كاينابريس – د. علاء الدين بنهادي(*)
«إذا أراد الله أحداثا عظيمة هيأ أسبابها، تخطئ المقادير ويصيب القدر»، الشيخ عبد العزيز الطريفي.
توطئة
إن فهم وتحليل طبيعة حدث “طوفان الأقصى” الذي فجرته القيادة العامة لأركان كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري والقيادة السياسية لحركة حماس في غزة، وشاركت فيها فصائل مقاومة أخرى، خاصة سرايا القدس، الذراع العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، يوم السابع من أكتوبر 2023، في عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة، غلاف غزة وأجواء العاصمة تل أبيب والمدن والمستوطنات المجاورة لها والمقرات العسكرية والشرطية والاستخباراتية، واستشراف مآلاتها ونتائجها، لن تفضي إلا إلى ما أرادته المقاومة الإسلامية، وهو تحقيق “المعادلة الصفرية” في الصراع الوجودي مع الكيان العبري المدعوم من الغرب منذ تأسيسه عام 1948 حتى اليوم، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، حيث فرضت المقاومة على الجميع بهذه المعركة النوعية والاستراتيجية، الغرب والكيان العبري وأنظمة عربية متصهينة، نتيجة واحدة فقط، إما انتصار التحالف الصهيوني-الغربي وتهجير الفلسطينيين نحو مصر والأردن والشتات لتنفيذ مشروع “قناة بن غوريون” الاستراتيجي وحولها لإنشاء منطقة اقتصادية ومدن جديدة وميناء استراتيجي بين الدولة العبرية ومصر والأردن والسعودية والإمارات بدعم أمريكي وأوروبي، وإقامة منطقة جغرافية عازلة بين الكيان العبري وبين الفلسطينيين من جهة،بهدف إضعاف الدور الاستراتيجي لقناة السويس وخليج العقبةومضيق باب المندب من جهة أخرى، إلى جانبدور مشروع سد النهضة الإثيوبي الذي يراد به أيضا خنق مصر وإنهاء دورها الإقليمي وإضعافها ثم إخضاعها لمشروع الاحتلال الشامل للمنطقة العربية لاحقا، وإنهاء المقاومة الإسلامية على أرض فلسطين وحولها، أو انتصار خيار المقاومة الإسلامية في فلسطين والمنطقة العربية وبداية زوال الكيان العبري المصطنع ومعه النفوذ الأمريكي والغربي، وأيضا الأنظمة العربية الموالية التي وجدت لضمان مصالح الغرب الاستراتيجية، وحماية الكيان الصهيوني وضمان تدفق الطاقة وقمع الحركات الإسلامية الجهادية ومنعها من الوصول للحكم، كما وقع غداة الربيع العربي مع حركات الإسلام السياسي في مصر وتونس والمغرب وليبيا واليمن وسوريا والأردن والسودان والجزائر.
وخلافا لما قيل، فإن قيادة المقاومة الإسلامية في كتائب القسام، وقيادة حماس في غزة والفصائل الأخرى، قد أوقعت الكيان العبري في فخ لن يخرج منه ومعه الدول الغربية التي جاءت بأساطيلها وبوارجها الحربية وإمداداتها العسكرية والمالية، وفي أقل تقدير، إلا مهزوما عسكريا ومنهكا اقتصاديا ومنقسما اجتماعيا ومضطربا نفسيا، بل لن تبقى مساحة الدولة العبرية بعد طوفان الأقصى كما كانت قبله، وستتضاعف مساحة غزة لتشمل الغلاف ومناطق أخرى أكبر، الأمر الذي لن يقبله الكيان، فيرتكبخطأ استراتيجياقاتلا، وهو جر الغرب لحرب شاملة، وبدعم من بعض الأنظمة العربية التي ترى في الحركات الإسلامية الجهادية والمقاومةهي الأخرى خطرا قائما ووجوديا، خاصة دول الحزام الحمائي، أو ما يسمى بدول الطوق، ودول الحزام الائتماني، وهي دول التطبيع لضمان بقاء الكيان الصهيوني وإعادة انتشاره في المنطقة العربية من جديد، ثم تتوسع لتتدخل في هذه الحرب الإقليمية قوى دولية وإقليمية مباشرة أو بالوكالة، مثل روسيا والصين وتركيا وإيران والهند وكوريا الشمالية.
وتقع اليوم أنظمة الحزام الحمائي العربية للدولة العبرية بموجب الاتفاقيات الإبراهيمية وغيرها، عربية-إسرائيلية وعربية-أمريكية، أو ما يسمى بـ “دول الطوق”، وهي خط الدفاع الأمامي الأول للكيان الصهيوني، الأردن وسوريا ومصر، وأنظمة الحزام الائتماني للدولة العبرية، وتمثل خط الدفاع الثاني المعني بتمكين الدولة الصهيونية من اختراق مجتمعاتها ثقافيا وأمنيا واقتصاديا، لعودة محتملة للأوطان الأصلية في حالة الزوال في أفق نهاية العشرية الحالية، وهي الدول التي وقعت هذه الاتفاقية للتطبيع مع الكيان الصهيوني، المغرب والإمارات والبحرين والسودان وموريتانيا ودول خليجية، كما حصل إبان الربيع العربي، بل وأسوأ، لذلك عليها إما إعلان معاداتها للمقاومة ودعمهاللكيان الصهيوني في حربه ضد المقاومة الإسلامية في فلسطين وفي المنطقة العربية، سرا وعلانية، وقد بدأت بعض الدول في ذلك، وهذا سيفجر غضب الشعوب العربية والمسلمة، وينتهي بإسقاطها، ويفتح الحدود من الجهات الأربعة نحو الكيان الصهيوني للمشاركة في المعركة النهائية لإسقاط المشروع الغربي الصهيوني في الأرض المباركة، فلسطين، أو ستنخرط مضطرة ومكرهة في القتال، إذا توسعت دائرة الصراع المسلح بين المقاومة الإسلامية الفلسطينية والكيان الصهيوني، وبذلك، ستكسب مرحليا الشارع العربي والمسلم، ولكن ستجلب عليها غضب الأمريكيين والأوروبيين الداعمين لسياسات الصهاينة في فلسطين، مما سيعرضها لخطر السقوط في كل الأحوال.
توجد اليوم هذه الأنظمة أمام “معادلة صفرية”، وعليها أن تختار اليوم قبل الغد صفها ومعركتها قبل فوات الأوان، وهو أمر مخالف لطبيعتها المتوجسةمن عودة الإسلام بقوة للصراع والصدارة، لأن الكيان الصهيوني ومعه أذرعه الصهيونية في أوروبا وأمريكا، يدفعون في تجاه تأزيم المنطقة أكثر والذهاب بها نحو حرب حاسمة، يعتقدون بأنهم سيكسبونها، وبذلك يعيدون استعمار البلاد العربية وكسر أجنحة دول إسلامية إقليمية مثل تركيا وإيران وماليزيا ودولية صاعدة مثل روسيا والصين، وبذلك يضعون الحجر الأساس لنظام عالمي صهيوصليبي جديد انطلاقا من خريطة جيوسياسية جديدة في المنطقة العربية والشرق الأوسط، خاصة بعد صعود التيار اليميني القومي والديني في عموم أوروبا وأمريكا، بل إن الكيان الصهيوني، ومعه أمريكا وحلفاؤها الأوروبيون، هم كذلك أمام وضعية “المعادلة الصفرية”، لأن انهزامهم أمام المقاومة الإسلامية في فلسطين، وفي المنطقة، إذا توسعت المعارك، سيكون هو الضربة التي ستخرجهم من خريطة العالم الجيوسياسية الجديدة التي بدأت تتشكل خلال السنوات القليلة الماضية، وتحرمهم من أي دور في المنطقة العربية والشرق الأوسط لصالح قوى دولية وإقليمية جديدة، روسيا والصين وتركيا وإيران ودول أخرى. وقد صرح، بهذا الشأن، بوب جيتس، وزير الدفاع الأمريكي السابق، بأن “روسيا والصين يعتقدان أن أمريكا وغيرها من الديمقراطيات الكبرى، وصلت القمة ودخلت في انحدار لا رجعة فيه”.
والطريق الوحيد والحل الأوحد لتقويم هذا الانكسار والانحراف وإنهاء المواجهة في العلاقات بين الدول، كما كان الأمر دائما في التاريخ القديم والحديث، هو الذهاب إلى حرب شاملة بين أطراف الصراع، أمريكا وحلفاؤها، أوروبيون وعرب وصهاينة من جهة، وروسيا والصين وفصائل المقاومة الإسلامية وتركيا وإيران وباقي حلفاؤهما من جهة أخرى، لأن الوضع الدولي والإقليمي في المنطقة العربية، وفي فلسطين والشام عموما والعراق واليمن وليبيا، يبقى مسرحا مناسبا ومرشحا لهذه الحرب الفاصلة، خلافا لما كان يعتقد بأن أوكرانيا ستكون منطلق حرب عالمية.
إن الحرب إجراء حاسم في أي صراع حول قيادة العالم وفرض قواعد دولية ونظام دولي جديد، كما وقع في العصر الحديث مع الحرب العالمية الأولى، ونظام عصبة الأمم الغربي، والحرب العالمية الثانية، ونظام هيئة الأمم المتحدة الصهيوني الغربي، كما أن الحرب تخرج الوضع الدولي والعلاقات الدولية من حالة المراوحة وورطة الأزمة الدائمة والخانقة، وهي بهذه المقاربة وفي حذا الحال تمثل مظهر من مظاهر “المعادلة الصفرية”، يجب الخروج منها بالذهاب بالصراع والأزمة إلى أعلى مستوياتها ودرجاتها والانتقال بها من المواجهة السياسية والدبلوماسية والإعلامية إلى المواجهة العسكرية واختبار القوة لدى الأطراف لإنهاء الصراع والتأرجح وعدم الاستقرار.
إن الحرب تكشف عن حقيقة قوة كل طرف في الصراع وتفصح عن أهدافه الاستراتيجية، وهو ما يلاحظ اليوم حول معركة “طوفان الأقصى” وما جلبته من حشود عسكرية غربية نحو فلسطين والمنطقة العربية، خاصة العراق والشام ومصر وجزيرة العرب، وسعي لتشكيل تحالف غربي صهيوصليبي بري وجوي وبحري بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، بريطانيا وفرنسا وألمانيا وكندا خاصة،بدعوى مواجهة “الإرهاب”، وهي دعوى قديمة ودعائية تخبئ أهدافا استعمارية استراتيجية كان الغرب قد بدأ يخطط لها خلال مرحتين مهمتين، أحداث نيويورك 2001، والربيع العربي 2011، لشعوره بأن هذا العالم الإسلامي، والعرب في قلبه، بدأ يتحرك على أساس جهادي إسلامي في أكثر من موقع وبؤرة توتر ونزاع مسلح، وعادت الثقافة الجهادية الشرعية والعملية تنتشر في المجتمعات الإسلامية، والعربية خصوصا، وأن هذا التحرك يمثل خطرا استراتيجيا على مشروعه في قلب الأمة، فلسطين، وهو الكيان الصهيوني وعلى مصالحه الحيوية في المنطقة، بما فيها الأنظمة العربية الموالية له، وإن كان بعضها لم يعد يثق في نوايا أمريكا منذ اندلاع الربيع العربي، وزاد التأكد منه خلال الحرب الجارية في غزة بعد “طوفان الأقصى” وما أحدثه من تغيرات جيواستراتيجية، لن تنتهي إلا بخريطة جيوسياسية جديدة في المنطقة العربية، من مصر إلى الشام والعراق، مرورا بالجزيرة العربية، بل إلى الغرب الإسلامي، الذي دائما ما يتأثر بالأحداث القادمة من الشرق العربي.
التأصيل المفاهيمي والواقعي
اختلفت النظريات الشارحة والمؤطرة للعلاقات بين الدول حول الأسس التي تنظم هذه العلاقات وتضبط سلوكها وممارساتها خارج حدودها. إننا نجد صعوبة في القول بأن أصحاب هذه النظريات مجردون من الدوافع الإيديولوجية والمقاصد التي تروم تحقيق المصالح القومية لدولهم أو لمجموعاتهم الحضارية، مما جعلهم يتبنون هذه النظرية أو تلك، كما سنرى في هذه الورقة البحثية، حيث إن هذه النظريات ليست بعيدة عن استعمال العلم والمعرفة في خدمة سياسات الدول كما حصل مع علماء الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع اللغوي وعلم الاجتماع الكولونيالي وغيرها من حقول العلوم الإنسانية والعلمية البحتة، مثل البيولوجية والفيسيولوجية، للادعاء بأن الشعوب الإفريقية والأمريكية الأصلية والأبوريجيين في دول الإقيانوس في المحيط الهادئ، قبل وخلال الحملات الاستعمارية، أضعف من الإنسان الأبيض الأوروبي “علميا”، تمهيدا لاستعبادهم واستعمار بلدانهم والقضاء على تقاليدهم وثقافتهم ونسلهم وتهجيرهم من أوطانهم الأصلية للعمل عبيدا لدى المعمرين الأوروبيين في هذه البلاد التي احتلوها وأبادوا سكانها كما حصل في القرن الخامس عشر بين القارات الثلاثة، إفريقيا وأوروبا وأمريكا.
