
في السياسة، كما في الطبيعة، من يشعل النار لا يملك دائمًا حق الشكوى من الدخان. ومن يفتح باب التنافس لا يضمن أن يظل الخصوم خلفه. هذه القاعدة البسيطة، والمجردة من أي تلوين أيديولوجي، قد تكون مدخلا مناسبا لفهم المفارقة التي يعيشها اليوم حزب التجمع الوطني للأحرار، وهو يرى السباق الانتخابي ينطلق مبكرا من داخل الحكومة التي يرأسها، دون أن يُخفي امتعاضه من تلك السرعة التي لحقه بها الحلفاء، أو ربّما تجاوزوه.
كل شيء بدأ حين قرر عزيز أخنوش، رئيس الحكومة وزعيم حزب “الأحرار”، أن يستثمر لحظة التعديل الحكومي الواسع الذي جرى في أكتوبر 2024، والذي “دار فيه شرع يديه” بوضوح، ليبسط أمام الرأي العام جدول أعمالٍ سياسيا جديدا، عنوانه العريض: العد التنازلي لانتخابات 2026.
ففي حوار خاص مع الزملاء في صحيفة “مدار21″، اختار أخنوش أن يتحدث بلغة الأرقام ليعبّر عن نواياه، قائلا إن 18 شهرا فقط تفصل البلاد عن موعد الاستحقاقات، وهو تصريح لم يكن بريئا ولا اعتباطيا، بل عبّر عن انتقال مبكر إلى منطق الحملة واستشراف الولاية الثانية، بما يفيد أنه يرى نفسه – وحزبه – في موقع الاستمرارية، لا المحاسبة. ونشوة التعديل الحكومي الذي استجاب لكثير من تطلعات أخنوش السياسية، حملته على تقديم موعد الانتخابات في شكل من أشكال تقديم أوراق اعتماده كرئيس للحكومة لولاية ثانية.
غير أن هذا التقدير لم يكن دقيقا في حساب تفاعلات الحلفاء قبل الخصوم. ففي ظرف أسابيع قليلة، انتقل حزب الأصالة والمعاصرة من وضعية الشريك الحذر إلى وضعية الطرف المنافس، حيث خرج وزراؤه، وعلى رأسهم فاطمة الزهراء المنصوري والمهدي بنسعيد، بتصريحات واضحة تعبّر عن طموح الحزب إلى تصدّر الانتخابات المقبلة، وقيادة “حكومة المونديال”، قبل أن يلحق بهم رئيس الحكومة السابق، الأمين العام الحالي لحزب العدالة والتنمية، ليعبّر عن طموح مماثل في تصدّر الانتخابات المقبلة.
عضو القيادة الجماعية لحزب الأصالة والمعاصرة، الوزير المهدي بنسعيد، تحديدا، اختار لغة شعبية مفعمة بالإيحاء عندما قال في لقاء مع مؤسسة “الفقيه التطواني”: “حنا اولاد الناس، ولكن اللي جبدنا يلقانا”، في إشارة إلى أن “الركض نحو الصدارة” ليس حكرا على طرف واحد في الأغلبية.
ثم جاء الدور على حزب الاستقلال، الذي اختار أمينه العام نزار بركة أن يطلق من “أولاد فرج”، منتصف فبراير 2025، خطابا من نوع آخر، مستثمرا رصيده التواصلي المحافظ، ليخاطب الفاعلين السياسيين بعبارته الشهيرة: “اتقوا الله في المغاربة”.
عبارة تجاوزت طابعها الوعظي لتتحول إلى موقف سياسي ضمني، مفاده أن الصراع حول المستقبل يجب أن لا يُفقد الحكومة مسؤوليتها الأخلاقية أمام المواطنين، وعبّر من خلالها حزب الاستقلال عن احتفاظه بكامل إرثه التاريخي في إدارة مثل هذه المعارك، أي المشاركة في الحكومات مع الحفاظ على صلة الوصل المباشرة مع المجتمع ومطالبه استعدادا للانتخابات الموالية.
لكن ما يُعقّد المشهد أكثر هو أن الأصوات الناقدة لا تأتي فقط من خارج بيت رئيس الحكومة، بل من داخله أيضا. ففي خضم هذا السباق المحتدم، خرج محمد أوجار، القيادي البارز في حزب التجمع الوطني للأحرار، والوزير السابق، في حديث علني نُقل على شاشة القناة الأولى، ليوجه سهام النقد لا نحو المعارضة، بل نحو “المضاربين” الذين ينهكون القدرة الشرائية للمغاربة، متهما بعض السلطات، ضمنيا، بالتقصير في محاربتهم.
هذه الخرجة، التي جاءت في وقت حساس، لم تمر مرور الكرام. فقد بدت وكأنها صوت من داخل الحزب يعبّر عن مأزق حقيقي: كيف يمكن لحزب يقود الحكومة أن يستمر في الحديث بلغة المعارضة؟
بل كيف يمكن لقيادي حزبي مخضرم أن يتهم “السلطات” بالتقصير، بينما الحكومة التي تنتمي إليها هذه السلطات يُفترض أنها تعكس توجه حزبه؟
في خلفية هذا التناقض، يلوح سؤال أعمق: هل نحن أمام ازدواجية خطاب داخل الحزب نفسه، أم أن التململ بلغ حدّ التبرؤ الرمزي من تبعات التسيير والبحث عن وضعية قدم في الحكم وأخرى في المعارضة؟
تصريحات أوجار ليست فقط تعبيرا عن حساسية ظرفية، بل عن اختلال بنيوي في العلاقة بين السياسي والتقنوقراطي داخل الحكومة. بل لعلها محاولة استباقية من “الجناح السياسي” في الأحرار لتفادي دفع تكلفة قرارات تُتخذ في دوائر مغلقة، باسم الأغلبية، دون أن تحظى بالحد الأدنى من الإجماع أو النقاش الداخلي.
هكذا، في ظرف لا يتجاوز بضعة أشهر، وجد حزب رئيس الحكومة نفسه مرتبكا ومحاطا بشريكين يعبّران جهارا عن رغبتهما في تصدّر الانتخابات المقبلة، ويستعرضان منجزاتهما القطاعية بخطاب لا يخلو من الرغبة في تحويل الوزارات إلى قواعد انتخابية، كما يجري حاليا في وزارة التربية الوطنية بكل السفور الممكن.
وما كان يُقدم سابقا كـ”انسجام داخل الأغلبية”، تحوّل اليوم إلى ما يشبه “هدنة انتخابية داخل الحكومة الواحدة”، حيث يمارس كل طرف نوعا من الترويج الذاتي تحت سقف جماعي هش وقابل للانهيار في أية لحظة.
الأكثر مفارقة أن هذا التنافس المبكر، الذي بدأ يثير انزعاج بعض مكونات حزب الأحرار، ليس غريبا عن سلوك الحزب نفسه. فقبل أقل من خمس سنوات، كما دكّرنا الصديق عبد الله الترابي أمس في تدوينة فيسبوكية، كان عزيز أخنوش نفسه يقود حملة انتخابية ضد رئيس الحكومة السابق سعد الدين العثماني، قبل أكثر من عامين على موعد الاقتراع.
حينها، لم ير حزب الحمامة في التنافس المبكّر وإطلاق حملة قادته إلى التجوّل بين المدن عيبا، بل قدمه كتمرين ديمقراطي واستعداد طبيعي لتحمل المسؤولية.
فما الذي تغيّر اليوم؟
ربما نكون أمام إعادة إنتاج لنفس المشهد، ولكن بألوان مقلوبة. من كان في موقع الهجوم، صار اليوم في موقع الدفاع. ومن كان يحتجّ على الحملة المبكرة، أصبح يراها حقا مشروعا. ومن كان يشكو من الإقصاء داخل الأغلبية، أصبح يشتكي من المنافسة داخلها.
في العمق، لا يتعلق الأمر بخطأ تكتيكي أو حساب توقيت، بل بتحوّل عميق في طبيعة السلطة التنفيذية الحالية. فحكومة 2021 لم تُبنَ على قاعدة تقاطب سياسي واضح، بل على توازن مصالح بين أحزاب جاءت من خلفيات متباينة، وجمعتها لحظة ظرفية بعد زلزال 8 شتنبر.
اليوم، ومع اقتراب نهاية الولاية، تعود تلك التباينات إلى السطح، ليس على شكل خلافات، بل على شكل تنافس مفتوح على من يحصد الثمار في صيف 2026.
والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم ليس عن مشروعية التنافس داخل الحكومة، بل عن قدرة هذه الحكومة على مواصلة العمل في ظل ما يشبه “سباقا ثلاثيا مفتوحا”.
هل نحن بصدد استكمال ولاية، أم نعيش الأشهر الأولى من حملة انتخابية سابقة لأوانها؟
وهل يمكن أن تشتغل حكومة بثلاث لغات سياسية وثلاث أجندات حزبية، دون أن يتحوّل مجلسها الأسبوعي إلى مجرد استراحة بين جولتين انتخابيتين؟
قد لا نجد الجواب الآن. لكن ما نعرفه يقينا هو أن من أشعل الفتيل لا يستطيع أن يُنكر على الآخرين الرغبة في استعمال النار.