مأساة المنفيين قسرا عن الوطن

محمد كريشان7 يناير 2025
محمد كريشان

قد لا يعرفه كثيرون، وربما لم يسمع به البعض إلا بعد رحيله المفاجئ في الأيام الأخيرة من العام الذي ودّعناه… لكنه مشهور في بلده مصر.

محمد فوزي الذي اشتهر باسم محمد باكوس نسبة إلى حي باكوس في محافظة الإسكندرية الذي ولد فيه قبل 52 عاما عرف بمقاطع الفيديو التي يتناول فيها بأسلوب ساخر قضايا الفساد والتضخم وغلاء المعيشة في بلاد النيل وكلها متداخلة بطبيعة الحال مع الوضع السياسي المعقّد هناك.

برز اسمه بعد ثورة 25 يناير 2011، ونعته بعض المواقع المصرية «كأحد الأصوات التي عبرت عن أحلام وآمال الشعب المصري في التغيير حين قدّم محتوى جريئا انتقد فيه الفساد السياسي والاجتماعي، ما أكسبه قاعدة جماهيرية واسعة» وقد زادت شهرته بعد بث حلقة ساخرة أعلن فيها ترشحه للرئاسة عام 2011.

القصة ليست هنا، بل في أن هذا الفنان المصري غادر مصر في أكتوبر 2013 ولم يعد إليها حتى ليدفن فيها فقد وافاه الأجل في قطر. لم يكن هناك أي حكم صادر ضده، ولا شبهة بأنه من «الإخوان» مثلا، ولكنه في كل مرة كان يريد فيها العودة إلى مصر كان أصدقاؤه الخلّص ينصحونه بألاّ يفعل قائلين له بأن «القضية سيتم تركيبها فورا وأنت في المطار» ولم يصدّق ذلك إلا حين تم منع زوجته وابنه من السفر لزيارته.

لم يلتق بزوجته وابنه منذ 2020 ولم يسمح لهما بالسفر إلا بعد وفاته حتى أنهما لم يلحقا بجنازته وحرما من إلقاء نظرة وداع أخيرة عليه.

والسؤال الآن، كم من محمد باكوس في بلادنا العربية؟ كم من فنان أو صحافي أو سياسي يقيم حاليا خارج وطنه ولا يستطيع العودة إليه رغم أن لا حكم صادرا ضده؟ والسبب نشاطهم السلمي في التعبير عن رأيهم سواء كان ذلك في أعمال فنية أو مقالات صحافية أو برامج تلفزيونية أو أي نشاط ناقد لما يجري في دولهم.

كم من فنان أو صحافي أو سياسي يقيم حاليا خارج وطنه ولا يستطيع العودة إليه رغم أن لا حكم صادرا ضده؟ والسبب نشاطهم السلمي في التعبير عن رأيهم سواء كان ذلك في أعمال فنية أو مقالات صحافية أو برامج تلفزيونية

بعد سقوط نظام صدام حسين في العراق إثر الغزو الأمريكي عام 2003، عاد إلى وطنهم المئات بل الآلاف، وكذلك الحال بعد سقوط نظام القذافي، فيما عاد كثيرون إلى تونس بعد سقوط بن علي، فيما غابت هذه الظاهرة عن مصر تقريبا بعد سقوط مبارك لأن الرجل كان يسمح، رغم كل المآخذ، بهامش معارضة لحكمه سواء في الإعلام أو النقابات أو الأحزاب، إلى أن تغيّر الحال هناك بالكامل بعد يوليو 2013 بمجيء السيسي وفي تونس بعد انفراد سعيّد بالحكم بعد يوليو 2021.

أما في سوريا فالحال مختلف تماما فقد ترك البلد زهاء نصف شعبها مشتتين في كل أصقاع العالم، فيما البقية بين نازح وسجين وقتيل ومغلوب على أمره. وحين سقط حكم آل الأسد، الذي أرادوه أن يكون إلى الأبد، عاد إلى الوطن الآلاف وهم لا يصدّقون أعينهم أن هذه اللحظة التاريخية قد حلّت فعلا وهم على قيد الحياة ومتحسّرون على من اختطفه الموت قبل أن ينعم بها. رأينا مثلا الصديق الصحافي تيسير علّوني وهو يعود إلى دمشق بعد أربعين عاما ليلتقي بأخواته الذين كان احتضنهم آخر مرة قبل أكثر من عشرين عاما في زيارة لهم إلى الخارج، فيما رأينا ذلك الفيديو الذي يصور العناق المؤثر للغاية بين الابن الذي قضى خمسين عاما خارج سوريا وأمه التي تجاوزت المائة عام لكن الله كتب لها أن تحتضن فلذة كبدها بعد كل هذا الغياب الرهيب.

وتبقى القصة الأقسى في سوريا للعائدين إلى وطنهم هي تلك الخاصة بالناشط السوري المعارض مازن حمادة الذي اعتقله النظام مع بداية الثورة عام 2011 عدة مرات قبل أن يطلق سراحه بعد سنوات من الاعتقال والتعذيب ليتوجه إلى أوروبا ويحصل على اللجوء في هولندا، لكنه قرر فجأة العودة إلى سوريا بعد 4 أعوام في المنفى ليجدد النظام اعتقاله وتتكرر مأساة التعذيب الوحشي وقد عثر على جثته في سجن صيدنايا سيئ الصيت بعد سقوط النظام.

كان حمادة قد أمضى زهاء 3 سنوات في سجون الأسد، وبعد إطلاق سراحه عام 2014، قدم شهاداته التفصيلية في أنحاء العالم على التعذيب الذي تعرض له في سوريا، وكان مساهماً في إجراءات دولية لمحاكمة نظام الأسد، قبل أن يقرر عام 2020 العودة إلى دمشق حيث اختفى فور وصوله إلى المطار.

طبعا كان هناك من بين الغائبين عن بلدهم والمحرومين من العودة إليه من تعلّقت بهم قضايا وأحكام، بغض النظر عن وجاهتها وعدلها، لكن المشكل هو في هؤلاء الذين لم تكن لهم مثل هذه القضايا، ولا هم بالفارين من العدالة، إذا كان لمفردة العدالة من معنى هنا. هم ببساطة لم تكن لديهم «الجرأة» للعودة، لا لشيء سوى أن لا ثقة لهم في قضاء بلدهم ولا أمنييه ولا سياسييه ولا شيء يدمّر أي سلطة أكثر من عدم ثقة أبناء شعبها فيها.


محمد كريشان | كاتب وإعلامي تونسي
اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل