كاينابريس – أحمد الشيخ(*)
العالم ينتظر مآل التهديد الإيراني المعلن بضرب إسرائيل، ردًا على قيامها باغتيال إسماعيل هنية، وهو في طهران بدعوة رسمية. هل ستفي إيران بالتهديد فعلًا أم ستكتفي به قولًا، كما عوّدنا جيرانها العرب لعقود طويلة، بانتظار الوقت المناسب والتوازن الإستراتيجي المنشود؟
وبصرف النظر عما سيحدث، إذ إن الجزم بإجابة قد يوقعنا في تكهّن غير محمود، فإن من الواضح أن هناك أمنيتَين أو رهانَين في العالم العربي، وربما الإسلامي، يتمنى أصحابهما أن تفوز فيهما خيولهما. فئة تتمنى وتقول إن إيران لن ترد هذه المرّة، وفئة تؤكد وتقول إن الرد آتٍ لا محالة.
أما أصحاب الأمنية الأولى فيُصَلُّون من أجل أن تخنع إيران، فتنكص على أعقابها ولا ترد، وذلك ابتغاء أمرين يريدونهما، أولًا حتى يقولوا للناس: أرأيتم صدق ما نقوله لكم منذ دهور، إيران وإسرائيل تعملان على خطّ واحد، وهو محاصرة العالم العربي، وإحباط كل جهد للنهوض فيه. وعلى هذا القول يترتّب الأمر الثاني، وهو أن هؤلاء يريدون أن يقولوا للناس في بلاد العرب قاطبة، غنيهم وفقيرهم، باديتهم وحواضرهم، شرقهم وغربهم: فليتحمل من قصدوا أبواب إيران عواقب أفعالهم، هم جَنَوْا على أنفسهم، فنحن، إذن، بُرآء من كل واجب تمليه كل الاعتبارات الدينية والتاريخية وأواصر العقيدة والقربى، إسماعيل هنية (رحمه الله) قصد إيران فلقي ما لقي!
وهم يريدون كذلك أن يذروا الرماد في عيون الشعوب التي، في معظمها، تدرك يقينًا أن من قصدوا إيران أُغلقت أبواب العواصم العربية في وجوههم، ولوحقوا وسجنوا بتهم مختلقة، وبعضهم ما زالوا خلف القضبان.
أما أصحاب القناعة الثانية، بأن إيران ستردّ لا محالة، فتتنوع مشاربهم إذ يغترف بعضهم من مشارب مذهبية، وبعضهم يصلّي أيضًا من أجل الرد؛ لأنه يؤمن بالمقاومة، أيًا كانت صبغتها، نهجًا وسبيلًا للتحرير والتحرر، ، وكلاهما مع هذا النهج المقاوم، وإن اختلفت المقاصد النهائية، ولا ضير.
لكنَّ وراء تسويغات أصحاب الأمنية الأولى مراميَ أخرى تبطنها نفوسهم. فهؤلاء يرون أن النكوص الإيراني الذي يتمنون، يوفر لهم ذريعة شعبية للتنصل من أي مسؤولية دينية أو أخلاقية أو إنسانية، تجاه آلام أهل غزة، وأهوال الإبادة التي تقترفها إسرائيل، ومن يدعمونها في فلسطين عمومًا، وكأن إيران أقرب منهم لفلسطين في الدم، والعِرق، والجغرافيا، والتاريخ. وهم كذلك يلجؤون للتاريخ فيستحضرون منه قصصًا وحكايات، معظمها غير موثق، ليؤكدوا لنا أن من قتلوا الحسين بن علي، رضي الله عنهما، هم أنفسهم من استضافوا “أبا العبد” فاغتيل على أرضهم.
وهم كذلك يتمنون ألا ترد إيران، لتكون معهم في صفوف المهزومين في الحرب الفاشلين في السلام، القابلين بالذل والإذلال، بعد أن هانت عليهم كرامتهم وعزة نفوسهم، وهم يكشفون خانعين، منذ قرنين من الزمان، ظهورهم لسياط المستعمر الأبيض، ويقدمون صاغرين لربيبته إسرائيل، منذ 76 عامًا، فروضَ الحراسة والطاعة والاستجداء.
فإيران المحاصرة من الغرب، وهو ما ينفيه هؤلاء، استطاعت أن تتحول إلى قوة إقليمية تستطيع تعديل الموازين، وقلب الحسابات، وربما فرض معادلات جديدة بالقوة الناعمة، وبالقوة الخشنة سواء بسواء. ونحن لا نقول هذا إطراء لإيران، ولا مدحًا، ولا توافقًا مع سياساتها أو انحيازاتها المذهبية، وما ترتب عليها من وقائع وتطورات ودماء في بلدان عربية عدة.
بل إن بعضهم يتمنّون ألا ترد إيران حتى لا يتشتت جهد إسرائيل وجيشها، فلا يستطيع أن يقضي على حماس والمقاومة، كما يتمنون ويريدون. وهم كذلك يريدون ألا يتصاعد الموقف إلى حرب إقليمية، يتولد عنها واقع جديد، يفرض معادلات تقلب كل الحسابات والرؤى، التي وعدت بها الشعوب.
لكن هؤلاء يتناسون، وهم يدسّون رؤوسهم في الرمال، أن نكوص إيران الذي يتمنوْن، أخطر على مستقبل المنطقة بأسرها من الرد؛ لأنه يعني انتصار إسرائيل ولو في المدى المنظور. فبعد كل ما وقع من اغتيالات للعلماء والقادة العسكريين داخل أراضي إيران وخارجها، فإن إسرائيل قد تشعر أن يدها الطويلة تستطيع أن تطال كل مرة مستويات إيرانية وعربية أعلى وأعلى، ولا تخشى أو تخاف من العواقب.
وهؤلاء يتناسون أن إسرائيل المنتصرة الهائجة لا ترحم فرائسها، سواء منها من يتلوون تحت أنيابها من أهل فلسطين، الذين يقاومون منذ مئة عام أو يزيد، أو من هم في غابتها الإقليمية ينتظرون، وقد خارت عزائمهم، الدورَ كي يؤكلوا من دون مقاومة، ولو بأضعف الإيمان. وإن كانوا يعتقدون أن أميركا ستحمي الضعفاء فعليهم أن يراجعوا التاريخَ قديمَه وحديثَه، فأميركا، شأنها شأن كل الإمبراطوريات الجبارة بالقوة الغاشمة، لا ترحم الضعفاء، ومن يريد منها أن تبقيه على قيد الحياة، ولا أقول ترحمه، عليه أن يستكين ويستكين حتى يبلغ منزلة من يعيش في الطين، وهل يحيى في الطين إلا أدنى درجات الخَلق؟
هؤلاء يتناسون أن الغرب هو الذي أوجد إسرائيل؛ كي تكون قاعدة دائمة، تؤمن له مصالحه وسيطرته على الشرق الأوسط برمته، انطلاقًا من ميراثه المسيحي الإنجيلي، وانطلاقًا من فكره العلماني، الذي يرى العالم مجرد أراضٍ يجب أن تظل بمن عليها من بشر وخلق، وما فيها من موارد، سخرة له، حتى يستمر رفاهه المادي الاستهلاكي بلا حدود. ومن يحاول من أصحاب تلك الأراضي أن يُغيِّر أو يثور سيواجه بالعصا الغليظة حتى يستكين من جديد، اللهم إلا من كانت كرامته واستقلاله أغلى من كل الدنيا، ومن لا يدرك هذا فليسأل أفغانستان مقبرة الإمبراطوريات، وفيتنام التي هزمت فرنسا وأميركا، والجزائر التي قدمت ملايين الشهداء وهزمت فرنسا.
لكن حين يستوي الذل مع الكرامة طلبًا لحياة، ولو تحت السياط، لا يهم من يكون السيد الآمر.
وهؤلاء الذين يتمنون ألا ترد إيران يتحدثون عن احتمال أن تلجأ إسرائيل للسلاح النووي، ردًا على أي هجوم إيراني. ولو أحسنوا حساباتهم ووزن معادلاتهم، لوجدوا أن لجوء إسرائيل لأسلحة التدمير الشامل ضد بلد كبير في الإقليم، سيجلب الدمار على المنطقة كلها من البحر المتوسط إلى بحر العرب، وأنها لن تلجأ للتهديد بذلك إلا حين تشعر أن وجودها أصبح مهددًا.
وحين تصل الأمور هذا الحد سيحشد الغرب، كما يفعل اليوم، خيله وخيلاءه وأساطيله وجنده. لكن هل يسمح لإسرائيل أن نستعمل السلاح النووي؟ أم إن إسرائيل لا تأبه لمن أقاموها وتفعل ما تريد؟ فلماذا، إذن، لم يدركْ تلك المخاطر أولئك الذين يحذرون من مخاطر الخيار النووي الإسرائيلي، في المآلات النهائية، فيعدوا العدة المكافِئة التي تجعل الغرب يفكر ألف مرة، قبل أن يؤول الوضع لهذا الخيار.
هم يحذرون أيضًا من مخاطر الخيار النووي الإيراني، ويتوعّدون بخيار مثله، إن حازته إيران، فلو صنعناه نحن العرب ردًا على وجوده لدى إسرائيل، منذ أن حازته بمعونة غربية في العقد الأول من عمرها، لما كنا الآن أمام مأزق تاريخي، لا يجد بعضنا مخرجًا منه، إلا المزيد من الاستكانة والخضوع.
ليس اللجوء للسلاح النووي من قبل إسرائيل خيارًا سهلًا لها نفسها، وللغرب الذي يبقيها على قيد الحياة، أيها السادة. فيوم استعملته أميركا لتجبر اليابان على الاستسلام في الحرب الثانية، كان بيد أميركا وحدها.
(*) إعلامي وكاتب فلسطيني، رئيس تحرير قناة الجزيرة سابقا.