لماذا فشلت ثورة 1857 ضد البريطانيين في شبه القارة الهندية؟ 2/6

أحمد زيدان1 يونيو 2025
أحمد زيدان

اللافت أنه في عزّ فترات الوجود البريطاني بالهند، لم يكن فيها سوى 70 ألف جندي أوروبي يحكمون 25 مليون هندي يومها، وهو ما علّق عليه ستالين أنه “من السخف أن يحكم بضعة مئات من الإنجليز الهند كلها”. لكن ربما ما ساعدهم، تعزيز تقسيم الطبقية الهندية، والتي كانت حتى مجيئهم تُدار من قبل المغول المسلمين، لتأتي ثورة 1857 لتؤطر القومية الهندية وربما لأول مرة، حيث كانت الثورة مزيجاً من الهندوس والمسلمين، ويعتقد بعض المؤرخين أن حرص البريطانيين على استبعاد المسلمين من السرد القومي الأساسي، ساعد التفسير الاستعماري البريطاني للتاريخ الهندي في القرن التاسع عشر على ولادة نظرية الدولتين في تقسيم البلاد، ويرى باحثٌ هنديٌ معروفٌ، يدعى جيانيندرا باندي أن الطائفية الهندية كانت في جزء كبير منها بناء استعمارياً.

كان الصحفي البريطاني اليساري ريتشارد جوت قاسياً في إدانته لإمبريالية بلاده حين قال: (كانت الإمبراطورية البريطانية في الأساس مشروعاً هتلرياً على نطاق واسع، يتضمن الغزو العسكري والديكتاتورية والإبادة الجماعية والأحكام العرفية والمحاكم الخاصة والعبودية والعمل الجبري، وبالطبع معسكرات الاعتقال وتهجير الناس عبر المخحطات).

الظاهر أن هذ الجشع المالي الاستعماري، استحوذ على البريطانيين أكثر من غيرهم، فالمسيحية الصليبية لدى الإسبان أو الفرنسيين طغى عليه الحماس الثقافي والحضاري، أما البريطانيون في الهند فكان الباعث مالياً أكثر من غيره.

نتج عن حكم الراج البريطاني استنزافه لخيرات الهند، موت أكثر من 35 مليون هندي نتيجة المجاعات التي تسبب بها حكم الراج، أو لسوء إدارته لها، كما يقول المؤرخون، وهو ما يذكر بـ 25 مليونا ماتوا في حملة ستالين الجماعية والتطهير السياسي، وبـ 45 مليون ماتوا خلال ثورة ماو الثقافية..

السخرية الأشد هو منع نائب الملك لورد ليتون عبر قرارات مشهورة تماشياً مع سياسة بلاده أي تخفيض في أسعار الغذاء أثناء المجاعة المشهورة، وأضاف النائب حينها أنه لن يكون هناك أي تدخل من أي نوع من جانب الحكومة، بهدف خفض أسعار المواد الغذائية، وأصدر تعليماته إلى مسؤولي المنطقة بعدم تشجيع أعمال الإغاثة بأي طريقة ممكنة، فمجرد الضيق ليس سبباً كافياً لإنشاء أعمال الإغاثة، والأعجب من هذا كله هو اتهامه لمنتقديه البريطانيين بالانغماس في نوبات هيستيرية إنسانية.

الأعجب كذلك هو أنه حين استورد السير ريتشارد تمبل الأرز من بورما عام 1866 لمواجهة مجاعة أوريسا هاجمته مجلة مثل الإيكونوميست لأنه سمح للهنود بالتفكير أن ” من واجب الحكومة إبقاؤهم على قيد الحياة”. لكن لم تكن الإيكونوميست شاذة في ذلك، إذ كتبت الديلي ميل عام 1897: (يقع على عاتقنا الدفاع عن إمبراطوريتنا من جيوش الأشباح الجائعة، سلاحنا هو أموال بريطانية جيدة ونظيفة). ومع هذا لم تعدم البلاد من أصوات في البرية حين أسفت صحيفة التايمز البريطانية وبشدة لتدخل نائب الملك وقمع دوافع الأعمال الخيرية الخاصة، وندد كتابها بسياسته القائمة على الإغاثة من المجاعة بدوافع اقتصادية فحسب.

فبينما “كانت لندن تأكل خبز الهند، كانت الأخيرة تموت جوعاً” بحسب تعبير الأستاذ مايك ديفيس وهو كاتب ومؤرخ أمريكي وناشط سياسي عاش في منتصف القرن الماضي.

رضخ ليتون أخيراً للصندوق الذي جمعه الأفراد والمدارس والكنائس في العالم البريطاني، وسعى إلى تنظيم التوزيع من خلال إدارته، مرغماً نتيجة الضغوط الإعلامية والمجتمعية البريطانية، وهو الذي وصف الصندوق، بأنه مصدر إزعاج كامل.

اختصر رئيس تحرير مجلة كلكتا عام 1906 المشهد قبل وصول البريطانيين بقوله: (عندما جاء الإنجليز إلى الهند، كان هذا البلد زعيم الحضارة الآسيوية، ومركز الضوء بلا منازع في العالم الآسيوي. لم تكن لليابان أي مكانة. والآن بعد خمسين عاماً، أحدثت اليابان ثورة في تاريخها بمساعدة الفنون الحديثة المتقدمة، ولا تزال الهند، بعد 150 عاماً من الحكم الإنجليزي محكوماً عليها بالوصاية).

كانت الإيرادات السنوية للإمبراطور المغولي أورنجزيب (1707- 1618) قبل الحكم البريطاني هائلة، وذلك بعيداً عن عائدات الضرائب الضخمة. لقد بلغ إجمالي دخل مملكته 450 مليون دولار أي أكثر بعشرة أضعاف من دخل لويس الرابع عشر المعاصر له.

كانت أجواء الغضب الشعبي متلبدة، ليس وسط المسلمين، وإنما حتى وسط الهندوس، بعد أن تعرّض الطرفان لاستهداف دينهم من قبل البريطانيين، فدهن المحتل خراطيم الخرطوش والتسليح بدهن الخنزير والبقر، مما شكل لحظة فارقة في اجتماع السيبويين، الذين يشكلون أساس جيش الشركة البريطانية الشرقية، فأعلنوا تمردهم في الأول من مايو/ أيار، وشنوا هجوماً على دلهي مركز قيادة القوات البريطانية، ونائب الملكة، كان قوما 20 ألفاً من قوات السيبويين، ومعهم أربعة آلاف من قوات المجاهدين الذين عُرفوا بـ الوهابيين بزعامة المرشد الروحي سرفراز خان علي، ومعه القائد العسكري المعروف بخت خان.

أمضى العالم سرفراز خان المعروف بإمام المجاهدين في حينه، سنوات عدة في دلهي، وكان على اتصال جيد بالبلاط المغولي، فأعلن الجهاد ضد القوات البريطانية، وقد سبق تحريضه هذا ثورة 1857، وينقل عنه كل من عاصر خطبته الشهيرة في الأول من مايو/ بمنطقة شاه دهان بور والتي خاطب فيها جمهوره المحتشد أمامه: (لقد أصبح ديننا في خطر، بعد أن فقدنا سيادة الأرض، وانحنينا خاضعين للغرب الكافر النجس، لكن الآن، هل سنتنازل عن الامتيازات التي نلناها عن النبي عليه السلام).

تلقى سرفراز تعليمه في مدرسة المفتي صدر الدين أزوردا، والمسماة بـ “دار البقعة” وبفضل تعلمه الجبر والهندسة، أصبح من أبرز علماء دلهي، وقد أثنى عليه العلامة أحمد خان كواحد من ألمع جواهر التاج الفكري في دلهي، وتتحدث الروايات التاريخية بأن سرفراز هو من أقنع بخت بالانضمام للثورة، ليتحول الأخير لاحقاً إلى تابع له، ويدين له بالسمع والطاعة.

كانت القوة العسكرية والمعنوية لجيش المجاهدين ضخمة في العدد والعدة وعلى مستوى الجانب الأخلاقي المعنوي، يتحدث عنهم مراسل صحيفة التايمز البريطانية المعروف يومها ويليام هوارد راسل: (كان الغزاة في الغالب رجالاً حسني السلوك، وكبار السن، ذوي لحى خالطها الشيب، يرتدون العمائم الخضراء، وكان كل واحد منهم لديه ختم فضي منقوش عليه نص طويل من القرآن. جاؤوا ورؤوسهم تحت دروعهم، وسيوفهم تومض، وهم يلوحون بها فوق رؤوسهم ويصرخون الدين! الدين! ويرقصون مثل المجانين. ظهر من بينهم رجل شجاع، أخذ يقترب صارخاً فينا بصوت جهوري، وتقدم وسط وابل من الرصاص بشجاعة، ثم خرج جندي شاب من بين أفراد قواتنا، مطلقاً النيران من بندقية بين عيني الرجل، وتبعه بدفعه من خنجره في وجه الرجل المسكين، مما قضى عليه).


أحمد زيدان | إعلامي وكاتب سوري
اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل