كاينابريس – يونس مسكين(*)
عبد الله أب فلسطيني يعيش في قطاع غزة المحاصر والمنكوب، يحاول حماية أبنائه وأسرته الصغيرة رغم ظروف الحرب والإبادة الممنهجة.
وهو يعيش تجربة اللجوء والفرار من النيران الإسرائيلية من مكان إلى آخر، طلب منه طفله الصغير ذات ليلة، تمكينه من قطعة بسكويت، فوعده بأن يأتيه بها في الصباح.
خرج عبد الله بالفعل صبيحة اليوم الموالي بحثا عن قطعة بسكويت، في ظروف تغلب عليها الندرة وغياب الطعام الطازج واضطرار غالبية السكان إلى العيش على المعلبات وما يصل من مساعدات غذائية… وبحث إلى أن عثر على بسكويت، فاشتراه وقفل عائدا إلى مكان استقرار الأسرة النازحة.
لكن عبد الله سوف لن يجد طفله، بل وجد جثته فقط، لأن صاروخا إسرائيليا زار بيت الأسرة وقتل الطفل والأم. لم يجد عبد الله إلا بقايا طفله الصغير، لكنه أصرّ على الوفاء له بالوعد، ودسّ قطعة البسكويت تحت الكفن الأبيض الصغير، وهو على أمل أن ترتسم تلك البسمة التي كان يتخيلها على محيا الشهيد الصغير.
هذه واحدة فقط من الحكايات والقصص التي رواها لنا مصوّر الحروب، الفلسطيني خالد بلال، ضمن فعاليات اللقاء الذي نظمه معهد الجزيرة للإعلام نهاية الأسبوع الماضي بمدينة إسطنبول التركية.
خالد بلال هو واحد من الشهود الذين يوثّقون جريمة الإبادة الجارية في غزة، والذين يمثّل كل منهم قصة ارتقاء بطولي في سلّم الصمود والتصدّي للجريمة الإسرائيلية- الدولية.
انتقل خالد بلال إلى قطاع غزة في اليوم الموالي لما يعرف بطوفان الأقصى، أي يوم 08 أكتوبر 2023، وقضى هناك داخل القطاع 200 يوم من التوثيق وتعقّب صواريخ القصف والقتل والتدمير.
هؤلاء المصوّرين أنفسهم يعيشون قصصا رهيبة تقشعّر الأبدان لسماعها، في الوقت الذي ترفض بعض المنظمات الدولية حتى إضافة أسماء من يقتلون منهم إلى قوائم الصحافيين الذين استهدفهم جيش الاحتلال بشكل مقصود وممنهج.
أن تحمل كاميرا تصوير وترتدي درعا أزرق اللون يحمل شارة “الصحافة” أو “التلفزيون”، يعني أنك تتحوّل إلى هدف مفضّل لصواريخ ومسيّرات الجيش الإسرائيلي.
وكلّما وقعت العدسة من يد أحدهم سارع آخر إلى حملها وإتمام المسيرة، في إصرار أسطوري على توثيق ما يجري، ومنع الجريمة من السقوط في فخ التعتيم والتضليل.
وأن تكون مصوّرا في قطاع غزة مختلف تماما عن مداعبة العدسات في أي مكان آخر. هناك تصبح في نظر الاحتلال محاربا مهمّته الفضح والتوثيق، فيكون رأسك مطلوبا قبل رأس المقاتلين في صفوف المقاومة.
وأن تكونا صحافيا أو مصوّرا في غزة، معناه أنك ستخوض حربا أخرى ضد الحصار التقني والحجب المقصود للإنترنت ومنع جميع أشكال التواصل بين الشعب المحاصر والعالم الخارجي.
أن تكون صحافيا ومصوّرا في غزة معناه أن كل إشارة ستصدر عن أجهزة البث والاتصال والهواتف النقالة، ستجعلك هدفا للصواريخ “الذكية”. والشبان الأبطال الذين يتمنطقون بما تبقى لديهم من كاميرات أو هواتف تصلح للتوثيق والتصوير، يضطرون إلى مراوغة الاحتلال باستعمال بعض البنايات المرتفعة، لالتقاط إشارات شبكات الاتصالات الإسرائيلية التي تتسرب شاردة نحو القطاع.
تصوّر أنك مصوّر صحافي في غزة، تعيش رفقة زملائك في خيمة لا تقي من برد ولا حرّ، تعيش على المياه الملوّثة والطعام المعلّب إذا توفّر أو أوراق الأشجار إذا تعذّر، ولا تقترب من خيمة أسرتك إلا وأنت تحمل همّ التسبّب في قصفهم جميعا وهم نيام.
وأنت تركض خلف أعمدة النيران ومواقع القصف الإسرائيلي، وتخاطر بالتحوّل إلى هدف مباشر للقتل، وتضطر لصعود بناية مرتفعة لالتقاط إشارة الاتصال وإرسال الصور إلى العالم الخارجي، وقد تضطر إلى الصعود والنزول عدة مرات لتحيين الحصيلة… وفي غياب وسائل الاتصال وتبادل الأخبار، قد تجد نفسك في المستشفى وأنت توثّق حالات المصابين والقتلى وقد التقطت عدستك صورة لواحد أو مجموعة من أقاربك.
في غزة يتحوّل العمل الصحافي إلى أكثر من تغطية ميدانية، بل يصبح الصحافي طوق نجاة للبعض، وقناة تواصل بين إخوة وأقارب فرّقهم القصف وضاع بعضهم عن بعض. فعدسات المصوّرين في غزة ملاذ لأهالي الضحايا للعثور على أثر المفقودين.
كثيرا ما يتخلى المصوّر عن عدساته للأخذ بيد طفل يتيم أو أم مكلومة تبحث عن فلذات كبدها، ومرات كثيرة كانت الصور المخزّنة في ذاكرة هواتف وآلات التصوير سبيلا للاهتداء إلى هوية جثة دون رأس، أو بقايا أشلاء عليها بقايا ملابس تسمح بتحديد الهوية.
في غزة لا يخرج القتيل بالضرورة في شكل جثة متكاملة ومتماسكة نحو مثواه الأخير، بل كثيرا ما اختلطت الأشلاء فاضطرت الأسر إلى تقاسمها عبر حصول كل منها على عدد معين من الكيلوغرامات لدفنها والاحتفاظ بذكرى شهيد، وعديدون هم الذين دفنوا أقاربهم بعد جمع بقاياهم في أكياس أو علب كرتونية.
من بين القصص التي تذكّرها خالد بلال في إحدى جلسات لقاء البحث عن سبيل لاستعادة السردية وحماية استقلالية الصحافة، تلك التي بدأت حين صادف طفلة تائهة ووحيدة في أحد المستشفيات، وقد انفجرت أوردة عينيها الدموية وعجز الأطباء عن الأخذ بيدها.
أخد المصوّر بيد الطفلة، ووثّق حالتها بصورة جابت أرجاء العالم، واستمع لقصتها التي تعود إلى ليلة كانت تنام فيها رفقة أسرتها داخل بيت هو عبارة عن حاوية معدنية صنعت أصلا لتنقل السلع والبضائع.
رغم تطمينات الأب بأن أصوات الدبابات الإسرائيلية بعيدة عن المكان، سوف تستيقظ الطفلة وأسرتها على وقع دبابة إسرائيلية وهي تدوس الصندوق المعدني الذي تسكنه الأسرة المشردة، وتضغط على النائمين بداخلها، حتى مات من مات ونجت هي بعينين حمراوين بعد انفجار أوعيتها الدموية بفعل الضغط والاختناق…
“لقد قامت الدبابة بلفّنا داخل الصفائح المعدنية كما يلفّ رغيف الشاورما اللحم بداخله” قالت الطفلة للمصوّر الصحافي.
(*) صحفي وباحث مغربي