كاينابريس – د. خليل العناني(*)
لا يتعرّض السياسيون عادةً لمحاولات اغتيال، خاصة في البلدان الديمقراطيّة التي يُفترض أن تُحل خلافاتها وصراعاتها السياسية بوسائل سلمية، أبرزها صندوق الاقتراع. صحيح أنّ الولايات المتحدة تمتلك سجلًا مشهودًا من حالات الاغتيال، خاصة للرؤساء والزعماء، بدءًا من اغتيال الرئيس السادس عشر أبراهام لينكولن في 14 أبريل/نيسان 1865، وانتهاء باغتيال الرئيس الخامس والثلاثين جون إف كينيدي في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1963، ناهيك عن محاولات الاغتيال الفاشلة، وآخرها محاولة اغتيال الرئيس السابق رونالد ريغان أواخر مارس/آذار 1981.
لكن ما حدث مع الرئيس السابق دونالد ترامب يوم السبت الماضي 13 يوليو/تموز، سيظل يمثل لحظة فارقة في تاريخه، وتاريخ الولايات المتحدة، وهو يعكس الكثير عن حال البلاد خلال الأعوام الأخيرة من احتقان وتوتر وصل ذروته في تلك الحادثة.
ما جرى مع ترامب ليس مجرد محاولة اغتيال أخرى فاشلة على غرار عشرات الحالات الأخرى التي وقعت لرؤساء أميركيين أو نوابهم – بمن في ذلك ترامب نفسه الذي تعرّض لعدة محاولات اغتيال أثناء فترته الرئاسية الأولى وأجهضت قبل تنفيذها – بل إنه تجسيد وانعكاس للواقع السياسي في أميركا خلال العقدين الأخيرين، والذي من المتوقع أن يتفاقم خلال السنوات القادمة. وهو واقعٌ يمكن تلخيصه في ثلاث عبارات أساسية: استقطاب سياسي، وانقسام أيديولوجي، وإفلاس نخبوي.
- أما الاستقطاب السياسي، فتجسد في الخلافات العميقة بين الحزبين: الديمقراطي والجمهوري سواء على مستوى السياسات أو الخطاب.
- فعلى مستوى السياسات، تراجع مستوى التوافق والتعاون بين الطرفين في الكونغرس الأميركي حول مصالح الأمة، مما كاد أن يغلق الحكومة الفدرالية ويعلن إفلاسها أكثر من مرة خلال العقد الماضي؛ نتيجة للعناد والتشدد.
- أما على مستوى الخطاب، فقد انحدر إلى حالة بائسة من التلاسن والتحريض وشيطنة كل طرف للآخر. لذلك، ليس غريبًا أن تتوجه سهام بعض الجمهوريين نحو بايدن وتحمّله المسؤولية عن محاولة اغتيال ترامب، باعتباره المحرّض الأساسي عليها بسبب خطابه الذي شيطن ترامب واعتبره تهديدًا للأمة والديمقراطية الأميركية.
في الوقت نفسه، لم يتوقف ترامب عن استخدام لغة تحريضية وصلت حدّ التهديد بـ”حمام دم” إذا خسر الانتخابات المقبلة، وتوفير غطاء للكثير من أحداث العنف خلال فترة رئاسته، وأبرزها اقتحام الكونغرس الأميركي في السادس من يناير/كانون الثاني 2021.
- أما الانقسام الأيديولوجي، فقد أصبح الملمح الأبرز للسياسة الأميركية خلال العقدين الأخيرين، خاصة منذ وصول ترامب للسلطة في عام 2016، الذي أغرق البلاد في سياسات الهُوية بشكل غير مسبوق. فقد انقسم المجتمع وفق خطوط أفقية ورأسية اختصرها شعار (جعل أميركا عظمى مرة أخرى) والذي دشن انبثاق تيار جديد داخل الحزب الجمهوري هو تيار “ماغا” (MAGA) أو اليمين المتشدد، الذي ينظر إلى قضايا الحكم والإدارة من منظور أيديولوجي وعقائدي وهوياتي، وذلك بدءًا من قضية التغير المناخي إلى حمل السلاح، مرورًا بالإجهاض، وقضايا الحدود والمهاجرين واللاجئين.
في المقابل، صعد تيار اليسار التقدمي داخل الحزب الديمقراطي خلال فترة الرئيس السابق باراك أوباما، الذي تبنى أجندة رآها الجمهوريون والمحافظون خطرًا على قيمهم مثل حقوق الشواذ، والمتحولين جنسيًا، وحق الإجهاض .. إلخ. أي أن أميركا شهدت عمليًا تراجع الوسط السياسي لصالح الانزياح في اتجاهين متشددين، يمينًا ويسارًا.
أما الإفلاس النخبوي، فتجسد حرفيًا في مشهد المناظرة الرئاسية بين بايدن وترامب، التي عكست حالة القحط السياسي والعفن الحزبي في أميركا. فمن بين أكثر من 340 مليون نسمة، بدت الأمة الأميركية عاجزة عن تقديم مرشحين أكْفاء للسلطة. بايدن وترامب هما أكبر المرشحين سنًا في تاريخ الولايات المتحدة، وهما الأقل لياقة سواء من الناحية الصحية والذهنية بالنسبة لبايدن، أو من الناحية السياسية والأخلاقية بالنسبة لترامب.
هذا يعيد التأكيد على مدى سيطرة النخب الحزبية ولوبيات المال والأعمال والسلاح على عملية اختيار المرشحين، بغض النظر عن رغبة الشعب الأميركي.
إذا كانت لدى ترامب حظوظ وافرة في الفوز بالرئاسة في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل قبل تعرضه لمحاولة الاغتيال، فقد تعززت تلك الحظوظ بشكل كبير بعدها، وتراجعت في المقابل فرص بايدن والحزب الديمقراطي في الفوز.
فقد عززت محاولة الاغتيال من صورة “الضحية” التي يعشقها ترامب، ووضع نفسه في إطارها طيلة السنوات الثماني الماضية، فقد وصف نفسه بأنه ضحية “الدولة العميقة”، وضحية بايدن وحزبه، وضحية الإعلام الليبرالي.. إلخ.
كما أظهرته هذه الحادثة أمام أنصاره وغيرهم كبطل يتحدى نواميس الكون، ويتحدى باسمهم بايدن والمؤسسات الأميركية والإعلام، بل إنه مستعد للتضحية بحياته من أجل تحقيق مطالبهم وأجندتهم، وهو الآن بالنسبة إليهم أقرب إلى أسطورة يحميها الربّ من “الأعداء”. ستصبح صورته بعد محاولة الاغتيال، رافعًا قبضته اليمنى في الهواء، وخده الأيمن ملوث بالدماء، بمثابة “أيقونة” على روح المثابرة والتحدي.
وستزيد هذه المحاولة كذلك من حجم الدعم السياسي والمالي والإعلامي لصالح ترامب، وقد رأينا هذا يحدث بالفعل، حيث أعلن الملياردير “إيلون ماسك” مالك منصة “إكس” عن دعمه السياسي له بعد خمس ساعات فقط من محاولة الاغتيال، وتعهّد بدعم حملته الانتخابية بحوالي 45 مليون دولار شهريًا حتى نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
في كل الأحوال، فإنّ ما جرى عصر السبت الماضي في مدينة “بتلر” بولاية بنسلفانيا عندما حاول الشاب توماس كروكس اغتيال ترامب، يمثل نقطة فارقة في مسيرة ترامب السياسية، ويضعها ومعها أميركا أمام لحظة تاريخية جديدة سوف ترسم مستقبل البلاد لسنوات وربما لعقود قادمة.
(*) كاتب وباحث مصري في العلوم السياسية