وإذا تأمنا جميع النظريات التي قعدت وأطرت للعلاقات الدولية خلال العصر الحديث، فلن تخرج عن ثنائية القوة والقانون في تنظيم هذه العلاقات وتوجيه سلوك الدول، وإن كان ذلك من زوايا إيديولوجية وفلسفية متعددة، ليبرالية ويسارية، محافظة بخلفية عرقية وطائفية، واقعية ومثالية، حتى وإن ادعت “العلمية” و”الموضوعية” في مناهجها ومقارباتها التأصيلية. إن نظرة تاريخية سريعة لما حصل خلال المائة سنة الماضية، ابتداء من الحرب العالمية الأولى، 1914-1918، مرورا بالحرب العالمية الثانية، 1939-1945، وما نتج عنهما، عصبة الأمم وهيئة الأمم المتحدة، كمنظمات دولية متحكم فيها من قبل القوى المنتصرة، وما صاحبهما وجاء بعدهما، كمعاهدات جنيف 1949 ومعاهدة فيينا، 1961، والمواثيق والأوفاق الدولية حول القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، ومحكمة العدل الدولية، 1945، والمحكمة الجنائية الدولية، 2000، والاتفاقيات والإعلانات العالمية لحقوق الإنسان، وأيضا خلال الحرب الباردة، 1947-1991، والحملات الغربية الاستعمارية، كان أبشعها وأشدها ظلما وتسفيها لكل ما سبقها من خطاب ونظريات، فقط غداة إعلان ميثاق الأمم المتحدة عام 1945، كان إلقاء قنابل نووية على مدينتي هيروشيما ونكازاكي اليابانيتين، وثلاث سنوات بعد ذلك هو إقامة الكيان الصهيوني الغاصب على أرض فلسطين المسلمة عام 1948 على أساس وعد بلفور المشؤوم، 1917، ودعم غربي لامحدود حينئذ، لازال قائما حتى طوفان الأقصى، السابع من أكتوبر 2023، وما يصاحبه من جرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية في حق الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية والقدس الشريف.
لقد وضع الغرب المنتصر في الحرب العالمية الثانية عبر هيئة الأمم المتحدة منظومة قانونية للدعاية فقط وإخفاء جرائمه في حق دول وشعوب العالم، حيث يكيفها حسب مصالحه الحيوية عند الضرورة، يلجأ إليها أو ينتهكها حسب الحالة المعروضة على المنتظم الدولي والأمم المتحدة، كما هو الشأن بالنسبة للكيان الصهيوني، مستعملا حق النقض في وجه أي مشروع قرار داخل مجلس الأمن يدين أو يسائل أو يحاسب قادة الكيان الغاصب السياسيين أو العسكريين على جرائمهم في حق الشعب الفلسطيني واحتلالهم لأراضي عربية في الجولان وسيناء وفلسطين التاريخية كما يحصل اليوم مع الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية ومذكرة اعتقال دولي من قبل المحكمة الجنائية الدولية في حق قادة الكيان الصهيوني، فما هو دور نظريات العلاقات الدولية والقانون الدولي والمنظمات الدولية في غياب تطبيقها وتنفيذها في حق “دولة مارقة وإرهابية” تعلن رسميا وعلى لسان مسؤوليها رفضها وإنكارها للقانون الدولي الإنساني وللمنظمة الدولية وميثاقها، بل حتى للاتفاقيات التي وقعتها مع منظمة فتح كما يجري اليوم في غزة وفلسطين عموما، لدرجة أن مندوبها الدائم السابق لدى الأمم المتحدة، الصهيوني جلعاد يطلب بوقاحة من أمين عام الأمم المتحدة، غوتريش، تقديم استقالته، ويمزق ميثاق الأمم المتحدة أمام أنظار أعضاء الأمم المتحدة عقب تصويت الجمعية العمومية لعضوية كاملة لدولة فلسطين في المنظمة الدولية، وبأنه “غير مؤهل لقيادة المنظمة”، حسب تصريح وزير خارجية الكيان الصهيوني السابق، إيلي كوهين، فقط لأنه قال في اجتماع للجمعية العمومة بأن “ما وقع في السابع من أكتوبر لم يأت من فراغ، وإنما من 56 سنة من الاستعمار والقتل والدمار مارسه الجيش الإسرائيلي في حق الشعب الفلسطيني”، معلنا أمام ممثلي دول العالم بأن الأمم المتحدة بهذا التصريح أصبحت “فاقدة للشرعية”!.
إن لعبة القوة والقانون في العلاقات الدولية هي ممارسة وجدت مبرراتها في النظريات التي وضعها مفكرو الغرب، أمثال هانس مرجنتاو ورايمون أرون وهنري كيسنجر وزبيغنيو برجينسكي، حيث إنه أمام جرائم الحكومات الغربية الاستعمارية والكيان الصهيوني باستعمال القوة أو التهديد بها، يوظفون القانون الدولي والأمم المتحدة ضد الشعوب العربية والإسلامية المضطهدة، وغيرها من شعوب العالم، كما يفعل اليوم في حق الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية والقدس الشريف، بدعوى “حق الكيان الصهيوني في الدفاع عن النفس”، كيان استعماري يتحدث عن الدفاع عن النفس أمام شعب محتل، وكأن الأحداث في فلسطين بدأت يوم السابع من أكتوبر، وتلك استراتيجية ودعاية مغرضة، في حين أن ما يحاول إخفاءه التحالف الغربي الصهيوني، على الأقل أمام مجتمعاتهم ورأيهم العام ونخبهم الفكرية والعلمية، هو أن جذور ما جرى يوم السابع من أكتوبر تعود لعام الاحتلال الصهيوني 1948 لفلسطين بدعم بريطاني وأمريكي وأوروبي وسوفييتي.
لقد سقطت المنظومة النظرية والفلسفية والإيديولوجية التي أقامها مفكرو الغرب لخدمة مشاريعهم الاستعمارية التوسعية تحت مسميات مخادعة، علي سبيل المثال لا الحصر، النظام العالمي وحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي والمسؤولية الدولية ومحكمة العدل الدولية والمنتظم الدولي والشرعية الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، وظهر الغرب والكيان الصهيوني في أقوى تجليات العدوان والهمجية في غزة، وسقطت أقنعته التي أخفى بها حقيقته من حق الشعوب في مقاومة الاحتلال كما أقرته الشرائع السماوية والقوانين الدولية وأوجبها الإسلام شرعيا، محاولا تضليل مجتمعاته والرأي العام الدولي.
