عام بوحمرون

يونس مسكينمنذ 3 ساعات
يونس مسكين

تذكّرت وأنا أتابع أخبار إعلان ما يشبه حالة الطوارئ في المؤسسات التعليمية ابتداء من صباح اليوم، الإثنين 03 فبراير 2025، بسبب الريمونتادا التي حققها ضدنا وباء “بوحمرون” (الحصبة)، فصول كتاب حديث للمؤرخ عبد الأحد السبتي، والذي يحمل عنوان “من عام الفيل إلى عام الماريكان”، والذي كان من بين ما تطرق إليه، أسلوب المغاربة في التأريخ، عبر إطلاق اسم حدث مميّز للإشارة إلى السنة.

هكذا نجد في تاريخنا القريب أسماء سنوات مثل “عام النار” و”عام الغمام” و”عام الثلجة” و”عام خيزو” و”عام اللوبية” و”عام الجوع” و”عام البون” و”عام السيبة”…

ولم يكن إطلاق هذه الأسماء مجرّد أداة لتحديد الموقع الزمني والتحقيب، بل طريقة في التعبير عن التجارب الجماعية. ويعتبر السبتي أن ثلاثية أعوام “البون” و”الجوع” و”الماريكان” تشكّل علامات تعكس الانتقال من الذاكرة المحلية إلى الذاكرة الوطنية.

ورغم اختلاف الأسماء التي تطلق على بعض الأعوام، كما هو الحال مع عام الجوع الذي يسميه أهل فاس ب”عام بوهيوف”، بينما ينعته أهل الشاوية ب”عام الهيف”، في مقابل أهل الريف الذين يسمّونه “عام بربوش” ليرد عليهم أهل تطوان بتسميته “عام روافة”… فإن الثابت هو أن هذا النوع من التأريخ كان من عوامل الوحدة بين أجزاء المغرب، ومما ساعد في تجاوز عوامل الاختلاف والفرقة، لتندمج الأسواق وتتشابه الطموحات بفعل التهديدات التي تشكّلها الأوبئة والكوارث والمجاعات…

لهذا لن تكون هناك أية مبالغة إذا أطلقنا على عامنا الحالي اسم “عام بوحمرون”، بما أن الأرقام التي أعلنتها وزارة الصحة قبل أسبوع من الآن، تتحدّث عن أكثر من 25 ألف حالة إصابة وأكثر من 120 حالة وفاة، علما أننا لم نصل بعد مرحلة الذروة، والمختصون أمثال الدكتور الطيب حمضي، ينبئوننا بموجات وبائية متكررة مقبلة، بفعل انخفاض نسبة المناعة الجماعية ضد “بوحمرون” تحت عتبة 95 في المئة، وما سينتج عن استئناف الدراسة هذا الأسبوع بعد عطلة مدرسية اتسمت بتنقلات وأسفار لا شكّ أن الفيروس المسؤول عن هذا المرض قد استمتع فيها بالأسفار تماما كما استمتع بها الكبار والصغار من الناس.

وحتى ندرك معنى الحالة الوبائية الحالية، تكفينا العودة إلى سجلات التاريخ، لندرك أننا عدنا تقريبا إلى الحالة التي كنا عليها سنة 1987، عندما توقف مسار انخفاض الإصابات بهذا الداء بفضل عملية التلقيح المكثف التي انطلقت مستهل الثمانينيات، وعادت الأرقام إلى الارتفاع.

وعندما نعلم أننا في وضعية انتشار سريع للفيروس، وفي بداية فترة استئناف الدراسة بعد العطلة، والتي ستشكّل فرصة سانحة لطفرة جديدة في مستوى انتشار الداء، فإننا نكون بدون أدنى مبالغة في واحدة من السنوات الكارثية التي عاشها المغاربة في تاريخهم المعاصر، وتصبح بالتالي مستحقة للقب “عام بوحمرون”.

ورغم أن ما يهمّنا هو وضعية بلادنا، فإن من الواجب الاعتراف بأن الأمر لا يقتصر على المغرب، بل تخبرنا منظمة الصحة العالمية في موقعها الإلكتروني، أن عام 2023 سجّل أكثر من نحو 107 ألف وفاة بسبب هذا المرض في العالم، معظمها وقعت في صفوف الأطفال دون سن الخامسة من غير المُلقّحين أو ناقصي التلقيح. فيما بلغت نسبة الأطفال الحاصلين على أول جرعة من لقاح الحصبة 83٪ في عام 2023، وهي أقل بكثير من نسبتهم في عام 2019 البالغة 86٪.

سبب الانتكاسة التي حصلت في التلقيح ضد هذا الفيروس، في المغرب كما في العالم، هو فترة جائحة كورونا، بفعل تعليق جل برامج التلقيح، وتركيز الجهد على مواجهة فيروس “كوفيد19”. لكن لابد من الاعتراف أيضا أن سبب الانتكاسة التي نعيشها حاليا، لا يعود إلى هذا العامل الكوني وحده، بل “شوية من الحنّة وشوية من حروشية اليدين”.

لقد كان للجرعة السلطوية الزائدة في حمل المغاربة على الخضوع للقاح “كورونا”، والانعكاسات الصحية السلبية التي جرى التكتّم عليها وعدم الاعتراف بها بعد ظهورها على حامل هذا اللقاح؛ مفعول سلبي على تمثلنا الجماعي للقاحات بصفة عامة، وجعل الكثيرين يمتنعون عن تنقيح أطفالهم ومواليدهم الجدد ضد “الحصبة”.

وفي مقابل الحضور القوي والمكثف للتواصل السلطوي في فترة كورونا، من خلال مشاهد المطاردة والصفع في الشوارع التي تابعناها جميعا، ودافع عليها بعض “المثقفين” يا حسرة؛ غاب التواصل بشكل كامل عن سلوك السلطات بعد نهاية فترة وباء كورونا، وتم تغليب المنطق المحافظ ذو الخلفية الأمنية، والذي يفضّل ترك الضرر يحصل مع تغطيته برداء من التجاهل والتكتم بدل إثارة “الفزع”.

ورغم أن صوت ناقوس الخطر دقّ بقوة أواخر العام 2023، حين ظهرت أولى حالات الإصابة والوفاة بسبب داء الحصبة، وتحديدا في منطقة سوس، استمرّ دسّ رأس نعامة السلطات في الرمال، لتتوالى النكبات في الشهور الأخيرة، عبر تزايد الوفيات وظهور أرقام مخيفة للمصابين داخل السجون…

وحسب منظمة الصحة العالمية، يبدأ فيروس “بوحمرون” حربه داخل جسم الإنسان بأعراض مثل سيلان الأنف، والسعال، واحمرار العينين وسيلان الدمع منهما، وظهور بقع بيضاء صغيرة على الخدين… ويمكن أن تصل مضاعفاته إلى العمى، والتهاب الدماغ (عدوى تسبّب تورم الدماغ ومن المحتمل أن تتلفه)، والإسهال الشديد والجفاف الناجم عنه، والتهابات الأذن، مشاكل التنفس الحادة بما فيها الالتهاب الرئوي.

ويبدي المرض شهية خاصة تجاه أرواح الأطفال دون سن الخامسة، وخاصة منهم الرضّع ممن لم يخضعوا بعد للتلقيح الخاص بهذا الفيروس. ورغم أنه يصيب البالغين أيضا، ويتسبب في وفاتهم، خاصة منهم الذين يفوق سنّهم 37 عاما، إلا أن القاسم المشترك بين هؤلاء يظل هو عدم الخضوع للتلقيح.

نحن اليوم على أبواب معركة وبائية جديدة، سترتبك فيها المدارس وتنتشر المخاوف ويتضرر الاقتصاد… والسبب الأول لكل ذلك هو ضعف أو غياب التواصل والتوعية.

لو أن الحكومة بادرت إلى إطلاق حملة تلقيح مكثفة بداية 2024، بعدما ظهر الفيروس في أواخر 2023، لما كنا اليوم أمام تهديد وبائي من هذا النوع.

عام “بوحمرون” مجيد و… تلقّحوا وتعاودوا


يونس مسكين | صحفي وباحث مغربي
اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل