كاينابريس – حسن أوريد(*)
في مصطلحات علم الزلازل تعني كلمة صدْع -المقابل (Rif)- الفلْق الذي يقع في باطن الأرض، ويُحدث الصَّدْع ارتدادات، (أو ارتجاجات) خارج البؤرة، ويختلف مدى الارتدادات ووقعها باختلاف درجة الزلزال، ومدى الموضع من الصدع.
تشكل الحرب على غزة بؤرة صدْع على مستوى العلاقات الدولية، وتؤشر على أنَّها فاصل بين فترتين، ما قبل وما بعد، وهي كذلك صدع على المستوى الثقافي، إذ يمكن أن نرصد تداعيات الصدع في العالم، على الأكاديميين في أروقة الجامعات، ولدى صانعي الرأي.
تظهر آثار ارتدادات صدع غزة على جمهرة المثقفين في الولايات المتحدة، بشكل غير مسبوق يُذكّر بحرب فيتنام، ويتجاوز بشكل كبير استنفار الأكاديميين وأصحاب الرأي خلال مظاهرات ساحة تايانامين (1989)، أو أثناء أزمة الخليج، (1990)، أو حتى من الحرب على العراق سنة 2003.
يتوزَّع المشهد الثقافي جراء صدع غزة، بين الداعمين لإسرائيل، وسرديتها، ودعوتهم “المبرّرة للحرب العادلة” -أبرزهم عالم الاجتماع مايكيل ولزر- وبين من لا يتبّنون طرحها ولا سرديتها، ويظهر ذلك من خلال الكتابات، والتدوينات، والمظاهرات.
اللافت، هو تعامل المؤسسات الأكاديمية في الولايات المتحدة بنوع من المكارثية؛ أي تعقب من يُشتمُّ منه التعاطفُ مع الفلسطينيين، أو شجب العدوان، إما من خلال التظاهر، أو الكتابة، أو التدوين، أو حتى حمل الكوفية.
تُدرج لوائح سوداء لتعقب المساندين للفلسطينيين في الحرب على غزة؛ تحسبًا لطلبات التشغيل، أو إجراء أبحاث، أو الارتقاء في مسالك الجامعات أو الإدارة، بيد أن هناك وعيًا مستشريًا في داخل المؤسسات الأكاديمية الأميركية بأن مجاراة إسرائيل في عدوانها، من شأنه أن يمَسّ “الرصيد الأخلاقي” للولايات المتحدة، ويرهن مصداقية المؤسسات الأكاديمية التي يُفترض فيها الحياد والموضوعية.
لا يقتصر طيف الاتجاهات المساندة للفلسطينيين- في الولايات المتحدة– على من هم من أصول فلسطينية أو عربية أو مسلمة، أو بعض الأقليات الإثنية، بل كذلك من ليبراليين، ويهود، بل حتى ممّن هم مساندون لإسرائيل، ويخشون التبعات الأخلاقية لتقتيل المدنيين والنساء والأطفال، وقصف المشافي، ودور العبادة، وسيارات الإسعاف –توماس فيردمان يعدّ مثالًا على ذلك– ومضاعفاتها على صورة إسرائيل وأمنها.
أما أوروبا فلا تتكلم لغة واحدة فيما يخصّ الحرب على غزة، على مستوى المثقفين. الاتجاه الغالب في ألمانيا- لأسباب تاريخية، ونفسية جمعية- مساندٌ لطرح إسرائيل في “حقها بالدفاع عن نفسها”، وهو اتجاه يعتبر كلَّ موقف مغاير- عن الاتجاه الرسمي أو التوجه العام – نوعًا من معاداة السامية. ترى ألمانيا أن وقوفها إلى جانب إسرائيل نابع من “موقف أخلاقي”، كما عبّر عن ذلك هابرماس. ويسود ألمانيا جراء ذلك نوع من محاكم التفتيش ضد من يتبّنون موقفًا مساندًا للفلسطينيين، أو مجرد الوقوف ضد الحرب.
أما فرنسا فتتوزع ما بين اتجاه غالب، مُمالئ لإسرائيل، على مستوى الأكاديميين، وأصحاب الرأي، من منطلق الإسلاموفوبيا المستشرية في فرنسا، وبين الموقف المناوئ لها ممن يُسمون في فرنسا بالتحالف الإسلامي اليساري.
القاعدة القانونية هي: أنه “لا يُنسب إلى ساكت قول”، لكن في قضايا حازبة، الصمت مظنة، أو موقف متخاذل
لكن الساحة الثقافية الفرنسية لا تخلو من مواقف مناهضة للتمييز في التعامل، كما حمل ملفٌ عن الموضوع في جريدة “لوموند” (8 ديسمبر). بيدَ أن بلاتوهات التلفزة تكاد تكون مُطوّقة في فرنسا، ويكاد يستحيل نقل موقف مخالف للاتجاه العام المساند لإسرائيل، ولذلك يتجنب كثير من الأكاديميين- ممن لهم رؤية متوازنة- تلبية دعوات التلفزة؛ خشية التورّط من قبيل أسئلة: “هل توقفت عن ضرب زوجتك”.
لم يعد التنسيب والتمييز مقبولَين في بلد الأنوار والمثقفين. يكفي أن نشير إلى حالة الكاتبة من أصول مغربية، زينب الغزيوي، العلمانية حد النخاع، ولكنها اعتبرت ما يجري في غزة محرقة، فسُحبت منها جائزة “سيمون فايل”، وهي إحدى الناجيات من الهولوكوست.
