غزّة تستحق غضباً حقيقيّاً

وائل قنديل22 مارس 2025
وائل قنديل

أيُّ سلطةٍ عربيّةٍ تخشى من تظاهراتٍ شعبيّةٍ طبيعيّةٍ، ليست مصنوعة في مطابخها الأمنية والسياسية، دعماً للشعب الفلسطيني بمواجهة العدوان الصهيوني الأميركي، هي متواطئة أو متورّطة في المخطّط الجاري تنفيذه. ولا يخاف من انتفاضاتٍ شعبيّةٍ لمنع جريمة تهجير الفلسطينيين من غزّة التي تحوّلت من مؤامرةٍ خفيّةٍ إلى مشروعٍ مُعلنٍ تتفاخر به قيادات الاحتلال وتتبناه واشنطن، إلا متورّطٌ مع الطرفيْن ومتوافق مع الجريمة، ولو ادّعى غير ذلك.

والحال كذلك، تصبح الوقفات الرمزية المصوّرة لعدد لا يتجاوز أصابع اليدين من المعروفين في مكانٍ مغلق لا يتغيّر نوعاً من التحايل على تفريغ تيارٍ هادرٍ من الغضب الشعبي ينتظر من يدعوه ويمتلك الجسارة للخروج به إلى الشارع بعيداً عن الإدارة الهندسيّة للتظاهرات المصنوعة بعلم الأنظمة وبدعوةٍ منها. تستحقّ فلسطين من الجماهير أن ترفع صوتها ضدّ المشاركة الرسمية في جريمة الإبادة من أجل التهجير. أما مسألة وقوف بضعة أفراد داخل فاترينة زجاجية بلافتاتٍ ليُقال بعدها، إنّ مصر، مثلاً، تظاهرت ضدّ العدوان، فهذا ممّا لا يليق بالواقفين أو بمصر، أو بأيّ دولة عربية أخرى تفعل الشيء نفسه.

ليست سفارات المعتدين معابد مقدّسة، حتى ترى الحكومات العربية الاقتراب منها جريمةً وتُنزل العقاب بكلّ من يحاول محاصرتها بالهتاف، ويطالب بطرد سفرائها، فالعالم كلّه يتظاهر ضدّ الجريمة في مسيراتٍ مليونيةٍ تستهدف سفارات الطرف المعتدي ومقارّ الحكومات والمؤسّسات والشركات الداعمة لجريمته، من دون أن يتعرّض المتظاهرون للقمع والسجن، ومن دون أن تشعر الحكومات بخطر السقوط تحت تأثير الهتاف. تشهد لندن وباريس وبرلين ومدريد، وحتى المدن الأميركية الكبرى، تظاهرات واحتجاجات شعبية واسعة ضدّ الجريمة الإسرائيلية، تنقلها القنوات الفضائية العربية في بثّ مباشر وبإعجاب شديد، لكن السلطات المتحكّمة في هذه الفضائيات لا تتسامح أبداً مع تظاهراتٍ مماثلةٍ لشعوبها.

بل إن تظاهرات المستعمرين، عائلات الأسرى الصهاينة، ممن يحتضنهم الإعلام العربي وكأنهم جوهر المسألة في الشرق الأوسط، ويراهم بعض المعلّقين حليفاً أو بالحدّ الأدنى داعماً لصمود الشعب الفلسطيني، باتت هذه التظاهرات، ومعها التحرّكات السياسية لمعارضي نتنياهو وحكومته تبدو كأنها الملجأ الأخير للدبلوماسية العربية الرسمية، لتضعنا أمام مقارنةٍ مُخجلةٍ بين قيمة الفلسطيني الحي والصهيوني الجثة عند ضمير العالم، وعند الرسميين والمحلّلين العرب كذلك، والذين لا يخجل بعضُهم من التنديد بوحشية نتنياهو التي تُعرّض حياة الطفل الإسرائيلي للخطر، وتُعرّض أسراه للموت قصفاً، فيما يقفز مؤشّر عداد الشهداء الفلسطينيين في غزّة بالمئات كلّ ساعة، على الهواء مباشرة، ذلك الهواء المُشبع بثرثرة التحذير من الأخطار التي تتهدّد أطفال الاحتلال، وتتحدّث بلسانٍ عربيٍّ فصيح عمّا تسميهم “المواطنين المدنيين الإسرائيليين” الذين يناضلون ضدّ نتنياهو واليمين الصهيوني المتطرّف، في اجترارٍ مملٍّ لأكذوبة “المستعمر المدني المهذب بمواجهة المستعمر العسكري المدجج بالسلاح”.

مرّة أخرى، لا يمكن الحديث عن مدنيين هناك في مجتمعٍ كاملٍ يحيا على عقيدة قتل الأغيار واستباحة دمائهم وممتلكاتهم وأرضهم، ذلك أنّ المستوطنين، المستعمرين الذين يطلبون وقف الحرب على غزّة حتى استعادة آخر أسير فقط ثم استئنافها، كانوا وستجدهم في مقدّمة قوافل الهجوم على منازل الفلسطينيين، أصحاب الأرض، وممتلكاتهم، بالإضافة إلى دور العبادة والمقدّسات، يهتفون مع حاخاماتٍ وقياداتٍ دينيةٍ وسياسية، بالهلاك للعرب في فلسطين وتستبيح قتلهم والاستيلاء على ممتلكاتهم.

وفي ذلك لا بأس من الإشارة مرّة أخرى إلى سخرية كاتبٍ إسرائيليٍّ، اسمه جلعاد غروسمان، من النخب المنافقة التي تزعم إنّ صعود التيار المتطرّف بقيادة الصهيوني بن غفير يتناقض مع توجّهات إسرائيل باعتبارها دولة احتلال، لكون تاريخ الاحتلال الصهيوني كلّه يؤكّد أنّ أفكار بن غفير هي العقيدة الثابتة لإسرائيل، حكومة ومستوطنين، التي من طريقها نفّذت مشروعها الإحلالي بطرد الفلسطينيين والاستيلاء على أرضهم، وها هي الآن، ومعها دونالد ترامب، تمدّ بصرها خارج حدود فلسطين، وتتأهّب لقضم مساحاتٍ إضافية في لبنان وسورية، وأبعد من ذلك، لأنّ “إسرائيل صغيرة جدّاً ويجب أن تتوسّع” كما قال ترامب وينفّذ الآن.


وائل قنديل | صحافي وكاتب مصري
اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل