كاينابريس – يونس مسكين(*)
لا أدري أ صدفة هي أن تباغتنا صور أبنائنا وهم يرحلون جماعيا عبر الإلقاء بأنفسهم في حضن الضباب والبحر نحو الفردوس المفقود، بينما يتصدّر اهتماماتنا فيلم “حياة الماعز” الذي يزعم نقد نظام الكفيل المعمول به في بعض من دول الخليج العربي؟
أيُّ قدرٍ هذا الذي جعل من أبنائنا أبطالا حقيقيين في قصة حقيقية.. كأنهم في مأساة أبدية، يتناوبون بين أمواج الغرق وأمواج اليأس.. يجعلون من شاطئ البحر مقصلة للأمل في وطن يسع الجميع، ومن هذا الوطن سجنًا بلا قضبان؟
إنهم يهربون من قسوة الفقر إلى حضن بحر لا يرحم.. يتركون وراءهم أرضًا لم تعد تعرف كيف تحتضن أبناءها.
يظل البحر مستمرًا في لعبته القاسية، يلتهم الأحلام التي ترمي بنفسها فيه، بينما يستمر العالم في التفرج على مأساة أخرى على شاشات السينما.
وبين المشهدين، يبقى السؤال معلقًا: متى سنفهم أن هناك حياة أصعب من حياة الماعز، وهي تلك التي تدفع بالإنسان إلى أن يختار الموت غرقًا على العيش في وطن لا يمنحه سوى اليأس؟
أليست هذه السخرية في أبهى صورها، حين تتساوى حياة الإنسان مع حياة الماعز؟
ألا يذكّرنا مشهد أبنائنا وهم يرتمون تباعا في الأمواج علّها توصلهم إلى برّ أمان حقيقي، بمشهد الهندي نجيب، بطل فلم “حياة الماعز” وهو يتدحرج فوق كتبان الرمال بحثا عن قارعة طريق تعيده إلى أهله وإلى حياته وإلى أحلامه؟
هناك ما هو أشد وطأةً من العيش في ضيق الكفالة.. وهو أن تضيق بك أرض الوطن حتى تُلقى بنفسك في لجة البحر، باحثًا عن نسمة حرية قد لا تأتي أبدًا.
كأني بهم يهربون من رمضاء الحياة إلى جحيم الغرق؟ يسيرون بخطى متعثرة، محملين بأحلام بائسة، تطاردهم أشباح الفقر والخذلان، فيلقون بأنفسهم في حضن موج لا يعرف الرحمة.
أي عذاب هذا الذي يجعل الإنسان يفر من وطنه، كأنه أصبح غربته الكبرى؟
هل سألوا البحر يومًا إن كان له قلب ينبض؟
أم أنهم شعروا أن قلب الوطن قد جف، فلم يبق لهم سوى عناق الموج في محاولة يائسة للنجاة؟
إنهم يهربون من حياة ذليلة، نحو حياة قد تكون أكثر إذلالًا، وكأنما كل طريق يسلكونه يفضي إلى نفس النهاية: اليأس المتجدد مع كل شروق.
تقف الحياة ساخرة مرة، تستعرض عضلاتها الهزيلة أمام حلم صغير يعشش في صدر مراهق مغربي، يتيم الحلم، ينظر إلى أفق بحر يقضم حوافه اليأس.
يمتدّ البحر أمامه ككتاب مفتوح على نهايات مأساوية، يتخبط بين الأمواج وكأنه يلتهم النداءات الباكية للحرية.
إنه بحر يتلألأ كاذبًا في أعينهم، كقطعة نقدية زائفة، تلمع في ظلام الوطن، لتغريهم بمغادرة الأرض التي خانتهم..
تماما كما يرتمي نجيب في فلم “حياة الماعز” في بركة السراب.. إنه تزامن مأساوي يجسد سخرية القدر بوضوح مرير.
أولئك الشباب، الخارجون من أزقة الضياع، يرحلون عراة، يحملون حقائب الصبر على ظهورهم الهشة، ويتجهون إلى المجهول، تحت شمس قد تحرق جلودهم، لكن لا تلين عزيمتهم.
اختاروا أن يتسللوا تحت جنح الليل، أو تحت جنح الضباب..
لا يدرون كيف تكتمل قصة حياتهم، ولا كيف تنتهي..
يعرفون فقط أنهم سئموا من خريطة الوطن التي لم تتسع لخطواتهم المتعثرة.
وفي الوقت نفسه، هناك من يجلس ليراقب قصة الكفيل والعامل..
يتأمل التفاصيل، ويحاول فهم المعاناة التي تنساب على الشاشة.
لكن ما بين الصورة والصوت، هناك فجوة بحجم الصمت الذي يبتلع الشباب على الشواطئ.
هل رأيتم ما هو أكثر سخرية من قدرٍ يجعل شابًا مغربيًا يرمي بنفسه إلى البحر بحثًا عن حياة أفضل، بينما يتحدث العالم عن قسوة نظام الكفيل؟
إنهم لا يعلمون أن هناك كفيلًا آخر، هو الفقر والبطالة والظلم، يثقل على كاهل هؤلاء الشباب.
كفيل لا يترك لهم خيارًا سوى الهرب، ليس بحثًا عن حياة، بل هربًا من شبح موت يتربص بهم في كل زاوية.
ما الذي يجعلنا ننظر إلى معاناة “حياة الماعز” على الشاشة، بينما نغفل عن المأساة الحقيقية التي تتكرر على الشواطئ؟
ما الذي يجعل البحر يبدو أقل قسوة من الأرض، حتى يفضل الشباب الغرق في أحشائه على البقاء في وطنهم؟
إنها السخرية التي تجعلنا نقف مذهولين أمام قصتين متوازيتين، كل واحدة منها تجسد مرارة الإنسان وهو يحاول الهروب من قسوة الحياة.
عامل هندي يهرب من كفيله إلى وهم الحرية في فيلم متواضع..
وشاب مغربي يهرب من وطنه إلى بحر يحفر في ذاكرته الألم.
كلاهما يبحث عن حياة أفضل، كلاهما يقف على حافة اليأس، لكن واحدًا يسبح في بحر الحقيقة المرة، والآخر يغرق في بحر الوهم المصور.
هذه هي المأساة..
أن نجد أنفسنا ننغمس في حكايات تصور على الشاشة، بينما نتجاهل ما يحدث في الواقع..
أن نرى حياة الماعز على أنها ذروة البؤس، بينما هناك ما هو أسوأ: أن تكون إنسانًا في وطن لا يعترف بإنسانيتك، ولا يترك لك خيارًا سوى الهرب إلى بحر قد يبتلعك قبل أن تصل إلى شاطئ آخر.
هكذا تتقاطع الصور، وتتمازج المصائر، في سخرية من القدر الذي يجعلنا جميعًا نمضي في طريق مجهول، نتخبط بين موجات الحياة، ونبحث عن نهاية قد تكون في البحر أو في بر آخر، لا يهم، طالما أننا نحاول الهروب من مأساة نحو أخرى.
(*) صحفي وباحث مغربي