لماذا فشلت ثورة 1857 ضد البريطانيين في شبه القارة الهندية؟ 3/6

أحمد زيدان10 يونيو 2025
أحمد زيدان

فكّر سرفراز والقائد بخت بطريقة لكسب شرعية مواجهة الإمبراطورية البريطانية، فلم يجدوا أفضل من أن يذهبا سوية إلى الإمبراطور بهادور، لإقناعه بالانضمام للثورة، وإنقاذ تاجه وامبراطوريته وكرامته المهدورة، لكن الأخير كان في البداية متردداً، نتيجة صحته، إذ بلغ يومها الواحد والثمانين عاماً، وهي حالة صحية لا تتيح له التحرك والعمل والنشاط، فضلاً عن الدافعية والحماس للعمل، وبين زوجته المحبوبة بالنسبة له زينة محل والتي نأت بنفسها وابنها وريث العرش ميرزا جيوان بخت عن الانتفاضة، لقناعتها أنها رهان خاسر، ولا يمكن التعويل عليها، لاسيما وأن هذه الخسارة ستفقدها حلمها الذي طالما داعبها بوصول ابنها المحبوب إلى العرش.

آثرت زينة المحل الخروج من القصر، والابتعاد عن الواجهة، أما الإمبراطور فبعد لقائه سرفراز وبخت خان في القصر، وافق معهما على الدخول في اللعبة، لكن بتردد، ومع هذا منح الدعم والبركة للانتفاضة على مضض، وهو يرى ممارسات خان في القصر المتنافية مع احترام الامبراطور. علم كل من حول الإمبراطور عن حسم أمره في الانحياز إلى الثورة، واستعداء الانجليز، أما بخت خان وهو العسكري المتمرس، فقد وضع خططه العسكرية لإنهاء الوجود البريطاني ليس في دلهي فقط وإنما من البلد كله، فسعى إلى التنسيق مع السيبويين، وكل القوى المتمردة حينها، لكن واجهته عدة مشاكل، كان على رأسها أجندات مختلفة ومتباينة للتمرد، لاسيما بعد أن لمس استباحة بعض عناصر التمرد البلد، وتسببوا في حالة من الفوضى، انعكس في حالة غضب شعبي محلي ضد الثورة، وهو ما أضرّ سلباً الثورة والانتفاضة بشكل عام.

كانت القوات البريطانية تعتمد في ثلثها على قوات مسلمة من البنجابيين والبشتون الذين أتت بهم من باكستان وأفغانستان، لكن هجوم بخت خان وجيشه في التاسع من مايو/ أيار كاد يحسم الحرب، لو أنه عرف بالنتائج التي توصل إليها، فقد أدى ضعفه الاستخباراتي، لوقف الحرب، عند الحد الذي كاد أن يقضي على الانجليز في المنطقة وللأبد، وهنا ظهر للجنود أن بخت لم يفِ بوعده في النصر، فظهرت علامات التذمر وسط السيبويين، الذين يتلقون أوامرهم من جيش يختلف عنهم، وزاد من حالة التذمر امتعاض قائد الجيش السابق للسيبويين ميرزا مغول الذي سلبه هذا المنصب يوم عين الامبراطور بهادور القائد بخت قائداً للثورة.

استمر التذمر حتى التاسع والعشرين من الشهر نفسه، الذي تسلل إلى الامبراطور نفسه، وأقدم على خطوة متسرعة بخت الذي لم يأته بالنصر سريعاً، فكانت الكارثة على المغول، والنجاة للبريطانيين، حيث يسجل أحد قادة البريطانيين تلك اللحظة مشاهداته وانطباعاته فيقول: (عندما كنا بالكاد قادرين على الصمود، توقفت الهجمات، كما لو كان ذلك بفضل العناية الإلهية، ومنح الرب قواتنا الراحة التي هم في أمس الحاجة إليها.)

كانت الثغرة الكبيرة في صفوف الثوار يومها، الضعف الاستخباراتي والأمني، حيث لا معلومات لديهم عن عدوهم، بل وافتقروا حتى لجاسوس واحد، وسط القوات البريطانية، بخلاف ماهو عليه الحال في الجيش البريطاني الذي كان مخترقاً للعظم قوات الثورة، حتى أن زوجة الامبراطور ونجله، كانا يقدمان التقارير السرية لرئيس الاستخبارات في دلهي هدسون، الذي كان ينقل التطورات بانتظام إلى السير روبرت مونتجمري رئيس مكتب الاستخبارات في لاهور مخبراً إياه أن زينت محل كانت: ( من أفضل الجواسيس البريطانيين، وأنها موالية لبريطانيا بشدة، وعرضت مساعدتها في الاستيلاء على المدينة، بنسف جسر القوارب حتى.) ولعل وثيقة أحد الثوار يومها تعكس ذلك حين روى كيف أن قوات الثوار التي أتت إلى القصر لمقابلة الإمبراطور وطلبت منه توفير الطعام لهم، بعد أن مرّ عليهم ثلاثة أيام دون أن يدخل جوفهم شيء من الطعام: ( لم يترك لنا الجوع أي خيار غير أن نتحرر من ارتباطنا بجلالتك، ونعود من حيث جئنا.. يا صاحب الجلالة.. باستثنائك أنت يا صاحب الجلالة، كل شخص في مدينة دلهي، بما في ذلك موظفو القصر، متحالفون مع الانجليز.)

مما ضاعف تحديات الثورة، عجز الثوار عن تقديم أنموذج حوكمي، يجبي الجبايات ويوفر الخدمات، أولاً لتمويل الثورة، وثانياً لكسب ثقة المتعاطفين فضلاً عن المحايدين والخصوم، فانهارت بعد أيام، وفقدت الثورة حاضنتها، بعد تعرض المقاتلين للجوع والفقر، يضاف إليها حالة الفوضى التي اتسم بها تحرك جيش السيبويين.

بالتوازي بدت فتنة دينية تلوح في الأفق علّق عليها المحتل البريطاني آمالاً عريضة في أن تُودي بالجبهة الهندوسية ـ المسلمة التي تشكلت لمقاومة المحتل البريطاني، يوم أصرّ المسلمون على ذبح البقر، وهو معبود الهندوس، فذبحت أربعة أبقار، وهو ما رد عليه الهندوس المتطرفون في جيش السيبويين بشنق الجزارين المسلمين الذين ذبحوا الأبقار.

طلب الامبراطور بهادور من المفتي أزوارد الذي كان شيخاً للعالم سرفراز، نزع فتيل التوتر، وتدخل المفتى، وتوقف المسلمون عن ذبح البقر في العيد الذي كان يصادف الأول من آب، وأرسل أحد قادة البريطانيين يومها رسالة لزوجته معلقاً على ما حدث: « ما حدث يعتبر إهانة للمسلمين، الذين يقاتلون من أجل إيمانهم، ففي هذا العيد، تحت قيادة ملكهم المسلم، لم يُسمح لأحد بالتضحية ولو ببقرة!»

ما خلفته حادثة البقر، شكك الكثيرون من الهندوس والمسلمين بإمكانية التعايش المشترك، فضلاً عن المضي قدماً في ثورة ضد عدو بدا مشتركاً، الأمر الذي بدا جلياً وعملياً، وإن كان متأخراً حوالي قرنين يوم وقع الانفصال بين الهند وباكستان على خلفيات أساسها ديني، فبينما يعبد الهندوس البقر، يأكل المسلمون معبود الأخيرين.

انعكس هذا على حالة ظفر بهادور، الذي غدا انعزالياً، حيث تخلت عنه زوجته، وهي ترى سياساته الكارثية بالنسبة لها ولابنها، أما هو فقد بدا متخوفاً من تداعيات هذه الخلافات البينية بين المسلمين والهندوس، لاسيما وأن حسم الثورة لصالح الثوار على نيودلهي غدا صعباً، وباتت دلهي مهددة بالدمار والخراب إن اندلع الصراع البيني بين الثوار أنفسهم.

أما حالته النفسية، فكانت بين انفصال عن الواقع، وأحلام لم يحلم بها حتى بخت خان وسرفراز نفسيهما، حين كتب في شعر له: (أيا ظفر سنسيطر على لندن قريباً) في حين كان يُسرُّ لجلسائه في نفس الأيام بأنه يائس ويود أن يتوجه إلى مكة ليقضي ما تبقى له من عمر فيها، ومع عجزه عن ترتيب السفر إلى مكة، ثم تخلي السيبويين عنه، كتب يعكس حالة الكآبة التي تنتابه يقول: (هوت السماء فوقنا… لم يعد بإمكاني الراحة أو النوم… الآن رحيلي الأخير هو الشيء الوحيد المؤكد… سواء أكان ذلك في الصباح أم في الليل..).

أما خادمه المخلص حتى النفس الأخير ظهير دهلوي والذي كان قريباً منه فكتب يصف حالته: (كان دائماً في مزاج كئيب وحزين، وكانت عيناه دائماً ممتلئة بالدموع… في المساء كان يذهب ويجلس في التسبيح خانة، وحده، ويلعن الثوار).


أحمد زيدان | إعلامي وكاتب سوري
اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل