كاينابريس – أحمد الشيخ(*)
كانتْ تلك الفتاةُ من غزّة تصرخ من الألم، وهو يحاول تضميدَ جراحها، وظلّت مع ذلك تسأله: “يا عمو قل لي هذا حلم وِلَا حقيقة”، وكان الطبيب عاجزًا عن الجواب يحاول أن يهدّئها، ويقول: “عمو خلينا نوقف النزيف أولًا”.
لا أدري ما اسمك، يا صغيرتي، فدعيني أسمِّك “فاطمة” نسبة إلى أشرف نساء العالمين، بنت أعظم خلْق الله، حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم.
أنا أيضًا، يا فاطمة، لا أريد أن أجيب، أَوَ تعلمين لماذا يا رُوح الروح- وكل بنات غزة هكذا والله- لأنني أخاف عليك من نفسي هذه الخائرة أولًا، ومن عواقب الوعي المبكّر الذي بلغْتِه تحت القصف والبارود.
يا فاطمة! دعينا نظل في مرابع الحُلم، ولو كان كابوسًا، فهو أرحم من أن تدركي يا حبيبتي الحقيقة، فجراح الوعي تكون أحيانًا أعمقَ من جراح الكوابيس وأوجع.
يا فاطمة! لن نذهبَ إلى النبي يوسف في سجنه ليُؤوِّل لنا الحُلم، ونعْبُر كابوسَنا الرهيب، ولو فعلنا يا بُنيتي فلن تجدي حولك إلا أضغاث أُمّة صلبها جلادوها من وراء البحار، فها هي الطير تأكل من رؤوسنا جميعًا، إلا أهل غزّة فإنهم يسقون الدنيا كرامةً من كؤوس جهادهم.
لن نغادر الحلم
يا فاطمة، إني أخاف عليك! لن نغادر الحُلم ولو كان كابوسًا، ولو فعلنا- يا صغيرتي- إلى أين نذهب؟ سيطلبون منك عند الحدود جواز سفر، وأنت لم تستخرجيه بعدُ، ولو كنت استخرجتِه فلن يصدقوك إن قلتِ لهم: “إنه كان محفوظًا مع أمي التي خرّ سقف بيتنا عليها مع بقية إخواني وأخواتي”.
وحتى لو كانت وثيقة السفر بحوزتنا، يا فاطمة، فسيقولون لك: أين “الفيزا”؟ فمَن هو مثلك محرّمة عليه بلاد العرب، حلال لغيره ولو كانوا ممن هدموا الدار فوق رؤوسنا، عصيّةٌ عليه وحده حدودها، مشاع لغيره من بيض البشرة وزرق العيون!
لا تسألي، يا فاطمة، تأويلًا من يوسف حتى يأتي زمن يُستبدَل فيه الغثاء بمن يجاهدون ويغاثون
آهِ يا فاطمة! لو كانت أمك على قيد الحياة لقصت عليك بعض قصص آلامنا على حدود العرب وعلى دروبهم! كم من مرة يتعين على الواحد منا أن ينزِل متاعه للتفتيش ويُحَمِله، ولن يمرّ إلا من بعد إتاوة يدفعها!
نحن، يا فاطمة، مأخوذون عند بني جلدتنا بالشبهة دائمًا، يصفوننا أحيانًا بأننا مُقَطَّعون لا تُؤْمَن جوانبنا، فنُسْأَلُ ونُسْتَجْوب ونُرَدُّ على أعقابنا، فكم من أسرة منا جابت مطارات العالم فلم تجد بابًا عربيًا تدخل منه، فاستقبلتها “ديار الحرب” بعد أن رفضتها “ديار الإسلام”.
سيعلم حرّاس البوابات غدًا، يا فاطمة، مَنْ هم الذين تقطعت بهم السبل في عالم لا يرحم إلا الأقوياء الأحرار.
هل أخبرك، يا فاطمة، عن مئات الأسر ممن لجؤُوا إلى بلد عربي ثم أُخْرِجوا منه، قبل سنوات قليلة، ولم يستقبلهم بلد عربي، وفتحت البرازيل في الجانب الآخر من العالم لهم أبوابها، وكانت من بينهم عجوز، تكاد تخنق المئة، لتدفن هناك في موطن اللجوء الجديد؟!
يا فاطمة! إني أخاف عليك، لن نبرح الحُلم ولو كان كابوسًا “يا شيبة أبوي”، كما كان جَدي يناديني وأنا رُوح روحه في مثل سنك اليوم.
دنيا الحلم
سنظل في دنيا الحلم، يا صغيرتي! أَوَ تدرين ما سوف ترين إن خرجنا إلى دنيا الحقيقة؟ شوارع نَغِلة تمتلئ حتى الثمالة بأجسام لا تشعر بكينونتها ولا وزنها، يحط على رؤوسها الطير ولا تهش باليد لتستنفره.
ينتهرهم الراعي ويهوش عليهم كلبه فيسوقهم إلى الحظيرة وراء جرس المرياع، )هو الكبش ذو الجرس يقود النعاج وراء حمار يركبه الراعي).
يا فاطمة! لو رأيتِ لرأيتِ جموعًا تموج تحسبينهم من بعيد جحافل تنفر إلى ساح الوغى، فإذا اقتربت رأيت غثاءَ سيلٍ تتناثر فقاعاته مثل فراش مبثوث.
لا تغادري يا بُنيتي، فلا يَنْبَؤُكِ مثلي، وأنا واحد منهم فقاعة لا وزن لها ولا قيمة.
يا فاطمة، إني أخاف عليك! الكابوس الذي تبحثين عن تأويل له أرحم مما ستجدينه في بلدان مَن كنا نظن أنهم منا ونحن منهم، وما يضمره كبراؤهم تجاه غزة ذلك أعظم وأحط، وهم يستعجلون فناء غزة ومُجاهديها.
طلبت غزة في محنتها قليلًا من زاد وماء، فجاءتها منهم أكفان وشيء من متاع قليل، وهذه لم تدخل إلا من بعد إذن من سادتهم في الكيان.
أتدرين، يا صغيرتي، ما قيمة كل من يرتقون شهداء من أطفال غزة ونسائها وشيوخها، أو يجرحون مثلك في نظر هذا الغثاء؟ فيلم قصير على المنصات كالذي شاهدتُك فيه تسألين عن الحلم، وتحاولين عبوره إلى الحقيقة.
نتبادله ونتصنع الحزن، ونشيد بصمود أهل غزة، ونكتب كما أفعل الآن، وندعو وكفى، بانتظار فيلم آخر! وحتى لو كان هذا الفيلم الآخر لحظةَ هدم “الأقصى” لا قدر الله، سيتنظرون فيلمًا آخر يصور ما هو أعظم وأكثر هولًا.
لا تسألي، يا فاطمة، تأويلًا من يوسف حتى يأتي زمن يُستبدَل فيه الغثاء بمن يجاهدون ويغاثون.
(*) إعلامي وكاتب فلسطيني، رئيس تحرير قناة الجزيرة سابقا.