الاتجاه الغالب في كل من إسبانيا وإيطاليا- على مستوى المثقفين والأكاديميين- هو شجب العدوان على غزة، واعتبار ما يجري بها إبادة جماعية، ويُعبَّر عن ذلك من خلال المواقف الشخصيَّة، أو في داخل الجامعات، والملصقات بها، والجرافيتي، حيث لا يجري حظر، وبدرجة أقل في الكتابات الصحفية، والتلفزة، بالنظر إلى التحكم في الإعلام.
أما على مستوى العالم العربي، فالاتجاه العام، على مستوى النخبة المثقفة هو شجب العدوان والدفاع عن الفلسطينيين، إما من منطلق انتماء إسلامي، أو عروبي، أو إنساني، لكن الصورة ليست بتلك الدقة، إذ إن هناك فئة انصاعت لطرح إسرائيل، منذ اليوم الأول، واعتبرت “طوفان الأقصى” عملًا إرهابيًا، وطالبت بإطلاق سراح الرهائن، من هذه الفئة صاحب مجموعة صحفية في المغرب هو السيد أحمد الشرعي، الذي كتب مقالًا بالفرنسية، قال فيه: “كلنا إسرائيليون”، على غرار قول مدير جريدة لوموند كلومباني عقب 11 سبتمبر: “كلنا أميركيون”.
ويمكن أن ندرج موقف الصحفي والروائي إبراهيم عيسى في مصر، وعالم الاجتماع حمادي الردسيي من تونس، في هذا الاتجاه.
أما الكاتب الفرانكفوني الطاهر بنجلون، فاعتبر “طوفان الأقصى” أسوأ مما قد تجترحه الحيوانات، وأن حماس أقبرت القضية الفلسطينية. وينحو الكاتب الجزائري- المقيم في فرنسا ويكتب بالفرنسية- ياسمينة خضرا المنحى نفسه؛ بطلب إطلاق سراح الرهائن، بادئ الأمر، ويلتزم الصمت عن العدوان، وهو الموقف ذاته التي يعبّر عنه بوعلام صنصال. ويهزأ الكاتب الجزائري كمال داود من السياسي الفرنسي جان لوك ميلونشون؛ لأنه يساند الفلسطينيين، ويطالب بوقف الحرب، وينعته بـ”المفتي ميلونشون”.
اللافت كذلك أن فئة من المثقفين المرموقين في العالم العربي، التزمت الصمت: (أدونيس، عبد الله العروي، عبد اللطيف اللعبي، يوسف زيدان، بنسالم حميش…)، أو من كبار المحللين السياسيين، مثل: (مصطفى السحيمي في المغرب).
القاعدة القانونية، هي: أنه “لا يُنسب إلى ساكت قول”، لكن في قضايا حازبة، الصمت مظنة، أو موقف متخاذل.
وفي جانب آخر، دحضت حرب غزة الطرح الواهي الذي يَقرن الأمازيغ – بطريقة آلية- بالطرح الصهيوني، في بلاد المغرب؛ إذ شجب مثقفون وازنون ناطقون بالأمازيغية، في المغرب، العدوانَ الإسرائيلي على غزة، مثل: إدريس خروز في حوار له بالفرنسية، أو موحى الناجي في مقال له بالإنجليزية، أو المغنية تحيحيت، أو موقف حزب القوى الاشتراكية ومثقفيه في الجزائر، والذي أنشأه القيادي التاريخي الحسين آيت أحمد ذو الأصول الأمازيغية.
استضاف الحزب السفير الفلسطيني في الجزائر؛ ليعبّر له عن تضامنه مع الشعب الفلسطيني. بيد أن بعض الفعاليات الأمازيغية المعروفة بانخراطها مع الطرح الصهيوني، التزمت الصمت. ويظل الاستثناء موقف الانفصالي فرحات مهني الذي يعيش في فرنسا؛ إذ نظم مظاهرة مؤيدة لإسرائيل.
تُعتبر الحرب على غزة من المحطات الفارقة في المشهد الثقافي، على المستوى الكوني، تُنهي مرحلة وتنفتح على أخرى، على مستوى الفكر، كما نهاية الحقبة الاستعمارية، وظهور الخطاب المناهض للاستعمار، وما بعد الاستعمار، وكما الفترة التي أعقبت سقوط حائط برلين، مما قلب كثيرًا من المفاهيم والبارادايمات.
يطرح صدع غزة مفهوم المثقف: هل هو الذي ينصاع لقيم الحق والعدل، كما في تعريف جوليان بويندا صاحب كتاب: “خيانة المثقفين”، أم ذلك الذي يقبع في برجه العاجي، ويزجي الأحكام، ويرصف كلامًا بلا نكهة؟، كما في مقولة لسارتر: من تُحف لا أهمية لها إلا ما تُحدثه من صليل، لأنها أوانٍ فارغة.
على كثير من المنبهرين بالأصنام أن يجيبوا عن هذا السؤال: هل يجوز الصمت حين يُقتل الأبرياء والمدنيون، وتُقصف المستشفيات وتهدم دور العبادة، ويُمنع الدواء والغذاء والماء؟ هل الجوائز أو الطمع في جوائز أكبر أهم من الحرية؟! وهل تلتقي بعد اليوم، الجوائز والحرية؟! وهل يقوم المثقف بدون حرية؟! وهل ينهض المثقف بدون الانصياع للحق والعدل؟!
(*) روائي مغربي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط.