنها تغولت هي الأخرى وانحرفت عن مهامها التي أوكلت إليها عند صناعتها، وأصبحت عامل عدم استقرار لمؤسسات الدولة وللسلم الاجتماعي، وأصبح الفساد ينخر صفوفها ورجالاتها وتحولت لجماعات ضغط تبتز الدولة والحكم بعد أن ساهمت في إضعاف الأحزاب الوطنية وتدجينها وتحويلها، هي الأخرى، إلى كائنات هجينة.

إن المرحلة القادمة، وهي آخر مشهد في مسلسل تبادل الأدوار بين الأحزاب الإدارية التكنوقراطية وبين ما يسمى بالأحزاب الوطنية والإسلامية، وفي ظل التحولات الجيوسياسية الإقليمية والدولية، وحيث إن المغرب، في ظل حكم التكنوقراط، لا يبدو أنه يعمل بجد لاستعادة دوره التاريخي كفاعل حقيقي في العلاقات الدولية كما كان قبل هزيمتي “إيسلي” و”تطوان”، 1844 و1860 على التوالي، فإن سياسة “تدوير” الأزمات و”صناعة” رأي عام ضائع ومضطرب وإشغاله بأحداث تافهة وصراعات وهمية داخل منظومة الحكم ومعارك هنا وهناك، مسألة الهوية والمدونة والملاحدة ومحاكمات الفساد، لن تنقذ الوضع العام وتجنبه الاصطدام والانهيار، لأن النخبة التكنوقراطية ليس في جيناتها هذه الروح السياسية الوطنية، كما أن طبيعة مهامها تكتيكية وعمرها السياسي الافتراضي قصير، وقد انتهى، وإشعاعها محدود جدا، والزج بها في إدارة شؤون دولة والنهوض بمصالح الشعب كشف عن حقيقة طبعها المتغول وشخصيتها الأوليجارشية، ومنحها المزيد من النفوذ عبر مؤسسات الدولة لن يزيدها سوى تغولا وانحرافا واستكبارا، مما سيعمق أزمة الثقة لدى المجتمع تجاه الدولة ومؤسساتها، ويحولها إلى أداة بيد القوى الاستعمارية الأجنبية والمؤسسات المالية الدولية، ويضع سيادة المغرب واستقلاله في خطر كما وقع في الثلاثين من مارس 1912.


(*) باحث مغربي، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية.

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل | فلسطين