لماذا فشلت ثورة 1857 ضد البريطانيين في شبه القارة الهندية؟ 1/6

أحمد زيدان29 أبريل 2025
أحمد زيدان

التاريخ كنز لا تنضب خزائنه، ولا تنتهي دروسه، وعظاته وعبره، ولذا فالعودة إلى الماضي، هو في الحقيقة الذهاب إلى المستقبل، فبفهم دروسه نتجنب مطبّات وأخطاء، ونستقي دروساً وعبراً، تحدونا إلى النجاح والانتصار. إن أفضل الطرق لاستشراف المستقبل هو النظر إلى الخلف، ومع الذكرى السنوية لثورة 1857 التي تصادف الأول من مايو/‏ أيار من كل عام، يعود الخبراء والباحثون المختصون إليها، لكونها أولى الثورات الآسيوية، الساعية إلى اقتلاع مستعمر، جثم طويلاً على صدر المنطقة، تحت لافتة الشركة الهندية الشرقية، والتي أسست لاحقاً جيشاً خاصاً بها، وصل تعداده إلى أكثر من 260 ألف مقاتل، ومن كافة العرقيات والأديان، وذلك لحماية مصالحها الاقتصادية، المبنية على مصّ خيرات المنطقة من على ضفاف نهر الغانج الهندي، ونهر كابول في باكستان وأفغانستان، وعصْرها على ضفاف نهر التايمز.

كانت الشركة الهندية الشرقية، يوماً بعد يوم تقتات على سلطات الإمبراطورية المغولية، إلى أن جرّدتها من كل صلاحياتها ومسؤولياتها، ليصل الأمر بالإمبراطور بهادور شاه ظفر الثاني، والذي وقعت الثورة في عهده، إلى أن يستجدي نائب الملكة تشارلز ميتكالف ومساعديه لضمان مجرد حياة كريمة لمن بعده، ومع هذا رفضوا التعهد له بذلك.لطالما فكّرت وأنا الذي قضيت شطراً من حياتي في باكستان، قارئاً لتاريخها وتاريخ المنطقة، ومغطياً لأحداثها كصحفي، من أين أبداً إذا ما تيسرت لي الكتابة عن المنطقة، لأجد اليوم أن المحطة الحقيقية للانطلاق بالكتابة ربما من ثورة 1857، فهي تحكي قصة ذروة تجرّد المنطقة سياسياً واقتصادياً وحتى أخلاقياً لصالح البريطانيين، مما أرغم الجميع، مسلمين وهندوسا، بالثورة على محتلهم، وبحسب المؤرخ البريطاني أنجوس ماديسون فقد بلغ نصيب الهند -وهي التي كانت تضم (الهند الحالية وباكستان وبنغلاديش وبورما)- من الاقتصاد العالمي 23%، أي ما يعادل نصيب كل الدول الأوروبية مجتمعة. كانت النسبة 27% في عام 1700 عندما جمعت خزانة الإمبراطور المغولي أورنجزيب 100 مليون جنيه إسترليني من عائدات الضرائب وحدها، لكن مع الانسحاب البريطاني من الهند انخفض ذلك إلى 3% من الاقصاد العالمي، والتفسير كان واضحاً فقد موّلت بريطانيا نهضة ثورتها الصناعية من خلال نهبها للهند.

ما تنبأ به جيل السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي بتحكم الشركات المتعددة الجنسيات، كان قد سبقته إليه بريطانيا من خلال الشركة الهندية الشرقية، علماً بأن هذا النهب، سبقه نهب آخر لدلهي، على يد الملك الفارسي نادر شاه عام 1739 يوم نهب جميع كنوزها، وقدّر مؤرخو ذلك الزمان حجم ما سرق بأنه يكفي لإلغاء ضرائب فارس عن السنوات الثلاث المقبلة، وخلّفوا وراءهم 50 ألف جثة في شوارع دلهي.

قامت الثورة الصناعية البريطانية على تدمير الصناعات المزدهرة في الهند، فإن القربان الأول صناعة المنسوجات، وصادراتها، فقد لجأت الشركة الهندية الشرقية إلى تحطيم أنوال المنسوجات في البنغال، وكسروا أصابع أصحابها ليحرموهم من العمل، فيغدو البديل، نقل المواد الخام الهندية إلى بريطانيا، وإمعاناً في تصحير حياة النسيج فقد حرمت الهند من تصدير بضائعها إلى أسواق العالم، وبالتوازاي فقد تلقت صناعة الحرير والموسلين الراقية للمنسوجات البنغالية ضربة كبيرة، وهو ما انسحب كذلك على صناعات كثيرة في المنطقة، بعد أن باتت مدن بريطانيا معملاً بديلاً للصناعة الهندية.

صوّر ويل ديورانت صاحب كتاب قصة الحضارة الذي زار الهند في تلك الفترة الوضع قائلاً: (إن المتخلفين عن دفع الضرائب حُبسوا في أقفاص، وتعرضوا لأشعة الشمس الحارقة، وباع الآباء أطفالهم، لمواجهة ارتفاع الضرائب، فعدم تسديد الضرائب كان يعني التعرض للتعذيب حتى الدفع، ومصادرة أرض الضحية البائسة من قبل البريطانيين. لقد خلقت شركة الهند الشرقية، لأول مرة في التاريخ الهندي، فلاحاً بلا أرض، محروماً من مصدر رزقه الطبيعي).

ولكم أن تتخيلوا منافسة تجار جشعين لإمبراطورية عريقة حينها بحجم المغول، وهو ما عبر عنه ويليا بولتس، وهو تاجر هولندي عمل لسنوات في شركة الهند الشرقية عام 1772 يقول: «الشركة لم تكن أقل من حكم الأقلية الاستبدادية للتجار، الذين اغتصبوا مكانة الملوك.

وعلى الرغم من تأكيدات الملوك البريطانيين بعد ثورة الاستقلال الهندية 1857 بأنهم سيفسحون المجال للهنود بالمشاركة في الحكم إلا أنه ووفقاً لديورانت الذي زار المنطقة فقد توصل في سِفره (قصة الحضارة) بأنه حتى عام 1930 لم يكن يشغل سوى 4% من الهنود وظائف التكليف في الخدمة المدنية الهندية، التي نعتها لاحقاً نهرو بأنها لم تكن هندية ولا مدنية ولا خدمة. طوال فترة الاحتلال البريطاني للمنطقة، لم يكن الإنجليز ينظرون إلى الهنود بأفضل مما كان ينعتهم به تشرشل: «أنا أكره الهنود، إنهم شعب وحشي على دين وحشي»، وأسهب بوريس جونسون في كتابه الشهير عن حياة تشرشل فتحدث عن حياة الإنجليز في الهند: (لقد وضع نفسه على رأس حركة الرومانتيكيين المدافعين باستماتة عن راج وعن الحق الإلهي الذي أُنعم به كل كل خنزير إنجليزي يجلس في شرفته ويتنعم بثروات الهند).

كانت الهند بتعبير مؤلفي كتاب “لماذا تفشل الأمم؟” أسيموغلو وروبنسون، عبارة عن مستعمرة استخراجية، على مستوى الأخشاب التي أنهت غابات ضخمة في الهند، لتصدر إلى بريطانياً لاحقاً، كما تم قلع الأشجار من أجل زراعة الشاي والخشخاش، وحتى أن المياه الجوفية لم تسلم من العبث البريطاني، حين زرعوا أشجار الكينا، مما أضرّ بالمياه الجوفية الهندية.


أحمد زيدان | إعلامي وكاتب سوري
اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل