كاينابريس – أحمد رمضان(*)
لم يكن هدف هنري كيسنجر حماية أمريكا بقدر اختراق منظومتها، فبعد أن حصل على جنسيتها عام 1943، وصار مستشارا لأمنها القومي عام 1969، ثم وزيرا لخارجيتها بعد ذلك بأربع سنوات، لم يكشف دوره في حماية إسرائيل وأنظمة حولها إلا بعد نصف قرن عندما خطَّ مذكراته؛ فماذا فعل رجل إسرائيل الأول في الإدارات الأمريكية؟
كانت علاقات كيسنجر مع حافظ الأسد وثيقة، ورتب معه اتفاقية فصل القوات عام 74، والتي ضمنت حماية حدود الدولة العبرية 50 عاما، فلم تطلق رصاصة تزعج تل أبيب، وعام 76 نسق اتفاقا ثلاثيا بين الأسد وواشنطن وتل أبيب، أتاح لجيش النظام السوري دخول لبنان وضرب القوى الوطنية وقوات الثورة الفلسطينية، والمشاركة عامي 82 و83 بإخراج منظمة التحرير من لبنان، وعُرف بدفاعه عن الأسد أمام الكونغرس الأمريكي، ووصف دوره بأنه “بنَّاء ومسؤول”، ولعب دوراً كبيراً في توفير الحماية لنظام دمشق بعد ارتكابه مجزرة حماة وسط سورية عام 1982 (ذهب ضحيتها 40 ألف مدني).
ما فعله مع حافظ الأسد الذي التقاه 15 مرة خلال 34 يوما، قام به مع أنور السادات، وأبرم اتفاقية لفصل القوات (1974)، دفعت الرئيس المصري لزيارة القدس عام 77، وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد بعدها بسنتين، وتحييد مصر في الصراع العربي الإسرائيلي، وبالتالي ضمان أمن الدولة العبرية من خلال أهم دولتين عربيتين لهما حدود معها.
دعم كيسنجر تزويد إسرائيل بجسر جوي من الأسلحة في حرب أكتوبر 1973 رغم تحفظ وزارة الدفاع البنتاغون، وأقنع السادات بالإفراج عن الأسرى من الجنود دون مقابل يشمل انسحاب القوات الإسرائيلية من الضفة الغربية لقناة السويس.
أيَّد غزو العراق سنة 2003، وقدم النصائح لإدارة بوش الابن، معتبرا أن الانتصار يجب أن يكون خيارها الوحيد، وصمت عن كذبة أسلحة الدمار الشامل التي روَّجت لها الإدارة الأمريكية، وتسليمها العراق فيما بعد لإيران والميليشيات التابعة لها.
انحاز لأنظمة الاستبداد، وعارض مطالب الشعوب العربية بالديمقراطية عام 2011، وحذر الإدارة الأمريكية من دعم الحراك، وكان واضحا أنه يرى في ذلك خطرا على الدولة العبرية ومستقبلها، ومصالح الولايات المتحدة التي ترتكز على التعاون مع أنظمة لا تستند إلى دعم شعبي ويمكن الضغط عليها.
ردا على أحداث 7 أكتوبر، أيَّد كيسنجر العنف الإسرائيلي المفرط بحق المدنيين الفلسطينيين، واعتبره مبررا، رافضا وقف إطلاق النار، واصفا إياه بأنه “أمر مستحيل”، ولم يبد أي اعتراض على ما ارتكبته قوات الاحتلال من مجازر، بما في ذلك قتل أكثر من 6 آلاف طفل فلسطيني، من أصل 15 ألف شهيد، و7 آلاف مفقود، و36 ألف جريح.
ورغم أنه مهاجر، إلا أنه بدا معاديا للسماح بهجرة عرب ومسلمين إلى أوروبا وأمريكا، وقال لشبكة “فيلت” الألمانية إنه “كان من الخطأ الفادح السماح بدخول عدد كبير من الأشخاص (المهاجرين) من ثقافات وأديان ومفاهيم مختلفة تماما، لأن ذلك يخلق مجموعة ضغط داخل كل دولة تفعل ذلك”.
احتفظ كيسنجر بسره الكبير نصف قرن، وهو أنه عندما ساعد إسرائيل عقب حرب أكتوبر 73، إنما فعل ذلك بوصفه يهوديا حريصا على أمنها، وليس بوصفه وزير خارجية الولايات المتحدة، وهو ما عجز أنتوني بلينكن عن إخفائه سوى لـ48 ساعة، عندما وطئت قدماه مطار بن غوريون عقب هجوم 7 أكتوبر، وقال إنه يدعم الدولة العبرية ليس كوزير خارجية، بل كيهودي أيضا.
رحيل كيسنجر عنوان لنهاية مرحلة، تتراجع فيها السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط على نحو متسارع، في وقت تتغير فيه المعادلات وقوانين الاشتباك، وتبدو الشعوب في مرحلة النهوض واستعادة الدور المأمول.
(*) كاتب سوري، مدير مركز لندن لاستراتيجيات الإعلام.