إن سجل الغرب والصهيونية العالمية مليء بالخروقات والانتهاكات والجرائم في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا والبلاد العربية والإسلامية على مدى المائة سنة الماضية وقبل ذلك، ولعبت هذه النظريات والمدارس المختلفة في العلاقات الدولية دورا رهيبا في شرعنة هذه الجرائم والانتهاكات كما حصل في القرن الخامس عشر حتى بداية عصر الاستعمار في القرن الثامن عشر إلى الآن، خاصة بعد أحداث نيويورك عام 2001، وعقب الربيع العربي (الإسلامي) عام 2011، واستباحة البلاد العربية والإسلامية من المغرب إلى جاكرتا، انقلابات وحروب أهلية وزعزعة الاستقرار واضطرابات وافتعال أزمات اقتصادية ومالية ودعم الاستبداد المحلي، وكان أفظعها وأشنعها، ما يرتكب من جرائم في حق الشعب الفلسطيني في غزة اليوم.
إنه في ظل حالة الفوضى الدولية وتخبط الغرب في مواجهة روسيا والصين والتنظيمات الإسلامية الجهادية، خاصة في فلسطين كما يجري منذ اندلاع “طوفان الأقصى، وفي أفغانستان وإدلب في سوريا ولبنان والعراق واليمن، وهي حركية تاريخية وديناميكية دينية انطلقت منذ أكثر من أربعة عقود وغداة الربيع العربي، وفشله في قيادة العالم منفردا بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب البارة عام 1991، وعدم قدرته على الالتزام بميثاق الأمم المتحدة وبالقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني وبمواثيق ومعاهدات حقوق الإنسان والهيئات ذات الصلة، بالرغم من أنه هو من أتى بها لإدارة النظام العالمي الجديد لما بعد الحرب العالمية الثانية، 1945، وانتهاكه لالتزاماته الدولية ودعمه لجرائم الكيان الصهيوني في حق الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية والقدس الشريف وحرب الإبادة والتطهير والميز العنصري الذي يمارسه جيشه المحتل، في ظل كل هذا، لم يعد للنظريات والمدارس والمذاهب الفكرية والمعرفية والأكاديمية التي جاءت خلال المائة سنة الماضية لضبط وتنظيم العلاقات الدولية على أسس شرعية وسلطة القانون أي قيمة أو معنى، الأمر الذي جعل أكاديميين وطلبة غربيين في جامعات أمريكية وأوروبية مرموقة، أوكسفورد وهارفارد وستانفورد والسوربون، يخرجون عن صمتهم وينددون بسياسات حكوماتهم الداعمة للجرائم الصهيونية في حق الشعب الفلسطيني الأعزل، ويقدمون استقالاتهم أو يقالون بسبب مواقفهم ورفضهم إخضاع الجامعات للسلطة السياسية وتوجيهاتها المغرضة والمنحازة للدولة العبرية الصهيونية.
يعيش العالم اليوم مرحلة ما بعد العلاقات الدولية وانهيار النظام الاستكباري العالمي لما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو امتداد لنظام وستفاليا، 1648، وما يجري في غزة وفلسطين بعد طوفان الأقصى منذ السابع من أكتوبر 2023، هو تأسيس لمعادلة جديدة في العلاقات بين الدول تجاوزت معايير القوة والقانون التي أتى بها الغرب بعد الحرب العالمية الثانية، ومعالم نظرية تأصيلية لواقع جيوسياسي جديد دشنته حركة المقاومة الإسلامية في غزة بمعركة فاصلة زمنيا وتاريخيا بين عصر وعصر وبين عهد وعهد، كان عنوانها الأبرز الاستراتيجية الهجومية، “جهاد الطلب”، ودلالتها الأكبر هي تكسير مقولات خرافية روج لها الغرب والكيان الصهيوني لعقود وشكلت وعيا خائفا ومزيفا لدى الأنظمة العربية الوظيفية، ولدى النخب أيضا، بأن هذا الكيان الصهيوني لا يقهر ولا يغلب، وإسقاط أسطورة مشروع “إسرائيل الكبرى”، وتسفيه سياسة الغرب والكيان الصهيوني الأخيرة، توقيع الاتفاقية الإبراهيمية مع عدد من الدول العربية الوظيفية، والتي عارضت في القمة العربية والإسلامية المشتركة، الرياض 12 أكتوبر 2023، جملة من التوصيات والمقترحات، على ضعفها وهوانها، للضغط على الغرب والكيان الصهيوني لإيقاف الحرب وفتح معبر رفح لدخول المساعدات والتهديد بقطع إمدادات النفط على الغرب كما وقع غداة حرب أكتوبر 1973، وقطع العلاقات الدبلوماسية والتعاون الاقتصادي مع الغرب ومع الكيان الصهيوني.
طوفان الأقصى.. بروز معالم مقاربة جديدة في علاقات الدول ما بعد المركزية الغربية
إن الحرب في معناها الواسعهي ممارسة أعلى درجة من القوة لإخضاع دول العالم أو بعضها أو جلها لإرادة دولة عظمى أو مجموعة دول تتقاسم مناطق ووسائل النفوذعلى أساس تراتبية تحددها كتلة القوة والثروة التي لدى الدولة أو الدول العظمى، كما كانت الإمبراطورية الإسلامية على مدى قرون، وتفوض للدول الأخرى، الأقل قوة ونفوذا، مهام إقليمية وفق مخططاتها الجيواستراتيجية وخريطتها الجيوسياسية. إن ما يجعل العالم اليوم منفلتا ومضطربا وخارجا عن كل التقاليد والقوانين والمواثيق التي تحتكم إليها الدول خلال فترة ما بين الحرب العالمية الثانية وانهيار الاتحاد السوفييتي، 1945-1991، هو غياب قوة عادلة ضابطة للتوازن الدولي ولتصرفات الدول مخافة معاقبتها، وتحاول الولايات المتحدة الأمريكية، عبثا، الاستمرار في الدعاية لقوتها الإمبراطورية وبأن العالم لازال في حاجة لهذه القوة، وهي محاولة تفندها الأحداث والوقائع التي يشهدها العالم اليوم في المنطقة العربية، وخاصة في فلسطين وغزة، من همجية صهيونية أمريكية أوروبية في حق شعب أعزل ومقاومة مشروعة تواجه الاستعمار الصهيوني الإحلالي، الذي دخل مرحلة العلو الكبير واتخذ قرار إبادة الشعب الفلسطيني وتهجيره بالقوة والتدمير الكلي لأرضه ووطنه لأهداف استراتيجية إقليمية كثيرة، دينية واقتصادية وأمنية وتجارية وسياسية وعسكرية، بتواطؤ عربي مكشوف.
ويقف أتباع النظريات السياسية والجيوسياسية ونظريات العلاقات الدولية عاجزين عن فهم ما يجري أو مجاراة ما يجري أو التأصيل له، لأن الواقع يسير بسرعة فائقة وتجاوز الإطار النظري التقليدي، المثالي والواقعي والسلوكي والبنيوي، الذي رسم للعلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية منحى معينا، خاصة مع بروز قوى صاعدة تعمل من أجل استبدال النظام العالمي الأنكلوساكسوني الانتهازي والعنصري، باكس أمريكانا، بنظام عالمي متعدد الأطراف في مقدمته اليوم روسيا والصين، ولم تشهد مدارس العلاقات الدولية الغربية ميلاد أي نظرية جديدة، مما يفرض الحاجة لفاصل زمني وحدث مهول يكسر حالة المراوحة والجمود والتخبط والصراع بين القوى التقليدية والقوى الصاعدة، لتبدأ مرحلة إنسانية ومجتمعية عالمية شبيهة بحالة الطوفان الإحيائيالجديد للبشرية بعد الفساد والظلم والاستكبار الذي عم العالم لقرون بقيادة دول أوروبية وأمريكية منذ معاهدة ويستفاليا عام 1648، كما حدث مع طوفان نبي الله نوح عليه السلام، لتبدأ البشرية مرحلة جديدة ونظاما عالميا جديدا على أسس حضارية وقيمية وسياسية وقانونية أكثر عدلا وسلما ورفاها ولفترة طويلة.
إن العالم اليوم في حاجة ضرورية وحيوية لحرب شاملة تتميز فيها الأمم والدول والشعوب ويفصل فيها بين الحق والباطل والعدل والظلم، بين الإنسان والمسخ الإنساني المنحرف كما هو الشأن عبر التاريخ البشري والرسالي، وكما هو الحال اليوم، ذروة التوحش والباطل والظلم والمسخ والانحراف عن الفطرة واستباحة الأرواح المعصومة بلا ذنب كما يجري في غزة في حق الشعب الفلسطيني المقاوم والمحتسب وغيرها من المناطق المحررة من الاستبداد والاستعمار، أفغانستان وإدلب، ولا يمكن للوضع الدولي أن يستقيم مرة أخرى، ولفترة جديدة طويلة، إلا عن طريق المواجهة الضارية بين قوى قيم الإنسان والفطرة الطبيعية والحضارة الإنسانية والإسلامية من جهة، وبين قوى الانحراف الفطري والسلوكي والحضاري الغربي من جهة أخرى.
إن قواعد هذه المقاربة الجديدة للعلاقات الدولية ما بعد الحرب الواجبة لإخراج العالم من مأزق “المعادلة الصفرية” وحالة المراوحة لن تضعها الدول هذه المرة، أو على الأقل لن تكون مهمة الدول فقط، وإنما سيشارك في تأصيلها ووضعها تنظيمات وحركات تحررية وجهادية تواجه التحالف الصهيوصليبي انطلاقا من معركة طوفان الأقصى وفي مواقع أخرى من البلاد العربية، كما تخطط أمريكا وحلفاؤها في أوروبا وفي الكيان الصهيوني، وهي ظاهرة غريبة من ناحية طبيعة المساهمين في وضع هذه القواعد، وأيضا من ناحية أن الواقع هو مصدر هذه القواعد المؤسسة مستقبلا لميزان قوى جديد لن يكون لصالح الغرب والكيان الصهيوني، خلافا لما عرفناه في الماضي مع نظريات العلاقات الدولية أو نظريات علم الاجتماع والجغرافيا السياسية وغيرهما من حقول المعرفة، بحيث كانت النظريات إلى حدود بداية معركة طوفان الأقصى توجه الواقع وفق أهداف جيوسياسية لتغيره وتوظفه لفائدة مصالح الغرب والكيان الصهيوني، أما ما يتعلق بالتصور والبراديجم الجديد، فإننا أمام انقلاب المنهج وتغير قواعد العمل، بحيث أصبح الواقع وميزان القوى فيه وتطور الأحداث في فلسطين وفي مناطق صراع أخرى، أوكرانيا وتايوان وقبرص وليبيا والسودان وغيرها، هما من يضعان الإطار النظري لعلاقات الدول مستقبلا ويحكم النظام العالمي القادم وموازين القوى.
إن الفرق بين المرجعية الغربية في بعديها الإيديولوجي والمسيحي اليهودي والثقافي الفكري اليوناني الروماني، الديني والوثني، وبين المرجعية الإسلامية فيما يخص نظرتها للإنسان وللعلاقات بين الأمم والدول، يتجلى في أن الغرب يستعمل القانون لتبرير استعمال القوة في غزو وتدمير الدول والأمم واستغلالها، وينتهكه عند أول اختبار كما يجري اليوم في غزة وفلسطين بحق الشعب الفلسطيني، وما حصل من قبل على مدى نصف قرن الماضي، في أفغانستان والعراق والصومال والبوسنة والهرسك وليبيا واليمن والعراق وسوريا والسودان ولبنان وتركيا وإيران وأمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا، ويوظف هيئة الأمم المتحدة، ومن قبلها عصبة الأمم، والمعاهدات الدولية والقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني والقضاء الدولي، لتبرير استعمال القوة، أو يهدد بتدمير هذه المنظمات الدولية السياسية والقضائية إذا أدانت سياساته التدميرية، كما يفعل اليوم مع الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، فيما تنطلق المرجعية والمقاربة الإسلامية في نظرتها للإنسان والأمم والدول من تصور قائم على العدل والحق والحرية على اختلاف شرائعها وألسنتها وأعرافها وألوانها وأعراقها، ولا تفعل ذلك فقط التزاما بأحكام شريعة الإسلام بهذا الخصوص، وإنما امتثالا لأوامر الشارع سبحانه وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم.
إن النظرية الإسلامية للعلاقات الدولية تعتبر الآخر شريكا لها في الإنسانية وفي تدبير شؤون الشعوب فوق الأرض، وتنطلق في فتوحاتها على مدى التاريخ السياسي الإسلامي والخلافة المتعاقبة، نبوية وراشدية وأموية وعباسية وعثمانية وغيرها من النظم الحاكمة في مشارق ومغارب الأرض، سلجوقية وخوارزمية وأيوبية وفاطمية ومرابطية وموحدية ومرينية وسعدية، بالرغم من بعض الملاحظات النقدية تجاه هذه الحقب التاريخية ونظمها السياسية، تنطلق من واجبها الشرعي في حماية أهل وسكان الأمم التي فتحتها، ولذلك دخلت أمم في الإسلام بسبب سماحته وعدله واحترامه للاختلاف الديني والعرقي والثقافي مثل المغول وإيران وتركيا ومصر وأمم آسيا الوسطى وإفريقية وتخوم القوقان وبحر قزوين، وهي اليوم دول مسلمة بهويتها الثقافية واللغوية لم يقهرها الإسلام ولم يبدها أو يدمجها تعسفا في هويته أو يستعبدها، بدليل الأقليات العرقية والدينية داخل المجتمعات المسلمة حتى اليوم، كما حصل مع الأوروبيين الاستعماريين الاستئصاليين في أمريكا وأستراليا ونيوزيلاندا وكندا وجنوب إفريقيا وأمريكا اللاتينية، ويجري اليوم في حق الشعب الفلسطيني العربي المسلم من حرب إبادة جماعية وتطهير عرقي على يد جيش الاحتلال الصهيوني ودعم لامشروط أمريكي وأوروبي وخيانة عربية متصهينة.
وتكمن أهمية الحرب في النظرية الإسلامية، في غياب شروط التكافؤ أو فرض تصورها لتحرير فلسطين واستقلال الأمة العربية والإسلامية عن التبعية للغرب وإنهاء حالة المراوحة في ظل الصراع الدائر اليوم بين القوى الغربية القديمة بقيادة أمريكا والقوى الصاعدة بقيادة روسيا والصين من أجل فرض نظام عالمي جديد، تكمن في كون هذه الحالة ستخلق واقعا جيوسياسيا جديدا وتمنح للأمة، على الأقل لقواها المجاهدة الحية الجديدة، في غزة وأفغانستان وإدلب المحررة على سبيل المثال، هامشا في المستقبل المنظور أوسع مما هو متاح في الحاضر، ووضعية أقل ضغطا من جانب الغرب وأمريكا على رأسه دون أن يعني ذلك الوقوع في شراك الاستراتيجية الروسية أو الصينية أو غيرهما من القوى الصاعدة على سلم أقل من عالمي.
إن أهمية الحرب لا تكمن فقط فيما ذكر آنفا، بل تتجاوزه إلى أنها ستفرز نخبة جديدة ستقود المرحلة القادمة من حياة ومستقبل الأمة، وهذه النخبة السياسية والمجاهدة سيتشكل وعيها من واقع الإنجازات والمفاصلة وروح الاستقلال وحلم بناء الكيان السياسي الجامع للأمة أو لمجموعة أقطار من الأمة لتشكل بها قاطرة تقود الأمة نحو التحرر الشامل وتضعها في صدارة القيادة العالمية لما تزخر به الأمة من إمكانات وقدرات وثروات ومواقع جغرافية استراتيجية وقوة ديموغرافية وكفاءات علمية متنوعة، نخبة جديدة متحررة من أغلال الماضي السياسي الجبري والعلاقة التبعية المتخلفة للغرب، وهذا ما نراه اليوم في نماذج في غزة وأفغانستان وإدلب المحررة وفي فلسطين ولدى فصائل إسلامية هنا وهناك.
طوفان الأقصى.. نقطة التحول الاستراتيجي
إن طريق أئمة الحق من الرسل والصالحين من أهل العلم القرآني والنبوي ممن استأمنهم الله على مصير خلافة الإنسان ودعوة التوحيد عبر حركة تاريخ البشرية منذ النزول إلى الأرض واحد كما هو طريق أئمة الكفر من الإنس والجن ممن استكبروا وعصوا أمر الله في السجود والاصطفاء النبوي هو كذلك واحد، ولذلك لا يستقيم فهم وتفسير وتحليل الأحداث التي تعترض الصراع بين الطرفين إلا على ضوء ما جاء في أوامر الله تعالى عبر مسيرة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ومن اتبعهم من أهل العلم والهدى، ورثة الأنبياء، خاصة ما خص به الحق سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم، المبعوث رحمة للناس، بشيرا ونذيرا للبشرية جمعاء بعد أن غشيها، وبشكل غير مسبوق، الضلال والشرك والكفر والانحراف عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها وحرب على دعوة التوحيد والحق.
واليوم، وكما سبق أن حكم الله تعالى على البشرية المنحرفة عن دعوة التوحيد التي جاء بها رسله من قبل، بالطوفان تلبية لدعوة نبيه نوح عليه السلام، ووفق مشيئته وحكمته سبحانه، فكان حكم الله هو إفناء البشرية المنحرفة الكافرة المحاربة لرسله ودعوته، وتطهير الأرض منها بالطوفان المائي، فكان بذلك طوفانا إحيائيا لتبدأ البشرية المؤمنة مع نبيها نوح عليه السلام مرحلة جديدة من العمران البشري وتستأنف مسيرتها ورسالتها في الأرض بالحق والعدل، إلا أن النفس البشرية، وبتحريض ووسوسة من الشيطان اللعين، كما فعل مع آدم عليه السلام من قبل، انحرفت مرة أخرى وعلت في الأرض علوا كبيرا وفسادا وكفرا وشركا وفجورا وإلحادا وتدميرا وتحريفا لكل الرسالات الإلهية وللفطرة البشرية السليمة، وأعلنت الحرب على الله وعلى الحنفية السمحاء، واليوم جاء طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر2023 ليؤسس لبداية تنفيذ الوعد الإلهي ليس فقط من أجل تحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني، وهذا أمر تابع للوعد الكبير، وهو تحرير الأمة، بل وتعبئة الأمة قاطبة بقيادة أو مبادرة قادة الجهاد الغزيين لتحرير الأراضي المسلمة من الاستعمار الصليبي الصهيوني بدءا بتحريرها من الأنظمة المستبدة التابعة لهذا الاستعمار وجودا وعدما.
إن الدعوة لوضع “سقف سياسي” لهذا الطوفان على حدود فلسطين، كما يفعل المرجفون الآن، هو انحراف ومخالفة للحكمة الإلهية والمشيئة الربانية التي اصطفت هذه الثلة من الرجال لتنهض بالأمة، وهي محاولة لإجهاض هذه المقاومة الإحيائية التي تنطلق اليوم من دائرة المواجهة غير المتكافئة مع العدو، كما هو الحال عندما تتدخل المشيئة الإلهية لقلب موازين القوة بأدوات الغيب لا بحسابات الشهادة ولا بالعدد والعتاد، كما يروي ذلك القرآن الكريم في العديد من النوازل والمعارك التي خاضها رسول الله صلى الله عليه وسلم ضد المشركين في مكة ويهود في المدينة والروم في تبوك.
إن ما أربك وحير ساسة الغرب والكيان الصهيوني ومراكز البحث والدراسات لديه، هو الجواب عن سر صمود المقاومة في غزة حتى الآن بعد أكثر من تسعة أشهر من الدمار والقتل الجهنمي والوحشي من قبل جيل الاحتلال الصهيوني ومن يدعمه من دول الغرب والعرب، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، وما أظهرته المقاومة بقيادة كتائب عز الدين القسام، الجماح العسكري لحركة حماس، من حنكة سياسية ودبلوماسية وقيادة عسكرية ودراية بطبيعة المعركة والعدو وصبر عند ملاقاته ويقين في نصر الله وتخطيط استراتيجي في إدارة الحرب في مساحة جغرافية محدودة ومكشوفة ومحاصرة من قبل دول عربية، خاصة مصر والأردن، إن ما أربكهم ويعترفون به الآن، هو أن هذه المعركة تختلف عن كل المعارك السابقة وعلى مدى عقود، حيت قالمردخايكايدار، باحث صهيوني،”ما نواجهه اليوم في هذه الحرب هو معادلة جديدة أصبح الله جزءا من هذه المعادلة، وبذلك يتغير كل شيء لم يواجهه الغرب وإسرائيل في مراحل سابقة، ويعتبر شيئا من مستوى مختلف. هذا لاعب من عالم مختلف، ومعادلة مع عنصر متغير غير معتاد بالنسبة لنا، وكل النظريات حول النضال والدول والعلاقات الدولية والتوترات، لا شيء يمكنه احتواء مثل هذه المعادلة الجديدة بمثل هذا اللاعب الجديد الذي تم تقديمه للعالم”.
هذا أحد أوجه المفاهيم الجديدة التي قدمها طوفان الأقصى لتحديد معالم ومعادلات جديدة للعلاقات الدولية مستقبلا، كما أن المقاومة أحدثت ثورة جديدة في استعمال الجغرافيا، الأرض والبحر والسماء، في هذه المعركة بشكل غير مسبوق، وحولت المعركة إلى جوف أرض غزة وأنفاقها المعقدة والمتطورة وأدخلت العدو في متاهات لامتناهية وكبدته خسائر نوعية لم تشهدها معارك التحرر في العصر الحديث، وجعلت قضية الأسرى تتجاوز مسألة مفاوضات حول إجراءات وكيفية وشروط التبادل، إلى كمائن وعمليات جرت الصهاينة وأمريكا إلى ارتكاب أفظع الجرائم في حق الأسرى الصهاينة بدعوى تحريرهم وبحث المدنيين الغزيين، مما وضعهما ومن يحالفهما في الغرب والبلاد العربية أمام انتقادات العالم والمنظمات الدولية الحقوقية والقضائية، ودفعت دولا داخل وخارج الأمم المتحدة يعترفون بدولة فلسطين.
طوفان الأقصى.. علاقات دولية ما بعد المركزية الغربية
إن الذين يهاجمون أو ينتقدون المقاومة الإسلامية في غزة بعد إعلان جهاد الطلب في السابع من أكتوبر ضد المحتل الصهيوني الصائل من كل الأجناس والأعراق والأديان من مشارق الأرض ومغاربها، إنما يفعلون ذلك ليس لأن حركة حماس والفصائل الإسلامية الأخرى هاجمت الكيان الإحلالي، هذا أهون عليهم، ولكن لأن هذه العقيدة جديدة في تاريخ الصراع وخارجة عن أي قياسات سابقة ومخالفة للبراديجمات التي كانت تستعمل في المنطقة بشأن القضية الفلسطينية والمنطقة العربية كاملة من قبل الغرب والصهيونية العالمية لإبقائها تحت السيطرة والتبعية، فعلوا ذلك لأن المقاومة طرحت بعدا جديدا في الصراع والمواجهة كان الغرب والعرب المتحالفين معه يعتقدون إلى ليلة السابع من أكتوبر أمرا مستحيلا وولى لغير رجعة بعد حصار غزة، وهو البعد الغيبي والزمن التاريخي والوعد الإلهي الذي جاء به القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة فيما يتعلق بالشهود الحضاري للأمة وشروط نهضتها من كبوتها وضعفها وتبعيتها لتقود العالم من جديد وتعيد الإنسانية لتوحيد الله كما كانت من قبل.
استعادة الغيب في فهم الأحداث والظواهر السياسية واستقراء النصوص القرآنية والأحاديث النبوية أمر جديد ومطلوب اليوم، لأن طوفان الأقصى بالنظر لواقع حال الأمة ورجال وظروف غزة وفلسطين ولجبروت الكيان الصهيوني والدول الداعمة له غربا وشرقا وعربا، وبالنظر لخيانة سلطة أوسلو، أعجز العقل لفهم ما جرى ويجري وحير كل المعايير المعتمدة في تحليل وفهم الظواهر لدى مختلف مراكز البحث والدراسة والمؤسسات الاستخباراتية العالمية، ويبقى القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة هي النصوص المعرفية والمصادر الغيبية التي لديها أجوبة على كل التساؤلات الراهنة والتوقعات المستقبلية لمآل هذا الحدث الفاتح العظيم ولموقع الأمة في الوضع الجيوسياسي القادم.
إن النص القرآني والحديثي، كما تناول أحداثا وقعت في الماضي السحيق، وهي تنتمي لعالم الشهادة، فإنه يبشر بأحداث ستقع في المستقبل، وهي تنتمي لعالم الغيب، ويبقى تنفيذ وقوع هذه الأحداث من مسؤولية الإنسان المؤمن بإرادة الله سبحانه، أحداث منها ما هو قدري سيقع لا محال، انطلاقا مما جاءت به النصوص، في ظاهرها وبين ثناياها وأسرارها، تفسيرا وتأويلا، وتأكيدا للوعد الإلهي لعباده الصالحين، وحكمة الله كما بين القرآن في أكثر من مناسبة وموقع تتصرف من خلال المؤمنين والكافرين على حد سواء ليقضي الله أمرا كان مفعولا، ولذلك، فجمع يهود في فلسطين وليس في مكان جغرافي آخر يتفق ويتناغم مع وعد الله ومشيئته، ليأتي بهم لفيفا إلى أرض المعركة الفاصلة بين أئمة الإيمان وأئمة الكفر لحسم الصراع الأبدي، فلسطين والشام، وتحقيق النصر الموعود وتعميم العدل والتوحيد المنشود في العالمين، لتبدأ رحلة البشرية الأخيرة نحو الانتقال من الدنيا الفانية إلى الآخرة الباقية الأبدية.
بهذا المعنى يمكن تلمس ما جرى في السابع من أكتوبر، والحديث عن “أفق سياسي” لهذا المعركة الفاصلة العظمى، هي محاولة للانحراف عن الحكمة الإلهية التي اصطفت هؤلاء الرجال من المقاومة الجهادية في غزة لقيادة هذه المرحلة الثقيلة بالتضحيات والعظيمة بالعطاء والبذل من الروح والنفس والواعدة بالتحولات الاستراتيجية لصالح الأمة، وهكذا يكون الطوفان الإحيائي مخالفا للنواميس الاجتماعية والسياسية وللتصورات البشرية العادية، يكون خارجا عن المألوف لدى الناس، خيارهم وشرارهم، عامتهم وخاصتهم.
لقد كان طوفان الأقصى فاصلا زمنيا ووجدانيا بين عهد وعهد، كما كان فرصة لإعادة القرآن والسنة النبوية في صناعة الأحداث والاستهداء بهما لتحمل أعباء المسؤولية العظيمة نيابة عن الأمة وعن الإنسانية، وفتحا ربانيا لاستشراف مستقبلها المشرق وانطلاقتها نحو عالمية ثانية ليس بسبب استجماع القوة المادية وغلبتها، وهو أمر لم يتحقق للمجاهدين في العصر الحديث، بل من الصعب تحقيقه في هذه المرحلة التاريخية من حال الأمة وسطوة الأعداء في الغرب والشرق، ولكن بسبب الترتيبات الإلهية في الغيب لعناصر القوة المعنوية والإيمانية والجهادية والمدد الإلهي غير المرئي.
إن طوفان الأقصى ليس فقط حدثا قسم العالم حول قضايا العدل والحق كفلسفة جديدة لبناء مقاربة جديدة ونظرية مستحدثة للعلاقات الدولية ما بعد ويستفاليا وعصر “باكس أمريكانا”، وساهم بقوة في إبراز الخلاف القوي بين العالم القديم بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ودول أخرى حليفة لها، والعالم الجديد بقيادة روسيا والصين ودول أخرى حليفة لها، حول أسس وضوابط النظام العالمي متعدد الأطراف، وإنما هو نواة لعالم إسلامي يتحرر من هيمنة الغرب ومن أنظمة عربية استبدادية تابعة هي الأخرى للغرب، وقائم على دعوة حق وقضية عادلة من أجل حرية وكرامة الشعب الفلسطيني ومن أجل جميع الشعوب المضطهدة والمستضعفة من قبل حكوماتها في دول العالم ومن قبل قوى الاستعمار الغربي والصهيوني، لذلك شكل طوفان الأقصى في معناه الإنساني للشعوب والمجتمعات الأكاديمية والنخب الغربية أزمة ضمير ولحظة يقظة ووخزة وعي انطلق ليس من ثقافته المحلية الاستهلاكية التافهة والتضليلية، ولكن من ثقافة البعيد، الفلسطيني المسلم العربي المجاهد والمناهض للاحتلال والتوحش، من ثقافة الحق والعدل العابرة للحدود والثقافات والحضارات.
وإذا كان صامويل هانتنجتون قد تنبأ بصدام الحضارات قبل ثلاثة عقود، فإنه قد أخطأ في تحديد أطراف هذا الصدام، حيث أظهر طوفان الأقصى بأن الصدام هو صدام حكومات ودول وأنظمة وليس صدام شعوب وحضارات وثقافات، حيث أصبحت الكوفية والعلم الفلسطيني رمزا للتحرر في الغرب الشعبي والأكاديمي ودربا للانعتاق من دكتاتورية الأغلبية” الغربية و”الدولة القومية” الخانقة لأحلام الشعوب، بل منح طوفان الأقصى للإسلام في جماله وسماحته وعالميته، وعبر الاستشهاد والعطاء من أجل الحرية والكرامة في غزة ومواجهة مشروع الصهيونية الاستيطاني الإحلالي، أصبح موضوع الناس في الغرب وفي المجتمعات الأكاديمية والسياسية، وبداية لحياة جديدة للبشرية بعد طوافان الأقصى الإحيائي.
إن الهدف الاستراتيجيلقادة ومهندسي طوفان الأقصى، في تقديري، ليس إقامة دولة فلسطينية في سياق دولي مضطرب وعنيف وغير متوازن، بشروط أو بدون شروط، بحدود أو بكل الحدود الفلسطينية التاريخية، ولم يتحقق ذلك في تاريخ فلسطين ككيان مستقل عن الخلافة الإسلامية منذ دخول القدس على يد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وصدور العهد العمرية عام 637، ولا بعد سقوط الدولة الصليبية على يد الملك صلاح الدين الأيوبي رحمه الله عام 1187، ولن تقوم بعد زوال الكيان الصهيوني عند متم العقد الثامن نهاية العقد الجاري، 2028، بحسب العديد من الدراسات الاستشرافية الكامنة في النصوص الدينية وفي غيرها، ولا إقامة وحدة بين فصائل المقاومة، خاصة حماس والجهاد الإسلامي، وسلطة أوسلو أو تشكيل حكومة مشتركة.
إنما الهدف الاستراتيجي لمعركة طوفان الأقصى هو تحرير وعي الأمة الإسلامية قاطبة وانعتاقها من الاستعمار الغربي ومن الاستبداد العربي لتنهض وتتقدم لأداء دورها العالمي سلطانا وعمرانا، دعوة وفتحا لفرض قواعد عالمية إسلامية ثانية تهتدي بها البشرية طوعا وتخضع لها كرها قوى البغي والكفر والإلحاد التي كانت منذ قرون تخفي شرها وأهدافها التدميرية للجنس البشري وللدين وللتعايش السلمي بين الشعوب تحت شعارات حقوق الإنسان والديمقراطية وحق الشعوب في تقرير مصيرها كما تجلى ذلك الشر في أعنف وأبشع صوره اليوم في غزة، خاصة وهي اليوم، أوروبا وأمريكا والكيان الصهيوني، يتجهون نحو التفكك والحرب الأهلية قبل أو بعد هيمنة اليمين المتطرف على الحكم في الغرب وإعادة رسم الخريطة الجيوسياسية الأوروبية والأمريكية وفق هندسة سياسية وتوزيع القوة والثروة فيها من جديد، ثم نحو المواجهة العظمى مع روسيا والصين في مرحلة ثانية، ثم صدام شامل مع الإسلام، في مرحلة ثالثة، متمثلا في المشاريع الحركية الإسلامية الجهادية في فلسطين والشام والجغرافيا الإسلامية الواسعة، شرقا وغربا، ليستقر الوضع الدولي بعد ذلك على نظام عالمي جديد وعلاقات دولية بعد الحرب الفاصلة، تقوده قوى عظمى جديدة في شرق الأرض، يكون العالم الإسلامي في مقدمتها وطليعتها بلا منازع بقيادة نخبة جديدة بعد زوال النظام العربي والإسلامي الرسمي الذي فرضته قسمة “سايكس بيكو” والهيمنة الغربية غداة الحرب العالمية الأولى بقيادة إمبراطورية “باكس أمريكانا عقب الحرب العالمية الثانية.
(*) باحث مغربي، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية.