«آه يا سوريا الحبيبة الطعنة غائرة في قلب العروبة لكن العروبة لن تموت». «مكتوب على جيلنا أن يعيش كل أنواع الهزائم والانكسارات حتى آخر العمر. سقطت دمشق كما سقطت بالأمس بغداد وطرابلس».
مجرّد نموذجين لا غير مما كتب من تعاليق بعد سقوط نظام بشار الأسد، وأصحابها في الغالب من القوميين أو اليساريين سواء من السياسيين أو المعلقين، أو أناس عاديين، ممّن ربطوا بين هذا الحدث التاريخي الكبير وبين الزعم أن ما حصل لن تستفيد منه سوى إسرائيل والولايات المتحدة والغرب عموما وحلفائه في المنطقة. هؤلاء أيضا لم يدّخروا جهدا في الإلحاح على أن من دخل العاصمة دمشق وأنهى حكم آل الأسد الذي امتد لأكثر من نصف قرن هم من المتطرفين دينيا الموصومين بالإرهاب مما لا يجوز معه، حسب رأيهم، الاحتفاء حقيقة بهذا الحدث التاريخي الكبير.
أغلب هؤلاء، ومن بينهم قيادات من التيار القومي في مصر وتونس، اللتين عرفتا لعقود حكما استبداديا لا يقاس بأي معيار بحكم آل الأسد، هم أنفسهم تقريبا الذين ما قام في العرب ديكتاتور حاكم، قديما أو حديثا، إلا وهلّلوا له.. وما سقط أحد منهم إلا بكوه بحرقة. إنها معضلة تحوّلت لدى هؤلاء إلى ما يشبه المرض المزمن الذي لا شفاء منه.
بكاء هؤلاء على الأسد وعهده، إن أردنا له وجاهة ما في الحد الأدنى، يفترض التسليم مسبقا بأنه كان هو وأبوه فعلا قلعة صمود ونضال ضد إسرائيل وهذا ليس صحيحا أبدا. يكفي هنا الاستشهاد بما يشهده الجولان المحتل من هدوء مثالي طوال هذه العقود مقابل تنكيل بالفلسطينيين وإشعال فتن وعمليات اغتيال في ساحات أخرى أولها لبنان.
هؤلاء الذين فضلوا اللطم في مهرجان فرح، ليسوا أصلا من أهل سوريا ولا عاشوا فيها ولا خبروا «رغد» العيش تحت حكم دموي طائفي، ومع ذلك استكثروا على أهل الشام بهجتهم وكان بودّهم، لولا بقية حياء، أن يقرّعوهم عليها، بعد أن فعلوها حقا ضد كل من أيّد الإطاحة بالطاغية من غير السوريين… هؤلاء بإمكانهم أن يتوجّهوا إلى قطاعات واسعة من الشعب السوري، المعني الأول والأخير بما جرى في بلادهم، لتقصّي الأمور فإن حصلوا على ما يرضيهم من إجابات فيمكن وقتها أن نعتذر منهم وننضم إليهم في ندب حظ السوريين والعرب بعد غياب الأسد ونظامه.
أغلب هؤلاء، ومن بينهم قيادات من التيار القومي في مصر وتونس، اللتين عرفتا لعقود حكما استبداديا لا يقاس بأي معيار بحكم آل الأسد، هم أنفسهم تقريبا الذين ما قام في العرب ديكتاتور حاكم، قديما أو حديثا، إلا وهلّلوا له.. وما سقط أحد منهم إلا بكوه بحرقة
إذا ذهب هؤلاء إلى أي سيدة سورية مكلومة، قتل زوجها أو ابنها سواء في عهد الأسد الأب أو الابن في مواجهات دموية قديمة أو حديثة بعد ثورة 2011، أو تحت ركام بيتها الذي دمّر بالبراميل المتفجّرة أو برصاص ميليشيات إيران وحزب الله، أو بعد إعدامهم ميدانيا وهم معصوبو الأعين ورميهم في حفرة… إذا ذهبوا إليها وأقنعوها بأن سقوط بشار خسارة لها وللبلد والعرب فسننسج على منوالها فورا.
إذا ذهب هؤلاء وأقنعوا أهالي ضحايا من قضوا بالأسلحة الكيميائية في الغوطة الشرقية بريف دمشق عام 2013، ومنهم أطفال ونساء… وأقنعوهم بذلك فسنقتنع.
إذا ذهب هؤلاء إلى من أطلق سراحهم هذه الأيام من الفروع الأمنية المختلفة، وأشهرها فرع فلسطين، أو السجون السورية المختلفة، وأكثرها وحشية سجن صيدنايا، الذي يضم طوابق عدة تحت الأرض بها مئات الأسرى ممن أمضوا عقودا بلا محاكمة، وذاقوا كل أصناف التعذيب الوحشي الذي يفوق الخيال.. وأقنعوهم بذلك فسنقتنع.
إذا ذهب هؤلاء إلى آلاف اللاجئين السوريين المعذبين في الأرض في لبنان أو من شرّدهم القمع وأذلّهم في أصقاع مختلفة من هذا العالم، بعد أن فقدوا أهلهم وكل ما يملكون، وبعضهم فقد حياته وأهله في قوارب الموت نحو أوروبا أو ظل منفيا رغم أنفه بسبب ملاحقات أمنية ظالمة… وأقنعوهم بذلك فسنقتنع.
إذا ذهب هؤلاء إلى بعض مكوّنات الشعب السوري ممّن تاجر نظام الأسد باسمهم كمدافع عن الأقليات وسألوهم عما لحق بهم بسبب هذا الادعاء، سواء كانوا من الأكراد أو من العلويين، وقد نالهم من الأذى ما لا يقل عما لحق بالأغلبية السنية بعد أن أغرق النظام البلاد في أحقاد طائفية ما كان لها أن تكون لولا التوظيف الأمني والسياسي المقيت… وأقنعوهم بذلك فسنقتنع.
آخرون كثر من ضحايا القمع، السوريين والعرب، لو ذهبوا إليهم وأقنعوهم… فسنقتنع.
لا شك أن التحديات والمخاوف المطروحة بعد رحيل الأسد كثيرة ومشروعة وعلينا أن نتابع بحذر وحرص كيف ستبنى سوريا الجديدة بعيدا عن الإقصاء والتطرف والفوضى والتكالب على الحكم، مع عدم إغفال حسابات أطراف أجنبية عدة تتربص بهذا البلد، وكيف ستتم الاستفادة من كل نكسات الربيع العربي التي عرفتها أكثر من دولة.. لكن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال أن نبكي رحيل طاغية بدأ المزيد من فظائع حكمه البشعة يخرج إلى العالم كل يوم مع مزيد كشف مدى الفساد الذي غرقت فيه حتى الأعناق عائلة الأسد وأزلامها.
لكل ما سبق، على هؤلاء الشبّيحة الجدد أن يساعدوا الشعب السوري بشيء واحد فقط: الصمت.