خير وسلام!

يونس مسكين26 مارس 2025
يونس مسكين

ما حصل في الولايات المتحدة الأمريكية أخيرا حين وجد الصحافي جيفري غولدبرغ نفسه فجأة داخل “غرفة عمليات” تقود ضربات عسكرية عالية الحساسية ضد اليمن، يؤكد أن بعض القصص لا تحتاج إلى حبكة متقنة أو رواية متخيلة لتفاجئك بجرأتها.

ما وقع في واشنطن قبل أيام، حين أضاف مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي، دوانلد ترامب، عن طريق الخطأ صحافيا إلى مجموعة دردشة كانت تناقش خططا عسكرية لضرب اليمن، لا يمكن وصفه إلا بـ”الفضيحة السيادية” في زمن ما بعد السيادة.

لم يدرك مايكل والتز، اليد اليمنى للأمن القومي في إدارة ترامب الثانية، -أو لعل أصابعه خانه وهو يضيف الأسماء- أن جيفري غولدبرغ، رئيس تحرير مجلة “ذا أتلانتيك”، ليس من موظفي البنتاغون، بل هو من أولئك الذين تُمنح لهم قاعة كاملة من الرأي، لا مقعدا في دوائر القرار.

وجد بغولدبرغ نفسه داخل مجموعة “سيغنال” مغلقة، يتحدث فيها نائب الرئيس ووزير الدفاع ووزير الخارجية، ليس عن الطقس أو نتائج “تشامبيونز ليغ”، بل عن توقيت الضربة، وأنواع القنابل، وأسماء الأهداف البشرية.

الصحافي لم يفزع ولم ينسحب ولم يصدر بيانا عاجلا ولم يبلغ مكتب التحقيقات الفيدرالي. بل انتظر وراقب وسجّل، وبعد تنفيذ الضربة فعليا، نشر.

نعم، لقد كتب مقالا نُشر على موقع المجلة العريقة، حكى فيه كيف وصلته الخطة العسكرية الأمريكية مثلما تصل دعوة لحفل عشاء. ثم ختم باعتراف أنه لم يبلغ أحدا، لا تعففا، بل ليحفظ للقراء قصتهم… كما ينبغي أن تُروى.

جعلتني هذه الواقعة “الطريفة” أدخل في حلم من أحلام اليقظة، خير وسلام، وتساءلت ماذا لو كنت أنا من وُضع، سهوا أو عمدا، في مجموعة مماثلة؟
تخيلوا معي هذا المشهد:

صحافي مغربي –دعونا نقول إنه من الجيل الذي تمرّس على المشي فوق السكاكين– يفتح هاتفه على إشعار من “واتساب”، فيكتشف أنه أُدرج في مجموعة دردشة سرية، يتحدّث فيها وزراء ومستشارون ومسؤولون أمنيون عن عملية قادمة ستنفذها الدولة خارج الحدود، معر تفاصيل تهديدات وأسماء مستهدفة وتحركات وأوامر عليا.

ما العمل؟
هل أنسحب بصمت، كأن شيئا لم يكن؟
هل أضغط على زر “مغادرة المجموعة”، ثم أفتح المذياع لأستمع إلى نشرة الأخبار الرسمية،
علّها تُخبرني بما يُطبخ في الظلام؟
أم أبلغ النيابة العامة؟ لكن بأية صفة؟ وهل تُصدّق أن أحدا سيأخذ بلاغي على محمل الجد؟

هل أحتفظ بالقصة لنفسي؟ أجعلها حكاية تُروى في جلسات الأصدقاء: “تصوّروا أنهم دخّلوني بالغلط فمجموعة كتخطط لشي حاجة كبيرة…”

أم أكتب؟ وأنقل للناس ما رأيت وسمعت، بتجرد ومسؤولية، لا بحثا عن سبق، بل عن بداية وعي ومساءلة؟

دعونا نقول إني اخترت الطريق الأصعب، الطريق الذي لا رجعة فيه: النشر.

نشرت بمهنية ودقة ودون مبالغات ولا عناوين مثيرة أو “تسريبات حصرية” أو “خطير.. أنقر لتعرف”… فقط وقائع، كما وصلتني، كما يجب أن تُعرض على المواطن.
ماذا ستكون النتيجة؟

سُرعان ما ستخرج جحافل “الفهايمية”، أولئك الذين لا يفوّتون فرصة للركوب على الموجة، “فيسبوكيا” و”يوتوبيا” أولا، ثم تلفزيونيا، ثم صحفيا:

“واش كاين شي صحافي محترم كيخون الوطن ويفشي أسرار الدولة؟ راه هادشي تجاوز للخطوط الحمراء!”
“خاصو يتربى! خاص المهنة تتبرّا منو، وخاص البرلمان يتحرك!”
“البلاد فمرحلة دقيقة، وهو كيجي يشعل العافية؟ هاد الشي ماشي وقتو!”
“بغا يدير البوز على حساب الأمن القومي!”
“أكيد عندو علاقة بالخارج، شي جهة كتسيفط ليه!”

أما “كتيبة المحللين تحت الطلب”، فستظهر في جلسات البودكاست وعلى القنوات الرسمية والخاصة، متوشحة بالبدلات وربطات العنق الوطنية، تلوك العبارات التي تُقال عند كل طارئ:

“هذا خائن تصرّف بعدم مسؤولية، وكان عليه التواصل مع السلطات بدل نشر الموضوع!”
“الأمن القومي خط أحمر في جميع الدول، وحرية التعبير لا تعني الفوضى!”
“من سرّب له المعلومات؟ هذا هو السؤال الحقيقي!”
“البلاد في حالة تعبئة، ومثل هذه التصرفات تُضعف الجبهة الداخلية!”

وفي صحف اليوم الموالي، سنقرأ افتتاحيات صارمة:
“النيابة العامة مطالبة بالتحرك!”
“لا بد من فتح تحقيق في هذه التسريبات!”
“لا يمكن القبول بوجود صحافة فوق المصلحة الوطنية!”

وسرعان ما سيتحول النقاش من مضمون ما كُشف عنه، إلى نية من كشفه.

وهل من حق المواطن أن يعرف؟ لا أحد يطرح هذا السؤال.

هل من مسؤولية الصحافي أن يضيء الزوايا المعتمة؟ لا يهم.

المهم هو “من سرب؟” و”من وراء الصحافي؟ و”من دفع له؟” و”ما الغاية؟”

أما السؤال الأخطر: “لماذا وصلت المعلومة أصلا إلى صحافي؟ وما طبيعة النظام المعلوماتي الذي يسمح بتسرب أمر بهذه الحساسية؟” فهو سؤال مؤجَل… إلى أن تهدأ العاصفة، أو يتم تقديم كبش فداء سيتحمّل العقاب بابتسامة بلهاء وهو يردّد: غير مسحوها فيا.

في النهاية، قد ينتهي الأمر بتحويلي أنا –لا الفضيحة– إلى موضوع الساعة. فتُنسى الخطط، وتُدفن الوقائع، ويُدفن معها حق الناس في الفهم والمعرفة، وفي المشاركة في النقاش.

أما الفرق بين هنا وهناك، فيبقى كما هو:

في أمريكا، الصحافي نشر، والمسؤول اعتذر، والإدارة فتحت تحقيقا… لكن ليس مع الصحافي.

في المغرب، لو وقع هذا السيناريو، سنفتح تحقيقا مع الصحافي، وسنغلق النقاش، وسنعتبر “الواجب الوطني” أعلى من “حق المواطن في المعلومة”.

ذكّرتني هذه الواقعة بجواب تلقيته أنا ومجموعة من الصحافيين العرب عندما كنا قبل بضع سنوات في جولة للاطلاع والتكوين في مجال التنظيم الذاتي للصحافة في كل من الدانمارك والسويد.

كنا، كما هو طبعيي فينا، نحمل هواجسنا وتعقيدات سياقنا معنا في كل لقاءاتنا. وحدث مرة أن ضيّقنا الخناق على ناشر دانماركي لم يقبل نهائيا كل الحجج والأمثلة التي قدّمناها له ليعترف باحتمال قيامه بالرقابة الذاتية، وكانت حينها الحرب الروسية على أوكرانيا قد انطلقت للتو، فقال لنا ما يلي:

تعرفون حساسية وخطورة الحرب الجارية الآن في أوكرانيا؟ فلو أنني حصلت على لائحة جواسيس المخابرات الدانماركية في روسيا، وأدليت الآن بتصريح أقول فيه إنني سأتوجه غدا إلى برنامج تلفزيوني تبثه القناة العمومية، وسأعلن عن الأسماء الموجودة في اللائحة… لا توجد أية قوة يمكنها أن تمنعني من ذلك… قد أتعرض للمساءلة لاحقا، لكن لا شيء يمكنه أن يمنعني بشكل مسبق من التعبير عما أريد.

هكذا، تتجلى الفروق الحقيقية بين دول تعتبر الصحافة رافعة للمحاسبة، وأخرى تراها مجرد مكبّر صوت يُشغّل فقط حين تريد السلطة أن تسمع صدى صوتها.

خير وسلام!


يونس مسكين | كاتب صحفي مغربي
اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.