
في غفلة منا جميعا، خرجت قرية صغيرة من رحم الأطلس، لتقول ما عجز عن قوله ما تبقى من إعلام المركز ومؤسساته وأحزابه ونخبه: نحن هنا، نحن مغاربة، لكنكم نسيتمونا.
آيت بوكماز، هذه القرية الجبلية النائية، لم تطلب معجزة، ولم ترفع رايات انفعال أو شعارات استعداء، بل مشت حافية في طرق معتمة نحو الدولة، وما مشت الدولة نحو نفسها.
إنها صرخة الجبل التي جاءت إلينا لنقول: نحن المغرب الذي نسيتموه.
أن تسير نساء آيت بوكماز العجائز تحت شمس يوليوز، وأن يصحبهن الرجال والأطفال والمنتخبون والمعلمين، في مسيرة تمتد على أميال من الغضب الصامت والأمل المؤجل، فذلك ليس “احتجاجا” بالمعنى السياسي المألوف، بل هو طقس من طقوس استعادة الكرامة.
طقس يعيد ترتيب العلاقة بين الوطن وأبنائه، بين المغرب العميق والمغرب “الذي يظهر في التلفزيون”.
لم تبدأ الحكاية بخطاب سياسي ولا بندوة حقوقية ولا بتقرير أممي، بل بدأت بخطوة واحدة.. خطاها رجل من آيت بوكماز وهو يشد عباءته على كتفه ويمضي، ثم لحقت به امرأة، فثالث، فعشرات… ثم صاروا مائة.
لقد نزفت قرية آيت بوكماز من خاصرتها، لا لتنتقم، بل لتدلّنا على الجرح. صدحت بالصوت الخافت الممتلئ بالصدق: لا نطلب صدقات، نطلب مدرسة، لا نبحث عن امتيازات، بل عن طبيب، لا نريد قاعة مؤتمرات، بل شبكة هاتف نبلغ بها الاستغاثة.
صرخة آيت بوكماز كانت أنيقة في فقرها، عظيمة في سلميتها، فصيحة في صمتها، موجعة في هدوئها. كانت صفعة حنونة على وجه مغرب المؤسسات العقيمة،
مغرب الروتين الإداري،
مغرب الوعود المعقودة في المكاتب المكيفة،
مغرب اللوحات الجدارية والقمصان البيضاء في مناسبات التنمية القروية التي لا تصل أبدا.
صباح الأربعاء 9 يوليوز، غادرت القافلة قرية تبانت، قلب آيت بوكماز، في مسيرة سلمية نحو مقر عمالة أزيلال.
لم يحملوا الرايات الحزبية، ولا لافتات المؤامرة، ولا صراخات الثورة، بل حملوا وجوههم المتعبة ومطالبهم البسيطة جدا… بسيطة حدَ الألم.
سار الناس في صمت الجبل، في ممرات ضيقة بين الصخور والأودية، توقفوا في آيت امحمد، قضوا الليل تحت السماء، ثم أكملوا الطريق في الصباح نحو العمالة.
بين خطوة وأخرى، كانوا يرددون نفس العبارة: نحن لسنا ضد الدولة، نحن نأتي إليها. نحن جزء منها. نحن أبناؤها الذين أهملتهم طويلا.
لقد جاءت هذه المسيرة لتُحرج كل من يدّعي تمثيل هذا الشعب، وكل من خذله. جاءت لتذكّرنا أن ملتمس قانون الجبل الذي نام في الأدراج، ليس ترفًا تشريعيا، بل مطلب حياة أو موت.
في مقر العمالة، جلس ممثلو ساكنة آيت بوكماز حول طاولة الحوار، وقالوا ما كان يجب أن يُقال منذ سنين: نريد إصلاح الطرق، نريد ألا تموت نساؤنا الحوامل قبل أن يبلغن أقرب مستشفى، نريد أن نُعلّم أبناءنا دون أن يناموا في العراء. نريد فقط هاتفًا يُشعِرنا بوجود العالم من حولنا، وشبكة إنترنت تربطنا بما تبقى من التعليم والفرص.
هل هذا كثير؟
أن تكتشف، بعد كل هذا الزمن، أن هناك تجمعات بشرية كاملة في المغرب لا تطالب بشبكات الجيل الخامس أو بتطبيقات الذكاء الاصطناعي، بل بإشارة تغطية هاتفية… أمر يهزّ كل من يملك ذرة حس وطني.
أن نكتشف أن سكان هذه البلاد يسيرون كيلومترات ليطالبوا بطبيب يُجري فحصا أوليا، أو بملعب صغير للأطفال، أو سدودا تلية لتحميهم من الفيضان، فذلك يعني أننا لم نكن نراهم، وأننا نعيش في مغربين لا صلة بينهما ولا “فاصلة”.
لقد حوّلنا ساكنة الجبال إلى هواية موسمية: نركب السيارات رباعية الدفع، ونحمل معنا أكياس الدقيق والبطاطين، ونوزعها كأننا في مهرجان خيري، نلتقط صورا فوق بساط الثلوج ونعود.
لقد جعلنا الجبل الفقير ديكورا سياحيا، وجعلنا أهله كائنات فلكلورية تصلح للروبرتاجات التلفزية، ونشرات المنّ بالصدقات.
لكن هذه المرة، الجبل هو من جاء إلينا. لم يطلب صدقة، بل احترم نفسه واحترمنا. جاء ليعطينا درسا.
جاء ليرينا ماذا تعني المواطنة عندما تفقد كل شيء وتحتفظ فقط بالأمل.
جاء ليذكّرنا بما نسيناه: هذا الوطن اسمه المغرب، وليس فقط الدار البيضاء والرباط ومراكش.
جاء ليصفع هذا المركز الجشع الذي امتص ثروات الأطراف وراكمها في مشاريع مهيبة في العواصم، بينما يطلب سكان الجبل وسيلة نقل مدرسية لأبنائهم وتيسير رخص البناء كي لا يعيشوا في بيوت الطين إلى الأبد.
وأبلغ ما في القصة هو أن يسير رئيس الجماعة بنفسه وسط الناس، ليس بصفته مسؤولا، بل ابنا من أبناء المنطقة.
خالد تيكوكين، هذا السياسي الأنيق النظيف الذي جاء إلينا قبل سنوات برلمانيا فتجاهلناه، لم ينتظر الضوء الأخضر من أحد، ولم يختبئ في بيته، بل اختار أن يحمل همّ السكان على كتفيه ويسير معهم. وهذه ليست بطولة، بل الحدّ الأدنى من معنى أن تكون ممثلا حقيقيا للناس.
وفي المقابل، اختار المركز الصمت، واختار ناطقه الرسمي أن “يمرر” الموضوع في جملة عابرة عن ضعف التغطية. ولا أحد من المسؤولين المركزيين طرح السؤال الحقيقي: لماذا يحتاج مغربي إلى السير على قدميه ثلاثين كيلومترا كي يُسمع صوته؟
الجواب بسيط: لأن كل الوسائط انكسرت.
الأحزاب تقف عند باب الرباط،
والنقابات لا تسمع إلا صدى مكاتبها،
والبرلمان صوته محجوز لحسابات أخرى،
والإعلام مفتون بين جزرة الدعم وعصا سحب البطائق وحجب المنابر.
لذلك قررت آيت بوكماز أن تقول كلمتها بأقدامها، وتكتب رسالتها بعرق الجبين.
“كلّنا آيت بوكماز” ليست مجرّد شعار تضامن، بل صرخة لإعادة تعريف معنى الوطنية.
نعم، كلنا آيت بوكماز، لأننا كلنا حملنا يوما غضبنا في قلوبنا دون أن نعرف كيف نحوله إلى مشي، وإلى تَقدُّم.
كلنا آيت بوكماز، لأن هذه القرية علّمتنا أبجدية النضال من جديد، وعلّمت الحكومة معنى الحوار، وذكّرت العامل بأنه خادم الدولة وليس سيّد الجبل، وذكّرت الإعلام الرسمي وشبه الرسمي بأنه أخرس لا يرى حتى حين يُسلط النور على الحدث.
لكن أعظم ما فعلته آيت بوكماز، أنها لم تقف عند الغضب، بل فتحت باب الأمل، وأجبرت الدولة على أن تنصت. نعم، أن تنصت. أجبرت الدولة على أن تفتح دفترها وتكتب التزامات مؤطرة زمنيا، في زمن طغت فيه الارتجالية واللامبالاة.
هذه ليست مجرّد صرخة قرية، بل درسٌ وطنيٌ جامع.
درسٌ في المسؤولية.
درسٌ في الإمكان.
درسٌ في أن المغربي حين يُحترم، لا يرفع الحجر، بل يرفع صوته. حين يُنصت له، لا يكسر النوافذ بل يفتحها.
أن تكون وطنيا ليس أن تغني في مهرجان مدعوم من المال العام، ولا أن تلوّح بالعلم في مباريات الكرة فقط، بل أن تمشي من الجبل إلى العاصمة كي تقول للدولة: أنا ابنك… فلا تقتليني بالتجاهل.
آيت بوكماز اليوم، أكثر من مجرّد اسم قرية،
بل اسم لوطن حقيقي يسير على قدميه.
وإذا لم نسمعه اليوم، فسوف يعود… لكن ليس دائما بالمشي.
أيتها السلطة،
يا من تسكنون سرايا الرباط ومكاتب الجهات ومجالس التنمية: هذه ليست مظاهرة، بل مرآة. فإن لم تنظروا إليها، فأنتم من تخافون الحقيقة، وتخونون الأمانة.
وأنت يا خالد تيكوكين، رئيس الجماعة الذي خرج يسير مع أهله لا ليؤجج، بل ليحتوي، لا ليُمزايد، بل ليُمثل: كن على يقين أن أمثالك هم ما تبقى من رصيد الأمل في هذا الوطن.
وإن كنت قد صرت هدفا لهجومات المنتفعين وتجار التضليل والتدليس، فاعلم أن الرماح لا تُرمى إلا على الشجرة المثمرة… وأن صراخهم لا يعني سوى أمر واحد: أنك كشفت عورة منظومة بأكملها اعتادت أن ترى في المواطن مجرد رقم انتخابي، وفي المنتخب الصادق خطرا على توازنها القائم على الريع والتواطؤ.
أيتها الدولة، أيها المسؤول، أيتها النخب:
إن كنتم تبحثون عن المصداقية، فاذهبوا إلى آيت بوكماز.
هناك، بين صخور الجبل، وعرق المشي، ودموع الأمل، تُكتب الوطنية من جديد.