كاينابريس – ماهر الملاخ(*)
بقدر ما شكّلت معركة طوفان الأقصى، في 7 أكتوبر (2023)، صدمة للصديق قبل العدوّ، أسقطت القناع عن وجه التناقض الصارخ بين اللغة والأخلاق المُدّعاة، من جهة، وبين المبرّرات والمصالح المُمارَسة، من جهة أخرى. وهو ما أثبت، بشكل غير مسبوق، أصالة أيّ فعل منتصر للحرية والعدل والكرامة. وما من فعلٍ اليوم، يمثّل ذلك الانتصار لتلك القيم، أكبر من المقاومة الفلسطينية ضدّ الكيان الصهيوني، ومن ورائه كلّ تحالفِ الاستعباد والظلم والاستكبار. ذاك التحالف الذي طالما امتهن اللغة ليعبث بمعانيها، ويقلب الحقائق، كما امتهن الأخلاق ليغطّي عورات جرائمه.
في لحظة ما من لحظات التاريخ، جرت رياح السياسة بما لا تشتهي سفن اللغة، فأصبحت كلمة “تطبيع” من أضداد كلمة “مقاومة”، وأضحت كلمة “مقاومة” مرادفاً لـ”الإرهاب”. مع أنّ عكس “المقاومة” في الأصل هو “الاستسلام”، وعكس “التطبيع” هو “الاصطناع”، بما يعني أنّ التطبيع، في حقيقة المعاني، قد يكون، لغوياً، مرادفاً للإرهاب. وهو عين ما أصبحنا نعيشه اليوم، بأشكال مختلفة. ولكن اللوم كلّه يُعزى إلى التفكيكي الفرنسي ميشيل فوكو، الذي أوحى، من دون قصد منه، إلى رجل السياسة بهذه الاستعارة، وذلك سنة 1978، حينما استخدم مصطلح “تطبيع” (Normalisation)، في كتابه الذي نشره سنة 1975: “الانضباط والمعاقبة” (Surveiller et punir)، ليصف “الطرائق التي تعمل بها علاقات السلطة لتوحيد السلوكيات والممارسات عبر المجتمعات، مما يجعل أشكالاً معينة من النظم الاجتماعية، تبدو طبيعيةً ولا مفرّ منها”. ذلك ما سعت لتحقيقه اتفاقية كامب ديفيد (1978)، التي توّجت باتفاقية “السلام” في السنة التالية. واحترازاً من أنّ يظلّ مُوقِّعه العربي مرجعاً، يتحكّم في تأويل المصطلح، الذي كان أحد روّاده الأساسيين، أزيح أنور السادات من مسرح السياسة والحياة. وتم استبداله بمن سينصاع لتأويل المصطلح، كما يريد صانعوه، فجيء بحسني مبارك، ثم جيء من بعده بمن سيبلغ بالتأويل إلى مستوى التطابق؛ عبد الفتاح السيسي. وهو ما حصل لمن سار على دربه في التطبيع؛ ياسر عرفات، بتوقيعه اتفاقية أوسلو، حينما أراد أن يستأثر بتأويلها، سنة 2004، فأزيح هو الآخر. وجيء بمحمود عباس، ليقوم بوظيفة مبارك ذاتها. وقريباً سيأتي من يوازي، فلسطينياً، وظيفة السيسي في تنفيذ المرحلة الثالثة والنهائية من التأويل. وذلك مصير كلّ من يوقّع بالأحرف الأولى على نهاية مبرّر وجوده، ثم يحاول الانقلاب على المعنى اللغوي، الذي سلّم به أول مرّة. وهو ما تسير عليه علاقة الأردن بإسرائيل، ومن يسير الآن على نهجها ضمن الاتفاقيات الإبراهيمية.
وعلى جسر “كامب ديفيد” و”أوسلو” و”وادي عربة”، وغيرها، عملت الولايات المتّحدة على تدشين عهد جديد، بمشروع توحيد سلوك وممارسات بقية الأنظمة العربية، لتجعل تنفيذ المشروع الصهيوني في المجتمعات العربية، تبدو طبيعية ولا مفر منها. ومع العودة إلى إشكال انزياح مصطلح “التطبيع” عن معناه الأصلي، فإنّ المُدقّق اللساني، يدرك أنّ ذلك المُصطلح ما انزاح إلا لكي يحقّق ذاته في نهاية المطاف، بشكل أقوى وأشرس، وليصبح مفاده: إنّ “تطبيع المقاومة، لا يكون إلا بالوقوف ضدّ اصطناع السلام”. وفي ذلك يكمن مكر اللغة: فكلما حاول رجل السياسة أن يحتال عليها، إلا ارتدّت عليه بأشدّ ما كانت من قبل، انتصاراً لأصالة المعنى، وضدّاً على هجانة الانزياح، وهو ما جسّدته معركة طوفان الأقصى في 7 أكتوبر (2023). فقد خرج رجال من تحت الأنفاق ليعيدوا تثبيت التأويل الأصيل للعلاقة الطبيعية مع المغتصب المُحتّل، على الساحة نفسها (غزّة) التي كان يُراد لها أن تكون عبرةً لمن يقف في وجه المُعجَم الصهيوني، فإذا بها تنتصب شبحاً ينسف دوال ومدلولات الكيان الإسرائيلي، بل ينذر بقرب نهاية المشروع التأويلي الليبرالي، الذي فرضه على العالم كلّه حلفاءُ الأطلسي، عشية انتصارهم في حربهم ضدّ دول المحور، سنة 1945.
منذ القِدم ظلّت العلاقة متوتّرة بين الأخلاق والسياسة، لما تفرضه الأولى من قيود، وما تنزع له الثانية من جموح
لماذا ورّط هؤلاء الحلفاء أنفسهم في منظومة من القوانين، يعلمون مسبقاً أنّها سوف تحرجهم؟… سؤال نجد جوابه بالرجوع إلى تاريخ الفلسفة، فمنذ القِدم ظلّت العلاقة متوتّرة بين الأخلاق والسياسة، لما تفرضه الأولى من قيود، وما تنزع له الثانية من جموح. غير أنّ ذلك التوتّر، كان أشدّ في الفكر الأوروبي، ففي الوقت الذي نجد فيه أفلاطون، في جمهوريته، يشترط أن يحكم الفلاسفة، ونجد ميكيافيلي، في أميره، يشترط في السياسي أن تكون له القدرة على تجاوز الأخلاق. نرى في المقابل، كلاً من الفارابي، في مدينته، وطه عبد الرحمن، في ثغريته، متفقين على أولوية المبادئ على المصلحة، بل إنّهما قد عملا على فكّ الاشتباك بين الطرفيْن، باعتبار أنّ غاية الأخلاق تحقيق المصلحة الشرعية، كاشفين عن قانون اجتماعي، لا يملك حلفاء الأطلسي تجاوزه، وهو أنّ “الأخلاق تمثّل شرعية التأسيس والتدبير”، وهو ما يفسّر وقوع أولئك الحلفاء، باستمرار، في تناقض نكد، بين تثبيت الشرعية وتحقيق المصلحة المخالفة للأخلاق. وتأثّراً بغلبة المدرسة التوفيقية في الفكر الغربي، اليوم، برعاية فلسفة هابرماس، نجد الولايات المتّحدة، مثلاً، “تعاني” الأمرّيْن وهي تستخدم حقّ الرفض لأكثر من 84 مرة خلال 78 سنة ضدّ قوانين أخلاقية، لأجل تحقيق مصالحها اللاأخلاقية. كما تضطر لكي تغزو العراق، طمعاً في بتروله وموقعه الاستراتيجي، إلى أن تتورّط في الكذب على العالم كلّه بتسويق كذبة “أسلحة الدمار الشامل”، وها هي تضطر أيضاً، بشكل مزمن، إلى الدفاع عن تحدّي إسرائيل لكلّ القرارات والمواثيق، التي تتعارض مع ممارستها في احتلال فلسطين. ولذلك، لم يكن بالإمكان تأسيس الحلفاء للنظام العالمي، بعد حربهم ضدّ المحور، إلا بالاعتماد على مُسوّغ أخلاقي، يقودون به أنظمة العالم وشعوبه. ومع أنّ هؤلاء الحلفاء، كانوا هم أنفسهم، من عاث في الأرض استعماراً واغتصاباً للشعوب، أكثر من ثلاثة قرون، إلا أنّهم قد أقرّوا نظاماً يتعارض تماماً مع ممارساتهم السابقة، كما يتعارض، اليوم، مع مواقفهم اللاحقة.
لقد اعتمدت تلك المواثيق الدولية، على ما يُسمى “مبادئ ويلسون الأربعة عشر”، التي ترجع إلى خطاب الرئيس الأميركي وودرو ويلسون، أمام الكونغرس في عام 1918، وكان من ضمن ما شُرعن بناءً عليها، عدّة مواثيق تتعلق بـ”حقّ الشعوب في مقاومة الاحتلال”، لا بأس أنّ نُذكّر بأربعة منها؛ إقرار حقّ الشعوب في تقرير المصير، عبر ميثاق الأمم المتحدة (1945)، وذلك، في مقدمته، وفي المادة الأولى. يعتبر هذا الحقّ أساسياً للعلاقات الدولية، ويقرّ مدلوله بحقّ الشعوب في المقاومة ضدّ الاحتلال، حينما تُحرَم حقَّها في تقرير مصيرها. أيضاً، إقرار حقّ الشعوب في تحديد وضعها السياسي وتحقيق تنميتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وذلك في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966)، في مادته الأولى. وإقرار حقّ الشعوب في مقاومة ومكافحة الاستعمار والاحتلال والهيمنة الأجنبية، وذلك في إعلان مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودّية والتعاون بين الدول، وفقاً لميثاق الأمم المتحدة (1970). أخيراً، إقرار الحماية للمدنيين والمقاتلين في النزاعات المسلحة، بما في ذلك النزاعات ذات الطابع التحريري ضدّ الاحتلال الأجنبي، وتأكيد حقّ الشعوب في الكفاح من أجل تقرير المصير، وذلك في البروتوكولات الإضافية لاتفاقيات جنيف (1977).
تعاضد مكر اللغة مع انتقام الأخلاق يثبت أصالة المقاومة، التي كشفت هجانة الكيان وهمجيته، بانحراف انزياحه اللغوي، وصفاقة تحدّيه القانوني
من مجموع تلك النصوص، اكتسبت حركات التحرير الوطني، بعد حرب الحلفاء مع المحور، شرعيتها القانونية، ومن ضمنها المقاومة الفلسطينية، ومن خلفها كلّ أشكال الدعم والإسناد. غير أنّ مسيرة تطبيق تلك القوانين، كانت شاهدة على ذلك التناقض بين النصوص، وسلوك تلك القوى المتحكّمة في النظام العالمي نفسها. فقد أصبح من الواضح للجميع، أنّ المشروع الصهيوني في حدّ ذاته، يقع في عمق التناقض مع تلك القيم، التي أُعلنت عشية تأسيس الأمم المتحدة في أكتوبر/ تشرين الأول 1945. ولا أدلّ على ذلك من مواقف الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، وقرارات مفوضية حقوق الإنسان، ومسار محاكمة الكيان الصهيوني في محكمة لاهاي، التي تسير، اليوم، عكس أهواء حلفاء الأطلسي، الذين لا يملكون إلا التورّط في الوقوف ضدّها، وشلّ أجهزتها، والذين يستنفدون رصيدهم “الأخلاقي”، لفسح المجال أمام قوى دولية أخرى، مثل الصين وروسيا وجنوب أفريقيا، وغيرها من البلدان، لتبدو أمام العالم بديلاً أخلاقياً محتملاً من الولايات المتّحدة. إنّه انتقام الأخلاق من السياسة، إذ يكشف عن حقيقة البناء الأخلاقي لذلك النظام العالمي، لأنّه يندرج ضمن احتيال السياسة على الأخلاق، لاكتساب الشرعية المُزيّفة.
ختاماً، إنّ تعاضد مكر اللغة مع انتقام الأخلاق يثبت، اليوم، أصالة المقاومة بأصالة تأويلها، ومشروعية مبادئها. تلكم المقاومة، التي كشفت في “طوفان الأقصى”، أمام كلّ العالم، هجانة هذا الكيان وهمجيته، بانحراف انزياحه اللغوي، وصفاقة تحدّيه القانوني، عبر استمراره في لعب دور الضحية، وممارسته الإبادة الجماعية ضدّ الشعب الفلسطيني. وهكذا، تكون المقاومة قد وضعت النظام العالمي للحلفاء، بعد 78 سنة من تأسيسه، أمام الاختبار الأكبر، لحقيقة وفاء هذا النظام، للمبادئ التي بنى عليها مُبرّره الأخلاقي لريادة العالم، أمام شعوبه أولاً، قبل بقية شعوب العالم. وهو ما يفسّر هذا الطوفان من الاحتجاج في العالم الغربي، الذي لم يشهد مثيلاً له، منذ حرب فيتنام.
لقد أصبح أمام نظام الحلفاء، إما التفكّك والتحلل، لفسح المجال أمام نظام عالمي جديد، وهذا هو المُرجّح الغالب، وإما العودة إلى الانسجام والتوافق مع مبادئه، قبل أن يصبح المشروع الصهيوني ثقباً أسود، سيبتلع قريباً نظام الحلفاء برمته.
(*) إعلامي وكاتب وباحث مغربي في السيميائيات