رباعيات الملكية واختبار القدرة على التجديد

د. علاء الدين بنهادي

تناولت بالرصد والتحليل والاقتراح في سلسلة من ثلاث مقالات، الأول، الملكية ومخاض ولادة جديدة، والثاني، الملكية وخيار الممر الثالث الآمن، والثالث، الملكية والأحزاب والتعاقد الجديد، تناولت وضع النظام السياسي وقطبه المركزي، الملكية، وهياكلها المحورية التي تبسط بها حكمها وتدبر بها شؤون الدولة، “المخزن” و”المخزن العميق”، والطبقة الأوليجارشية على رأس المال والسلطة، التنفيذية والتشريعية والقضائية، والنيابة العامة، والإعلام والأحزاب والهيئات الوسيطة، وتمددها داخليا وخارجيا، سياسيا واقتصاديا وأمنيا وعسكريا واجتماعيا ودينيا، وقمنا بذلك إدراكا منا بأن الملكية، كأي ضابط إيقاع في نظام سياسي معقد، تمر باستحقاقات كثيرة وتواجه أزمات متفاوتة في درجات خطورتها على الصعيدين الداخلي والخارجي، خاصة ملف أقاليمنا الجنوبية ومخطط التقسيم الخطير، بل أيضا، وهذا لم يحصل منذ فترة، على صعيد بنيتها الخاصة ونواتها الصلبة، ووقفنا عند مفاصل هذه الأزمات وأطرافها في محيط الملكية القريب وفي علاقاتها مع حلفائها في مختلف المواقع والمصالح، وشرحنا أسبابها في قراءة أمينة وصادقة لتاريخنا السياسي المعاصر وبدون مزايدة أو ابتزاز أو تزلف، لعل الجالسين حول العرش، ومن باب الأمانة والثقة والمسؤولية التي وضعها فيهم الجالس على العرش، أن يلتقطوا الإشارات من هنا أو هناك، ويتحرروا من صراعاتهم البينية ومن الباراديجمات القديمة، ويتخذوا موقفا وقرارا حاسما ونهائيا تجاه النخب المعطلة لتطوير النظام السياسي ولحياتنا السياسية ونظامنا الاجتماعي وللسير الطبيعي والراشد للمؤسسات الدستورية، نخب قديمة أوصلت البلاد لما نحن عليه اليوم من أزمات متعددة ومتنوعة ومهددة للسلم الاجتماعي ولاستقرار الدولة، والمتمثلة اليوم في حكومة الأمر الواقع بقيادة طبقة المال والأعمال من جهة، وفي أحزاب حولت المؤسسات الحزبية إلى أصل تجاري لتحقيق مكاسب وامتيازات من جهة أخرى.

إن الأزمة أكبر من “مأسسة المخزن العميق”، كما يظن البعض، أو حل أو إعادة تأهيل الأحزاب الإدارية المنفلتة من عقالها والمتمردة عن صاحبها كما أشرت إلى ذلك في مقالات سابقة، وأكبر أيضا من إخراج مؤسسة دستورية إلى الوجود، “المجلس الأعلى للأمن القومي”، كما أن حاجة الملكية لتأمين ممر آمن للانتقال من عهد لعهد ليست في المزيد من الأمن، لأن كل شيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، وهي ظاهرة اجتماعية وإنسانية تتعلق بتضخم السلطة، وإنما إلى إجراء لتطوير بنية الملكية وإعادة تحديد مهامها الدستورية والسياسية الجديدة وفق التغيرات الجوهرية، ولعلاقاتها بباقي مؤسسات الدولة المنتخبة، ولدورها في استتباب الاستقرار وتخفيض حالة الصراع والتوتر بين مختلف الأجهزة والمؤسسات في الدولة، والمساهمة في جعل الصراع بين الأحزاب صراع برامج سياسية لا صراع أشخاص ومصالح أنانية، والتي، للأسف، تختبأ وراء الملك بمناسبة وبغير مناسبة، تزلفا أو تسترا وراءه أو طلبا للتقرب من رجالاته ودوائره وأجهزته، كما شاهدنا يوم الجمعة 11 أكتوبر 2024، عند افتتاح الدورة البرلمانية الخريفية عقب الخطاب الملكي حول القضية الوطنية والدعوة إلى تفعيل أجهزة ولجان الدبلوماسية البرلمانية لدعم أطروحة المغرب لدى جميع الأطراف الإقليمية والدولية.

إن من الأخطاء التي ساهمت في حالة المراوحة وتكرار نفس السياسات والمناورات والحلفاء منذ الاستقلال، هو أن الملكية لم تجرب بعد أن تفكر وتتحرك خارج الصندوق

إن الدعوة إلى “مأسسة المخزن العميق” جاءت بعد عجز الأحزاب، خاصة الإدارية التي تقود حكومة المال والأعمال، عن القيام بمهامها الدستورية والسياسية، وعن مواكبة التطورات التي يتطلبها الوضع السياسي الحرج ببلادنا للخروج من الأزمات المتتالية، بما في ذلك تطور النظام السياسي كإجراء ضروري للعبور نحو مرحلة آمنة، إلا أن هذه الدعوة تخفي أمرا في غاية الخطورة، ربما لا يدركها من يطرحها، وهي تحويل “المخزن العميق” إلى قوة سياسية جديدة أو بديلة عن الأحزاب الإدارية الفاشلة، لتواكب عن قرب أو تشرف على عملية انتقال الحكم من عهد لعهد في غياب تام للأحزاب التي لعبت دورا مهما عند انتقال الملك من الراحلين السلطان محمد الخامس إلى الملك الحسن الثاني عام 1961، وانتقال الملك من الحسن الثاني إلى ولي عهده الملك محمد السادس في ظل حكومة اليوسفي، 1998-2002، أحزاب تاريخية فقدت اليوم الشرعية الشعبية والمشروعية الديمقراطية أمام الأحزاب الإدارية التي تغولت وهي تدبر اليوم السياسات العمومية بفشل كبير، وتحتجز لديها مؤسسات دستورية، الحكومة والبرلمان والجهات والجماعات الترابية منذ الثامن من سبتمبر 2021، وتعاكس توجهات المؤسسة الملكية في مرحلة حساسة بالنسبة إليها وهي تواجه أجندة ثقيلة، انتقال الحكم وملف الصحراء والاحتقان الاجتماعي وتحركات أطماع خصوم المغرب الإقليميين والدوليين.

إن ما نراه ونقرأه هنا وهناك، على لسان أشخاص وجهات لا شك أنهم حريصون على مستقبل الملكية كعامل أساس لاستقرار الدولة وسلم المجتمع، وإن كانوا يفتقرون للطرح العلمي والفهم العميق للواقع المحلي والدولي ولأدوات التحليل السياسي المنهجي الموضوعي، ما نراه ونقرأه هو مجرد محاولة لإعادة تدوير النظام السياسي في قوالب مستعملة وعلى يد نفس الجهات والشخصيات التي أوصلت الجميع، مجتمعا ودولة وملكية، إلى الحال المزري سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وحزبيا، والمتأزم على مستوى جميع المؤسسات الدستورية، حكومة وبرلمانا ومؤسسات جهوية وإقليمية ومحلية وهيئات وسيطة.

إن من الأخطاء التي ساهمت في حالة المراوحة وتكرار نفس السياسات والمناورات والحلفاء منذ الاستقلال، هو أن الملكية لم تجرب بعد أن تفكر وتتحرك خارج الصندوق، أي خارج هياكلها والكيانات الحزبية التي ترتبط بها بطريقة أو أخرى، خلقا أو أمرا، في سياقات تاريخية من الصراع بينها وبين خصومها السياسيين، وأن تتعامل مع نخب جديدة خارج قواعد اللعبة الحزبية، لأن السياق اليوم والتحولات الجيوسياسية الدولية والإقليمية قلبت كل شيء، بحيث أصبحت العوامل الخارجية محددا أساسا وعاملا مؤثرا في مجريات الأحداث المحلية، بل قد توجهها نحو وجهة لا يرغب فيها النظام السياسي، وليس له فيها مصلحة استراتيجية، أي أن ما يجري إقليميا ودوليا هو ما يفرض أجندته على الأنظمة السياسية أكثر من العوامل المحلية والفاعلين المحليين، إن وجدوا أصلا، خاصة التقليديين العاملين داخل الأطر الحزبية التقليدية.

هناك سؤال لفهم سبب استمرار الملكية في التعامل مع نفس الأحزاب منذ عقود، أحزاب أصبحت خلال ربع قرن الماضي، فترة حكم الملك محمد السادس، هي مادة خطبه انتقادا وتقريعا وتشكيكا في جدواها وفي حسها الوطني ووعيها السياسي ورغبتها في خدمة المواطن وقضايا البلاد القومية، وعلى رأسها قضية الصحراء المغربية، كما جاء في خطاب افتتاح الدورة الخريفية للبرلمان الأخيرة، هذا السؤال هو: ما هي أهمية هذه الأحزاب، إدارية و”وطنية” في المشهد السياسي بعد الحالة التي وصلت إليها من تحلل وانسحاب من مسؤولياتها الدستورية والسياسية؟ كيف يمكن تفسير تكرار الخطاب الملكي، وفي كل مناسبة، نفس اللازمة تجاه الأحزاب فيما هذه الأخيرة لا تعبأ بذلك ولا تتجاوز ردودها تعبيرات الفرجة والبهرجة في ردهات وأروقة البرلمان عقب كل خطاب ملكي، بل إن عددا من البرلمانيين، سواء من حضر أو من جمدت عضويته، يخضعون خلال إلقاء الخطاب الملكي للمساءلة القضائية وتحقيقات النيابة العام والفرقة الوطنية للشرطة القضائية بشأن تهم جنائية خطيرة تطال ذمتهم المالية والأخلاقية؟ هل تنزيل المجلس الأعلى للأمن القومي سينهي هذه الفوضى وهذا الفساد الذي عجزت المؤسسة الملكية حتى الآن أن تضع لها حدا بإعمال القضاء وتنزيل سلطات الجالس على العرش وصلاحياته الدستورية أم أن هناك هدفا آخر وراء هذه الدعوة الملتبسة؟

إن القضايا الكبرى يجب أن يتباحث بشأنها رجال على استعداد لتحمل المسؤولية الوطنية، من جانب الملكية أو من يمثلها رسميا ومن جانب هذه النخبة الوطنية الجديدة، وقد يقول قائل بأي صفة ستكون هذه النخبة الجديدة شريكة في هذا العمل السياسي الوطني، وماذا تمثل؟ والجواب هو أنها تمثل ما بقي من الضمير الوطني الحي كفاءة وقيمة ونزاهة وصدقا ووفاء لهذا البلد، وثانيا لأن الملكية جربت الجميع، أحزابا تاريخية خرجت من رحم الحركة الوطنية، وأحزابا إدارية صنعت لمواجهة هذه الأحزاب التاريخية في ظروف عصيبة من الصراع بينها وبين الملكية، ظروف لم تعد موجودة اليوم، ولم يعد هناك أيضا ما يبرر بقاء هذه الأحزاب الإدارية، فإما تحل بقرار من الجهة التي أمرت بإنشائها أو تفك ارتباطها بها وتتركها تواجه مصيرها بدون دعم مالي أو سياسي أو غيره، أو يعاد تأهيلها مجتمعة تحت قيادة جديدة واحدة وفق برنامج سياسي وطني يروم خدمة الوطن والشعب ولا يتستر وراء الملكية من غير مناسبة أو عند كل فشل.

إن الأزمة أكبر من “مأسسة المخزن العميق”، كما يظن البعض، أو حل أو إعادة تأهيل الأحزاب الإدارية المنفلتة من عقالها والمتمردة عن صاحبها، وأكبر أيضا من إخراج مؤسسة دستورية إلى الوجود

إن على الملكية أن تعيد النظر في سياساتها ومقاربتها الكلاسيكية، وتعيد ترتيب حقلها وبنيتها وهياكلها وسلم أولوياتها استعدادا لانتقال الحكم في هذه المرحلة الدقيقة والمعقدة، وذلك تجاه رباعيات تتعلق بملفات وقضايا حيوية مرتبطة مصيريا ببعضها، تحتاج لقرار جريء ورؤية ثاقبة مستقبلية وتجرد عقلاني، وهي، أولا، الملكية نفسها، مكانتها ودورها بين السيادة والحكم، وثانيا، علاقتها مع المخزن، بكل هياكله وارتباطاته المرئية وغير المرئية، وثالثا، علاقتها بالأحزاب، إدارية أو تاريخية على حد سواء، لأنه لم يعد هناك فرق بينها رغم اختلاف الأصول والمسار والمصير، ورابعا وأخيرا، علاقتها بالنخبة الوطنية الجديدة من خارج الأطر الحزبية والحقل السياسي المهيكل.

وتعتبر الملكية في المغرب بحكم الواقع، وعلى مدى قرون، منذ الأدارسة حتى العلويين، هي القوة التي إما توحد المغرب والمغاربة وتأخذهم، دولة ومجتمعا، إلى المجد والتمكين والازدهار والعيش الكريم من جهة، وإما، بسبب عوامل ذاتية وموضوعية، إلى الفوضى والثورات والانفلات والفرقة والاحتلال من جهة أخرى، وهذا ما وقع، في عصر القوة والازدهار، مع السلطان محمد الثالث ونجله السلطان سليمان، حيث مثلا عصرا مزدهرا سياسيا واقتصاديا وعسكريا واجتماعيا وعلميا، وجعلا الإمبراطورية المغربية مهابة عالميا وإقليميا تتودد إليها الدول والأمم من أمريكا، حديثة الاستقلال في عهد الرئيس المؤسس جورج واشنطن، والاعتراف بها من قبل السلطان محمد الثالث بن عبد الله عام 1777، إلى دفاع السلطان سليمان عن الخلافة العثمانية ورفض إقامة علاقات دبلوماسية مع روسيا بسبب سياساتها العدوانية ضد الخلافة، ومطالبته نابوليون بونابارت بمغادرة مصر عقب حملته الاستعمارية، وإغراقه للسفن البحرية الأمريكية عام 1802 أمام سواحل ليبيا وتونس لعدم احترام الاتفاقيات الثنائية وممارسة العدوان على أرض مسلمة في بحر المتوسط الذي كان يعتبر العمق الاستراتيجي والمجال الحيوي للإمبراطورية المغربية، أما مع عصر الضعف والتقهقر، غداة الوفاة المفاجئة للسلطان الحسن الأول، 58 سنة، وتنازع أبنائه حول العرش ودور الحاجب السلطاني أحمد بن موسى الشرقي البخاري، الملقب بـ “باحماد”، في جعل السلطنة في أقرب أبناء السلطان إليه، عبد العزيز، 16 سنة، وأيضا بعد وفاة السلطان يوسف، 45 سنة، واندلاع الصراع عن الحكم بين أبنائه، ودور الصدر الأعظم محمد المقري، رجل فرنسا، والمقيم العام الفرنسي ثيودور ستيج، خليفة المارشال ليوطي، في تنصيب الأمير محمد الخامس سلطانا، 18 سنة، بدلا من أخيه الأكبر الأمير إدريس، وما تلى ذلك من ثورات وفوضى عمت المغرب شمالا وشمال شرق وجنوبا وفي جبال الأطلس، أوضاع عصيبة ومضطربة استفاد منها الاستعمار وأعوانه المحليين، من البورجوازية الحضرية والإقطاعيين والقواد والباشوات والشيوخ والزوايا، لينتهي الأمر، عند انتشار الفوضى والفرقة والضعف، باحتلال المغرب عام 1912 من قبل القوتين الاستعماريتين الفرنسية والإسبانية.

فالملكية بقدر ما قد تكون عنصر استقرار وقوة وإجماع، عندما تباشر السلطة، وفي مركزها، وتتحالف مع العلماء والوطنيين، بقدر ما قد تكون عنصر اضطراب وفرقة وضعف، ليس في ذاتها، بالضرورة، وإنما لما قد يلحق بها من أفعال صادرة عن هياكلها وتوابعها السياسيين وغير السياسيين، وأيضا حين تسود ولا تحكم، كما وقع في بعض الظروف التاريخية والسياسية نظرا للفراغ الذي قد يوجد في بعض المستويات داخل مؤسسات الدولة، مما يغري بعض هياكلها ومراكز النفوذ العميقة بالتصرف نيابة عنها وباسمها، إلا أن السعي من أجل الحفاظ على النفوذ والامتيازات، كما هو شأن بعض هياكل الملكية، يختلف عن سعي الجالس على العرش للحفاظ على عرشه كمركز قيادة للدولة وضمان استقرارها وسلمها الاجتماعي. إن مسألة السيادة والحكم بالنسبة للملكية معادلة معقدة تحتاج لشرح وتحليل مستقل عن هذه المقالة لبيان منزلقاتها ومخاطرها إذا كانت سيادة فقط بدون ضمانات دستورية تنظم العلاقة بين الملكية وباقي القوى الوطنية الحاكمة، أو إذا كانت حكما بلا سيادة في حالة المساس الذي قد يصيب القرار السياسي وإقليم الدولة من قبل قوى أجنبية طامعة، أو إذا كانت سيادة وحكما مما قد يشكل انحرافا خطيرا نحو الاستبداد الذي، لا محالة، سيؤدي إلى التمرد عليها وتهديد وجودها. إنه لا عيب في المًلك أن يعيد الجالس على العرش النظر في كيفية تدبيره للأمور واختياره للرجال والحلفاء والسياسات، والتراجع عن بعض القرارات التي لم تعد صالحة ومجدية لاختلاف السياقات والأحوال، وعن بعض السياسات التي لم تحقق النتائج المرجوة، ولا عيب أيضا في أن يتخذ موقفا صارما وقطعيا بشأن أناس أو جهات أو أحزاب وثق فيهم وخيبوا ظنه، وجروا على الملكية نفسها، وعلى البلاد، صراعات وأزمات بلا نهاية قد تأتي على كل الإنجازات والجهود التي تحققت خلال عقود أو في طريق التحقق بسبب جشعهم وضياع الأمانة وأنانيتهم.

سئل الملك الراحل الحسن الثاني مرة، قبل وفاته بقليل، في حوار مع أحد المنابر الصحفية الفرنسية، عن الخطأ الذي كان يخشى ارتكابه خلال فترة حكمه، وما هو الأمر الذي لو عاد به الزمان للوراء لاتخذ فيه قرارا مختلفا عن الذي اتخذه أول مرة، فكان جوابه على السؤال الأول، أنه كان يخشى أن يعود لارتكاب الخطأ مرة أخرى، لأنه، للأسف أضاف، يثق بسهولة، أما السؤال الثاني، فقال لمحدثه، إن هناك أناسا قربهم منه دون أن يخضعهم للاختبار. لذلك، لوحظ أنه في أيامه الأخيرة اتخذ قرارات وسياسية أو تركها وصية لوارث سره ليتخذها أول ما يبايع، وهي مراجعة غير مباشرة لبعض المواقف والقرارات السابقة مع تغير الظروف والسياقات ورغبته في تصفير الأزمات لمن سيخلفه، ومراجعة نظرته وتقييمه لبعض رجالاته ولبعض الجهات في الدولة، وكان ذلك عشية رحيله، حتى لا يترك لوريثه تركة لم يصنعها بيده، كان من بينها، على سبيل المثال لا الحصر، حكومة الاتحادي عبد الرحمن اليوسفي وعودة أبراهام السرفاتي للمغرب، ورفع الإقامة الجبرية عن مرشد جماعة العدل والإحسان، وهيئة الإنصاف والمصالحة، وعزل وزير الداخلية إدريس البصري، وإطلاق اسم المهدي بن بركة على أحد شوارع العاصمة وإنهاء مأساة سجن تزمامارت السري وإنهاء محنة عائلة الجنرال أوفقير.

وردا على من يحاول تسويق حلول شكلية وإجرائية لمعالجة أزمات المغرب البنيوية والمستعصية، دولة وملكية ومجتمعا، نقول إنه لن ينفع إعادة استنساخ نفس السياسات السابقة والاعتماد على كل رجال المرحلة المنتهية بأمر الواقع المتغير بسرعة وعمق لقيادة مرحلة جديدة، ذلك لأنه دائما خلال مرحلة تأسيس الدول والأمم، محليا ودوليا، أو الانتقال من عهد إلى عهد، لابد من تجديد السياسات والنخب والرؤى والخرائط، وتكييف بنية الحكم وطرق عمله وهياكله مع المستجدات والمتغيرات داخل المجتمع وعلى الصعيد الدولي، وقد كانت هناك إشارات قوية وواضحة بهذا الشأن منذ اندلاع ثورات الربيع العربي عام2011، وما تلاها من اضطرابات وفوضى وحروب أهلية شملت العديد من البلاد العربية، وكادت أن تهز أركان النظام السياسي والدولة المغربية والمجتمع، ولم تتخذ خطوات سياسية جدية لاستدراك الوضع، وللأسف، أعيد تدوير نفس السياسات ونفس الأطر الحزبية ونفس الطبقة السياسية والاجتماعية، ظنا من النخبة الحاكمة بأن قوس الربيع العربي والإسلاميين قد أغلق، حتى وصلنا للثامن من سبتمبر الأسود 2021، فدخل الجميع، دولة وملكية ومجتمعا، بسبب سياسات حكومة الأمر الواقع، نفقا مظلما بلا أفق جديد، ولا جدول عمل واقعي أو خريطة طريق واضحة ومسؤولة، ولا ممر آمن للعبور نحو مستقبل أفضل، ففرت هذه الأحزاب والحكومة والبرلمان والنخب القديمة المتأزمة من مسؤولياتها السياسية الوطنية تختبأ وراء الملكية، بل وتركتها وحدها في وجه العواصف والكوارث التي تسببت فيها سياسيا وأخلاقيا واقتصاديا واجتماعيا ودبلوماسيا، فهل ستتعامل الملكية، هذه المرة، مع هذا الوضع الخطير ومع من تسبب فيه، وتتحرك من خارج الصندوق، بما يتطلب ذلك من حزم ومسؤولية وتصميم ونكران الذات، كما فعل السلطان محمد الثالث ونجله السلطان سليمان من قبل، أم ستستسلم لمكرهم وجشعهم ومناوراتهم، كما وقع مع السلاطين الحسن الأول وعبد العزيز وعبد الحفيظ ويوسف؟


د. علاء الدين بنهادي | دبلوماسي سابق، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية.
اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل